في أول خطاب له بعد توليه عرش المغرب، قال الشاب محمد الخامس يوم 17 دجنبر 1927: «لقد اجتمع أهل الحل والعقد من وزراء وشرفاء وأعيان وعلماء من أهل فاس وأحوازها، ومن انضم إليهم من وفود المدن والثغور بقصد النظر في مبايعة من يقوم بأعباء الخلافة الإسلامية... فانعقد الإجماع على مبايعة جنابنا الشريف...». لم يكن في خطاب الشاب محمد الخامس أي ذكر للاستعمار الفرنسي، بل كان في أول خطاب له إشادة ب«جنرالات الجمهورية الفخيمة» -على حد تعبير كاتب الخطب آنذاك- الذين شاركوا في جنازة والده ابن يوسف... أكثر من هذا سنة 1939، وجه محمد الخامس رسالة إلى رعيته يطلب فيها دعم المغاربة لفرنسا في حربها العالمية الثانية، ومما جاء في هذا النداء السلطاني: «هذه فرنسا الصديقة التي لم تأل جهدا في الحفاظ على السلم قد اتخذت اليوم أهبتها للدفاع عن شرفنا وشرفها، ومجدنا ومجدها، ومستقبلنا ومستقبلها، فلهذا وجب الحفاظ على العهد المتين بيننا... يجب علينا أن نبذل لها الإعانة الكاملة غير محاسبين ولا باخلين... فقد كنا معاهدين لها في ساعة الرخاء، ومن الإنصاف أن نشاركها اليوم في ساعة الشدة». هكذا قدم النداء السلطاني حرب القوى الكبرى على النفوذ والمصالح في أوربا على أنها حرب للدفاع عن شرف المغرب البلد المحتل. شارك المغاربة في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الجيش الفرنسي ضد ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. لكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يأخذ المغرب شيئا من فرنسا، وهنا بدأ التحول لدى محمد الخامس. فرنسا ضعفت، وأمريكا وبريطانيا بدأتا تؤيدان استقلال المغرب، والوطنيون بدؤوا يتصلون بمحمد الخامس، أكثر من هذا استشاروا معه قبل توقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 44، ويقول بعض المؤرخين إنه شجعهم على الأمر، لكنه لم يضع توقيعه على الوثيقة حتى لا يدخل في صراع مباشر مع الإقامة العامة. في لقاء أنفا الذي جمع دوغول وروزفلت وتشرتشل، تلقى محمد الخامس وعودا من قبل الحلفاء المنتصرين في الحرب بمساعدة بلاده على نيل استقلالها، ومنذ ذلك الوقت تحول سلوك السلطان محمد الخامس تجاه الفرنسيين. بدأ يجادل في توقيع الظهائر التي يوجهها إليه المقيم العام، وبدأ يدافع عن شعبه في حضور الفرنسيين، وكان يغضب من قمعهم ويعتكف في غرفته ولا يخرج لمقابلة الناس. في المقابل، كانت سلطات الحماية تحرض باشا مراكش التهامي الكلاوي و«العالم» عبد الحي الكتاني ضد محمد الخامس. مرة قال الفرنسيون لمحمد الخامس: «إننا من يحميك من غضب القبائل، ولو تخلينا عن حراسة قصرك فستهجم القبائل عليك»، أما الكلاوي فلم يكن يتردد في التهكم على محمد الخامس وتهديده، ولم يكن هذا الأخير يرد عليه لطابع الحياء الذي كان يسم شخصيته... تحول السلطان، الذي اختاره الفرنسيون من بين إخوته ليكون «لعبة» في أيديهم، إلى سلطان متمرد، يرفض توقيع الظهائر، ويلتقي بمبعوثي حزب الاستقلال، ويؤيد مطالب جلاء الاستعمار... في سنة 53، ضاقت الحماية ذرعا بالسلطان، وأصبحت عصبية أكثر من ازدياد المطالبة بالاستقلال وتزايد أعمال المقاومة، وتغير الموقف الدولي وأصبحت أمريكا تعارض الاستعمار الفرنسي لدول المغرب العربي... صباح 20 غشت 53، دخل المقيم العام على محمد الخامس وأخبره بنبأ قرار فرنسا عزله عن عرشه ونفيه خارج المغرب. كان محمد الخامس يعرف أن فرنسا ساخطة عليه، لكنه لم يتوقع عزله ونفيه خارج البلاد التي ولد فيها وورث عرشها عن أجداده. جمع أمتعته وحاشيته وتوجه إلى الطائرة وليس في نفسه أمل في الرجوع –حسب ما يحكي مرافقوه- صعد مع عائلته إلى الطائرة ونفسه منكسرة، لكن ما لم يكن يتوقعه حدث. لقد خرج الناس تلقائيا، وبتحريض من الحركة الوطنية، للاحتجاج على نفي السلطان، إلى درجة أن الدعاية القوية التي قامت بها الحركة الوطنية في صفوف الشعب لإذكاء المقاومة والاحتجاج صورت ل«العامة» أن صور محمد الخامس تظهر في القمر، وأن معجزة كبيرة حدثت في القرن ال20 لأن سلطان المغاربة المسلمين تعرض لسوء معاملة النصارى الفرنسيين... تحول محمد الخامس من ملك معزول ضعيف بلا نفوذ إلى أسطورة شعبية، وتحول مطلب رجوعه إلى عرشه شرطا أول حتى قبل مطلب الاستقلال... في وسط هذه الفتنة كان علوي آخر يستعد لخلافة محمد الخامس. من هو؟ وما قصته؟ إلى اللقاء...