على عكس مما يعتقد، فلم تعش آسفي تحت الاحتلال الفعلي للبرتغال سوى ما يقارب 33 عاما ابتداء من 1508م حتى سنة إخلائها في 20 أكتوبر 1541م بعدما استخلصت من قبل السعديين القائمين وقتها على مملكة مراكش، وكان خروج البرتغال بصفة تلقائية من آسفي على خلفية ضغط الأحداث بمنطقة السوس بحصن أكادير، وهو الأمر الذي توقفت عنده العديد من الدراسات المغربية والبرتغالية وفصلت في أحداثه وخلفياته الاقتصادية والعسكرية التي جعلت البرتغال يغير بوصلة سياسته التوسعية الخارجية نحو وجهة أخرى باتجاه الساحل الإفريقي وأمريكا اللاتينية. لقد استبق التواجد البرتغالي على ساحل المراسي والثغور الأطلسية، تواجد مغربي بالبرتغال، وهو الاسم الذي أطلقه العرب على مدينة في مصب نهر دورو ثم أصبح يطلق فيما بعد على مملكة البرتغال، وتفيد الوثائق التاريخية في هذا الصدد بأن لشبونة كانت تابعة للخلافة الأموية في عام 1009م، وشهدت البرتغال أيضا تواجد ثم سقوط الحكم المرابطي، بعدها حاول السلطان أبو يعقوب يوسف الموحدي استرجاع البرتغال إلا أنه انهزم بأسطوله أمام لشبونة ومات جراء جراحه، وسيفقد المغرب بعد ذلك كل أثر لتواجده في الغرب البرتغالي. لقد أجمعت كل الدراسات والمراجع التاريخية على قياس التواجد البرتغالي بالمغرب في حدوث ثلاثة قرون على شكل حركة توسعية منظمة ومدروسة ومخطط لها بأهدافها العسكرية والاقتصادية، فسيشهد المغرب مع سنة 1415م وصول أسطول بقيادة يوحنا الأول مركبا من 220 قطعة إلى سبتة، وبعد وفاته ستحتل طنجة سنة 1437م، وخلال ولاية الملك ألفونص الخامس سيقرر احتلال القصر الصغير عام 1458 وسيصل حتى أنفا التي هاجمها سنة 1472م، وبينما كان المغرب يعيش نزاعات على الحكم بفاس احتل ألفونص أصيلا في 24 غشت 1471م. ومع عام 1486م، خلف يوحنا الثاني ألفونص الخامس وبسط نفوذه على أزمور وبعده جاء خلفه إيمانويل الأول ليتوسع جنوبا نحو ساحل آسفي التي لم تكن حينها سوى مرسى المغرب باعتبارها المنفذ الأطلسي لمملكة مراكش أيام السعديين، ولو أنها كانت مستقلة الحكم عن فاسومراكش وعاشت دخول البرتغال وتوسعهم وبعد ذلك احتلالهم تحت قيادة حكم محلي برئاسة عائلة آل بني فرحون وبعدهم تحت رئاسة يحيى بن محمد أوتعفوفت أمير ناحية آسفي تحت حكم وإمرة مملكة البرتغال. وقد نقلت العديد من المراجع التاريخية بتفصيل وباختلاف ثانوي في الروايات العديد من فصول هذا المسار وهذه الأحداث، وتبقى المستندات الغميسة في تاريخ المغرب لدوكاستر أحد أهم المراجع الأجنبية قربا ودقة في نقل المعلومات والمعطيات، كما نال هذا الموضوع اهتمام العديد من المؤرخين المغاربة وعلى رأسهم محمد بن الحسن الوزان الذي عايش بعض الأحداث ونقلها من آسفي في زيارته لها وهي تحت الاحتلال، هذا بالإضافة إلى باقي المؤرخين المغاربة كالناصري والكانوني والصبيحي والأجانب كجوزيف كولفن وبول بوري وأنطونا وريكار ودونيس فاليرو ودانياس ودوفردان ومارمول كاربخال... هذا دون أن نغفل عددا مهما من الأساتذة الباحثين المغاربة وما قدموه في هذا الباب للجامعة المغربية وللبحث التاريخي الوطني من دراسات وأبحاث ومراجع علمية وأكاديمية. ستشهد منطقة آسفي خلال التواجد البرتغالي عدة أحداث شغب بين قبائل بني ماكر وركراكة والمصامدة والرتنانة، وهو ما دفع البرتغال إلى إقرار نظام الحماية ضمانا لتجارتهم وسهرا على أمنهم، فخلال هذه الفترة سيتكاثف التواجد البرتغالي العسكري والتجاري ومعه ستفقد آسفي جزءا كبيرا من هويتها المعمارية الإسلامية وستلبس المدينة مع