تحولت مراكش إلى شبه مقاطعة فرنسية، فلا تخلو برامج التلفزيون الفرنسي ولا مجلات مشاهيرها من صور وأخبار عن مدينة أدهشت الفرنسيين بعد استقلال المغرب أكثر مما كانت عليه أيام زمن الحماية، لما كان تشرتشل وروزفلت وإيديث بياف وأورسون ويلس والجنرال دوغول وكوليت يأتون إليها ناعمين بهدوء فندق المامونية الفاخر والمقابل لقمم جبال الأطلس. بمراكش اليوم هناك انطباع جماعي بأن الأجانب أصبح لهم نصيب كبير من كعكة القرار المحلي، حتى إن هؤلاء وصلوا إلى حقيقة أن المسؤولين عندنا يفضلون لو تكفل الأجانب حتى بتلقيح أطفالنا كما كان عليه الحال أيام زمن الإقامة العامة، ف«هل تعتقدون أن يوسف بن تاشفين الذي بنى مراكش ورجلاه في الطين مع عماله كان سيرضى أن تأتي شركة أجنبية إلى مدينته لتجمع أزبال أهلها؟»، هكذا علق أحد المراكشيين بمكر الوعي التاريخي لديه. بمراكش هناك اليوم جهل كبير لدى الناشئة بأسماء أبوابها، فبعض أبنائها، الذين أصبحوا بفعل بذخ آبائهم يدرسون في البعثات الأجنبية وبالمدارس الخاصة، لا يستطيعون تحديد مواقع أبواب بريمة والفتوح والشارية والنقب والدباغ والرحى والغرازة وتاغزوت، وحتى ضريح الإمام يوسف بن تاشفين لم يعد له وجود في ذاكرة هذا الجيل الجديد. تسير المدينة الحمراء منذ أن زحف على أرضها الإسمنت نحو عمى الاستهلاك والانفتاح والقطع مع الجذور، فالعلب الليلية والكباريهات الراقصة لا تمانع في السماح للقاصرين بالدخول، خاصة لو كانوا من أبناء الأثرياء الجدد، فالواحد منهم، وحتى لو لم يصل بعد سن الحصول على رخصة السياقة، يأتي في واحدة من سيارات الوالد المركونة في المرآب ويصرف في ليلة واحدة من ليالي مراكش الحمراء ما يعادل 4 من رواتب الحد الأدنى للأجور في المغرب. انتهى زمن المراكشي الذي كان يحفظ بفطرة الأولين زجل سيدي قدور العلمي وبنسليمان وبنعلي وقصائد «الشهدة» و«الشمعة» و«الحراز»، ويتأبط جرائده فوق دراجته الهوائية ويستمع في آخر الليل إلى المذياع، فالمراكشي اليوم الذي يركب سيارة بقيمة فيلا سكنية ويجري «المساج» على جسده ويقوم بعمليات شفط الدهون من بطنه، وينتهي في الليل بأحد الكباريهات اللبنانية المنتشرة كالنخيل، ينسى أن المدينة التي أنجبته صوفية في منشئها، لا تقبل بذخ المظاهر. بمراكش اليوم هناك عائلات لا تقوى على ضمان أمن قوتها اليومي، وفي المقابل هناك سيولة مالية خيالية تضخ في صناديق تجارة الليل والبذخ، حتى إن مئات الفنادق ودور الضيافة والمطاعم تخرج يوميا الأطنان من بقايا الطعام الصالح للأكل إلى مطارح الأزبال، مع أن المدينة لا تعدم آلاف البطون الفارغة والجائعة... فالغنى لما يصير متوحشا يفقد، مع رائحة الأوراق النقدية، ذاكرته، «فأحيانا تبدو مراكش منفلتة من المغرب»، هكذا علقت مؤخرا مجلة «غالا» الفرنسية على واقع حياة الليل في المدينة الحمراء.