تبدو المدينة الحمراء هذه الأيام خارجة للتو من انفصال معلن عن تقاليد المغاربة الأولين.. بمراكش انتهى زمن «النفار» وحلويات كبار صناع الحرفة التي كانت تتناقل من جيل إلى جيل، وانقطع حبل السرة الذي كان يجمع المراكشيين مع ظلمة وروائح «الفرناطشي» حاملين إليه «طنجياتهم» الطينية المملوءة بألذ ما صنعته أيدي الطباخين المغاربة. نسوة مراكش اللائي كن يحملن حلوياتهن إلى فرن الحومة، واللائي كن يقصدن المساجد والحمامات الشعبية في تسارع للخطوات ويحضرن موائد إفطار أسرهن بكثير من الإبداع والحب لمهمتهن، لم يعد بإمكان الزائر والقاطن لمراكش هذه الأيام أن يجدهن إلا في صور ومشاهد نادرة مازالت تقاوم الاندثار بأحد دروب المدينة القديمة من زاوية الحضر إلى المواسيين والقصور وباب دكالة. مراكش اليوم التي تعيش رمضان بمقاه ممتلئة بالنهار وبمطاعم مزدحمة في الليل، وحيث تعج الأجنحة الخاصة للأسواق الممتازة بقنينات الخمر، ليست مراكش الأمس التي كانت تلبس جلباب التقوى بكثير من المظاهر المحلية والتقاليد الخاصة التي جعلت رمضان مراكش في ما مضى حالة اجتماعية ونفسية وثقافية رفيعة تأخذ الصائم إلى عوالم التصالح مع فضاءات الصوفية التي كانت تنطلق من زوايا المدينة ومساجدها العتيقة، وتعيد إنشاد ما ورثته الأجيال من أروع وأعذب ما في أشعار الإمام البوصيري وابن النحوي الأندلسي، من البردة والهمزية إلى المنفرجة، وأدعية الجزولي في كتابه «دلائل الخيرات». يبدو أن قصة لالة عودة، والدة السلطان السعدي المنصور الذهبي، التي راودتها نفسها ذات يوم على أكل خوخة بحدائق قصر البديع، قبل أن تستغفر ربها وتوقف أموالها على جماعة «النفارة» كي ينفخوا في آلاتهم كل يوم من أعلى منارات مساجد المدينة لتذكير الخلق بضرورة الإمساك عن الشهوات حتى في عز حر مراكش.. يبدو أن هذه القصة أصبحت سارية المفعول في زمن مراكش الحاضر. فبحي كيليز الراقي، وبجوار مدارس البعثة الفرنسية، تمتلئ المقاهي بالأجانب وبمغاربة يمثلون دور الأجنبي في مسرحية اسمها: «نادي على قهوتك وولع سيجارتك في عز النهار والباقي لا يهم»، أما المطاعم فلا فرق بين عدد زبائنها بالليل كما بالنهار، فيما قنينات الخمر تصطف وجها لوجه مع الحليب في الأسواق الممتازة التي يدخلها الأجنبي ويشتري منها ما لذ له، وبعد ذلك يصطف معك، أنت الصائم، أمام صندوق الأداء، ولا ضرر أن تلمس قنينة «الويسكي» تمرك وبيضك الذي ستفطر به بعد يوم من الصيام. وفي الأيام القليلة الماضية كنت قبل أن تخرج من رحلة تبضعك، تأتيك رسالة قصيرة على هاتفك النقال الذي تشترك فيه مع شركة «اتصالات المغرب»، تخبرك بأنه عليك أن تدعم وتصوت على مرشح حزب الأصالة والمعاصرة، فتقول مع نفسك: «ليست لالة عودة وحدها من راودتها نفسها في مراكش شهر الصيام، ها هو الهمة بعد 6 قرون تراوده نفسه، فيستبدل الخوخة بالهاتف لمراودة أهل مراكش عن أنفسهم، فقط ليحملوا مرشحه إلى مصاف كراسي البرلمان، مع أنه لم يسبق لك أن أعطيت رقم هاتفك إلى حزب استبدل الجرار ب«الكات كات» ودخل هواتف العباد في عز رمضان من غير استئذان».