سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
التطفل واللهاث وراء الربح على حساب الجودة آفتان تتهددان حرفة «القزادرية» في غياب وعاء تنظيمي يؤطرها بعد أن كاد الفتور يطمسها حرفة «القزادرية» تنبعث من جديد
عرفت العديد من المواقع المراكشية عمليات تغيير تكاد تكون مطلقة في بعضها في حين ظل نزر قليل منها يحتفظ بدلالة أصل الموقع. جاء ذلك نتيجة ما تعرفه مراكش من توسع عمراني هو ما بين مؤيد له ورافض، ذلك التوسع الذي لم ينشأ دون ان يمس بكيفية او بأخرى معالم ظلت مراكش تزدهي وتفتخر بها بين مثيلاتها من المدن العريقة. ومن تلك المعالم التي شهدت تلك التغيرات أسواق المدينة العتيقة التي فقدت الكثير من تميزها وبعض المواقع التجارية التي كانت مخصصة لنوع من التجارة. حيث أصبح الطابع المميز لتلك المواقع هو اختلاط أصناف التجارة والحرف بها بشكل ينعدم فيه كل تنسيق او تقارب بين ما يروج بها، فبجانب صائغ الفضة اوالذهب الذي خرج عن سوقي الصاغة (باب الملاح والتكموتيين)نجد بائع الخضروات او الماكولات أو أي نوع من الأنواع التي لا علاقة لها بحرفة الصياغة، كما نجد بجانب بائع الأجواخ الذي التمس رزقا خارج سوق السمارين والقيساريات التي كانت معروفة بتجارة الأثواب، بائع مواد تشكل تهديدا لسلع محل القيساري. ذلك ما صارت عليه التجمعات الحرفية و التجارية بمراكش ، ويقع ذلك تحت يافطة التغيير والتعليل بالقول «تبديل المنازل راحة». غير ان الواقع يكشف عن أشياء اخرى يجدها العديد من أبناء مراكش والمهتمين بالقطاع السياحي الذي صار عصب حركة الرواج ، يجدونها مضرة بالواجهة السياحية للمدينة العتيقة بالذات ومراكش كلها بصفة عامة،حيث يرون بان ما ظل يستقطب السائح ويخلب لبه ويشده لتكرار الزيارة لمدينة الحمراء، هو ذلك التميز الذي كان يطبع أسواقها ورحاب الحرف بها ، وذلك التنظيم التلقائي الذي كان يخضع له التجار والحرفيون تحت مظلات امنائهم الذين كانوا بمثابة الذروع الواقية من التطفل على تجاراتهم وحرفهم ، فكان للصاغة امينهم وللخياطين والدرازين و النجارين والحدادين والطبايلية واللبادين والصباغين والمجادلية والخرازين والروابزية والساعتيين ، وغيرهم من الحرفيين لكل امينه ورحابه ، وكان للبقالة والجزارين والعطارين وغيرهم من التجار امناؤهم كذلك. وكان وجود أولئك بمثابة مدافعين عن أصحاب الحرفة او التجارة من جهة كما كانوا بمثابة حماة للمستهلكين والزبناء ضد اي نوع من الغش او عدم الالتزام بما يربط المستهلك بالتاجر والزبون بالحرفي من شروط، وكان ذلك كله ورغم بساطته ينظم العلاقة بين الزبون والتاجر وهو اول من يحتكم اليه وذلك طبقا لاعراف سائدة وفي حالة العجز يتم اللجوء إلى السلطات، فكان الامين بمثابة الملح في الطعام بالنسبة لأسواق مراكش على اختلاف انواعها وتخصصاتها . وكان لذلك التنظيم البديع ما يجعل السائح يستمتع بتجواله في رحاب المدينة حتى إنه يعود إلى موطنه بعد انتهاء مدة إقامته بمراكش وفي نفسه أشياء تحثه على الرجوع للوقوف عليها مجددا او لاصطحاب من يقف معه عليها. كذلك كانت مراكش التي ليست هي مراكش اليوم التي افتقدت معالم العديد من اسواقها وطابعها المميز الذي طال حتى معمارها الذي صار ضاربا في الاعتلاء إلى درجة حجب رؤية الكتبية عن الداخل إلى مراكش بعدما كانت تتراءى له على بعد عشرات الكليلومترات. ويحدث ذلك في غياب تام لأصحاب تدبير الشأن التجاري والحرفي بمراكش الذين لا يظهر لهم حس إلا في مناسبات إقامة معارض أصبحت تغزوها سلع أجنبية أجهزت بالمرة على الصناعات المحلية. وفي خضم هذه الفوضى التي تتم تحت يافطات متعددة تظل حرف قائمة مقاومة عواصف التغيير حيث عمل إصرار أصحابها وورثتهم على استعادة أمجادها والقفز بها إلى مراتب تضاهي ما تحتله المنتوجات المفبركة تكنولوجيا بل وتتفوق عليها، ومن تلك الحرف حرفة القزادرية « صناعة الأواني والأدوات القصديرية» هذه الصناعة التقليدية التي ارتبطت بعض منتوجاتها باليهود الذين انشأوا لهم سوقا خاصة بهم خارج سور تجمعهم السكاني « الملاح» وتخصصوا في صناعة « القواديس « : القنوات لصرف مياه الامطار المتجمعة بالسطوح وصناعة المشاعل والفوانيس» الفنارات» وآلات تقطير الزهر والأعشاب وأواني وصفائح الحلوى والمداخن .... هذه الصناعة التقليدية كان قد اصابها فتور وليس بوار حيث خفتت حركتها امام غزو المنتوجات القصديرية المصنعة حديثا وغيرها مما عوض القصدير بالأسواق ، غير ان تفتق موهبة الحرفي المراكشي استطاع ان يعيد الضوء إلى حرفة القزادرية وارتبط ذلك بشكل أساسي بالسباق المحموم على امتلاك رياض بمراكش من قبل اوروبين ومغاربة يعشقون تزيين بيوتهم وتأثيث فضاءاتها بمشاعل وفوانيس وديكورات من القصدير ،فعادت الحياة تدب في جسد تلك الحرفة فتطور شكل المشاعل وهندستها،كما ابتكرت أثاثات اخرى ، وأصبح الإقبال متزايدا عليها،بل وأصبحت المنتوجات القصديرية التقليدية مطلوبة للتصدير ، فانتعشت ساحة القزادرية التي كانت قد شهدت إعادة تهييئها من قبل عمالة المدينة في أواخر أيام التقسيم الإداري لمراكش ، فكان ذلك بمثابة فأل سعيد لهذه الحرفة التي تستعيد تدريجيا مكانتها بين اخواتها من الحرف التي كانت قد أوشكت على الانقراض. ويرتبط ذلك الانتعاش بعوامل كثيرة نستقي بعضا منها من رأي واحد من أهل الحرفة كما نقف على بعض المشاكل التي تعترضهم في اتصال مع المعلم سعيد واحد من الصانعين الذين اخذوا الحرفة حسب ما رواه لنا عن ابيه الذي تعلمها على يد صانع يهودي تحول محله حاليا إلى ملحق لدكان العقاقير والصباغة ، يقول : تطورت حرفة القصادرية على المستويين ، مستوى الانتاج الذي تطلب من الصانع الاجتهاد في الابتكار لمواكبة ما تتطلبه السوق حاليا حيث لم تعد حرفة القصادرية منغلقة في دائرة صناعة الأواني المنزلية من مناخل وصفائح الحلوى وقوالبها ومداخن وقنوات صرف مياه الأمطار ،وأدوات نفير كان الأطفال يتسابقون لشرائها في كل رمضان، بل أصبح ما عرفته مراكش التي تحولت إلى قطب سياحي عالمي استقطب عددا من الأجانب الذين تولدت عن زيارتهم الأولى لمراكش رغبة في الاستقرار بها، وهو ما كان وراء حمى التهافت على امتلاك دار أو رياض بها ، وكان وراء تحريك العديد من المهن والحرف التي كاد الانقراض أن يطمسها كحرفة النقش على الجبس والخشب وتدلاكت، وحرفتنا هذه وحرفة صناعة الكراسي التقليدية وحرفة الحدادة التقليدية و صناعة الأواني الفخارية وصناعة القصب غيرها . وكان في ظل هذا الانبعاث الذي عرفته تلك الحرف ان استيقظ اهلها وان شئت قل ورثتها فدخلوا مجال الابتكار لشد الزبون واستقطاب زبناء آخرين عن طريقه، وهو ما كان بالفعل حيث إن منتوجات صناعية و حرف تقليدية أصبحت بفعل الصحوة التي عرفتها تسير في اتجاه غزو اسواق عالمية. أما المستوى الثاني فيتعلق بنوعية الزبناء الذين لم يعد الاقتصار على المحليين منهم بل تعدى ذلك إلى زبناء من أقطار عديدة . ويضيف المعلم السعيد بأن حرفة القصادرية (بالزاي بدل الصاد كما ينطقها المراكشيون)، وفي ظل هذه الانتعاشة تعيش مشاكل عدة منها ما هو مرتبط بالمادة الخام : إذ تضاعف ثمن المتر من القصدير مما ادى إلى تخلي العديد من صغار الصناع عن مضمار المنافسة ، في غياب اي دعم يمكنهم من الاستمرار في كسب قوتهم ، ومنها ما هو مرتبط بتطفل أناس لا علاقة لهم بالحرفة وتسببهم في إذكاء منافسة يمكن القول بانها غير شريفة، وانها مضرة بسمعة الحرفة وما لها من مكانة عالمية حيث طغى هاجس الربح والجشع وهو ما أدى إلى انعدام الجودة ، وكثير من أصحاب الشكارة أصبحوا يصدرون متوجاتنا التي يعملون على ان تكون كلفتها أقل ولو على حساب الجودة ليتمكنوا من تحقيق أرباح لا ننال منها إلا الضرر الذي يتهدد حرفتنا التي تشكو من غياب اوعية تنظيمية يمكنها ان تحصنها من كل عيب أو تطفل يترتب عنه إقصاؤها من الأسواق العالمية. جانب آخرتفتقر اليه هذه الصناعة هو غياب روح المبادرة المقاولاتية وما يطبعها من مساطر وتنظيمات تكفل في ذات الوقت حق المنتج والمستهلك ، فعدد من الصناع التقليديين ضاع رأسمالهم جراء عدم وفاء زبنائهم بما تعاقدوا معهم عليه، حيث يتم ذلك التعاقد بالكيفية التقليدية ويكون تنصل المشتري الذي يكون قد تقدم للصانع بطلب إنجاز عدد ما من المنتوجات أيسر مما يتصور ، وقد يحدث في حالة ما إذا وفى أن يضع الصانع بعد إنجاز ما طلب منه أمام الأمر الواقع فيخصم مبالغ هامة من المتفق عليه، فلا يجد الصانع المسكين بدا من الإذعان حتى لا يضيع كل ماله وجهوده.ومن جانب أخر قد يتعرض الزبون في ظل نفس الوضع إلى عمليات نصب واحتيال أو غش أو تنصل من المتفق عليه، وقد حدث ذلك وكان له تأثير على سمعة الحرفيين ،فحين يتضرر الصانع يتحمل وحده تبعات ذلك، اما إذا تضرر الزبون فإن التبعات يتحملها كل الصناع لكون التهمة تصيب كل الحرفة، ومن تم وجب إيجاد حلول منها إنشاء تعاونيات وجمعيات يكون عملها متجها إلى تاطير الصناع وحماية مصالحهم من جهة والنهوض بالقطاع إلى ما هو ارقى كما يجب ابتعاد المتطفلين على مقاعد تمثيلية للصانع . ومن المشاكل الأخرى التي يعاني منها القزادرية، غياب انخراطهم في صندوق الضمان الاجتماعي ، وهو ما يجعل ارتباط الصانع بالحرفة موقوفا على صحته وإذا ما حدث ان خذلته الصحة أو تعرض لحادث يحول دونه ودون العمل ولم يكن له من يقوم مقامه من الأولاد آو المساعدين الأوفياء فإنه يركن على الهامش ويصير وعائلته عرضة للضياع. أما عن الفضاء الذي تقع به محلات القزادرية فيقول السعيد ،إنه فضاء جميل يختلف كثيرا عما كان عليه، ويجعل من حرفيي هذه المهنة فئة محظوظة بالمقارنة مع زملاء لهم في الحرفة بسوق الخميس ، حيث يمكن جمال الفضاء هذه الفئة من شد الزبناء إلى زيارة محلاتهم ، غير ان ما يعاب على ذوي الشأن المحلي هو تقاعسهم في الاعتناء بمثل هذه الفضاءات التي تطلب تأهيلها ميزانيات ضخمة و لا يلتفت إلى الاعتناء بها إلا حينما تكون هناك زيارة خاصة لضيوف على مراكش أو لغاية في نفس يعقوب. كما ان غياب لافتة تشير إلى فضاء القزادرية يجعل الكثير من زوار مراكش لا ينتبهون لوجودنا. سيظل السعيد منهمكا بإضفاء مسحة على منتوجاته التي تتحول من صفائح قصدير إلى تحف فنية رائعة في انتظار حلول زبون مشدود ومهووس بسحر ما تبدعه يده ، حاملا هم الفضاء الذي امتدت إلى باحته طاولات محلات المأكولات تلك المحلات التي تتنامى كالفطر وكأن الشغل الشاغل - كما قال- هو الأكل. سيظل السعيد صانعا مبدعا يقتات مما يبتكره من منتوجات تخلب الألباب ، في انتظار أن يتم الالتفات إليه وإلى أمثاله من الحرفيين لحماية حرفته من كل ما يهوى بها ويتسبب في بوارها.