هذا التحول ثوبا عمرانيا بمواصفات جديدة وبأهداف تحصينية ودفاعية ودينية. ويذهب مؤرخ آسفي العبدي الكانوني إلى اعتبار السور البرتغالي ما هو إلا ربع أو خمس السور القديم، في إشارة إلى السور الموحدي الذي كان أكبر بكثير من التسوير الحالي الذي ورثته المدينة عن العصر البرتغالي، فكان بناؤه على خلفية أمنية تجعل المدينة في متناول التحكم فيها عبر الأبراج التي أضافوها والأبواب التي استحدثوها ويرتبط كل ذلك بقلعة دار السلطان وبقصر البحر كواجهة دفاعية بحرية مركزية، وامتد التأثير العمراني البرتغالي ليشمل الجانب الديني ببناء الكنائس ككاتدرائية سانت كاترين الحاملة للهندسة الإيمانويلية من خلال النقش على الحجر، وتوج ذلك بقرار بابوي سنة 1499م بإحداث أسقفية آسفي. وقد كان للجانب التجاري دور في بروز اسم المدينة التي أضحت في طليعة الموانئ الإفريقية واكتسبت مكانة رفيعة المستوى ضمن التجارة البرتغالية باعتبارها مركز تصدير وربط بين خيرات إفريقيا واحتياجات الإمبراطورية البرتغالية العظمى. ورغم ما حمله التاريخ من تغيير في العمران ومجد تجاري، عاشت آسفي أيضا أحداثا مؤلمة كانت نتاج تفاعل قرار التواجد الإيبيري الأجنبي مع رفض الأهالي، إلى درجة التنويه الذي صدر عن الملك إيمانويل بخصوص بسالة أهل آسفي في الدفاع عن مدينتهم، وتحفظ لنا المصادر التاريخية تلك الرسالة التظلمية التي بعثها سنة 1509م سكان آسفي إلى ملك البرتغال إيمانويل الأول عبر رسولهم عبد الله اللحياني صحبة يحيى وازنزغ وقد تضمنت شكاوي الآسفيين من انتهاك البرتغال وأعوانهم للحرمات والزنا بالمسلمات وهدم المساجد كجامع القبور وزاوية سيدي بوعلي والجامع الكبير وصومعة الجامع الأعظم وجامع باب الشعبة وجامع باب البحر وجامع ناحية أورير، بالإضافة إلى باقي أعمال النهب والسرقة التي تتعرض له أملاك المسلمين. إلا أن أسوأ تلك الأحداث هو ما ستتعرض له آسفي لحظة إخلائها من قبل البرتغال بعد إحراقها وتدميرها، حتى تنازعت الروايات التاريخية في اعتبارها مدينة مهجورة بسبب ما حدث لها إلى درجة أنها لم تكن تتوفر سوى على أقل من 1500 نسمة قبل جلاء البرتغال بعدما كانت حاضرة ب4000 نسمة حسب تقديرات تلك الفترة. وبخصوص الإرث العمراني البرتغالي بآسفي، فقد سجلت سنة 1510م بداية مسلسل البناء والتحصين الحضري بتسوير المدينة بسور من الحجارة الصفراء المستخرجة من المقالع الشاطئية، كما شيد البرتغال على محيط المدينة 87 من الأبراج وثلاثة أبواب رئيسية (المجاديم والميناء والمدينة)، وتتوفر كاتدرائية سانت كاترين بآسفي على رسومات منقوشة بداخل القاعة الكبرى للكنيسة ترمز إلى المفاتيح الثلاثة لأبواب المدينة، وقد قدر كولفان في كتابه عن آسفي في العهد البرتغالي طول السور البرتغالي بثلاثة كيلومترات، ومن أهم أبراج المدينة هناك برج الخدير وبرج باب الشعبة وبرج ناصر وبرج السلوقية وبرج الدار وبرج الأقواس وبرج البارود... وخلال العشرية الأولى من نظام الحماية الفرنسية بالمغرب، تم تصنيف العديد من المباني والمواقع البرتغالية في عداد الآثار المصنف والتابع حاليا لوزارة الثقافة فقشلة آسفي (بها يوجد البرج الكبير البرتغالي) صنفت بظهير 19 نوفمبر 1920 تحت رقم 423 وأسوار آسفي بظهير 3 يوليوز 1923 تحت رقم 560 والكنيسة البرتغالية صنفت بظهير 21 يناير 1924 برقم 593 وكذلك منطقة الحماية بمحيط قصر البحر بظهير 20 فبراير 1924، وأخيرا موقع البقايا الأثرية للكنيسة البرتغالية بدرب سيدي عبد الكريم بظهير 7 ماي 1930، هذا وتتوفر آسفي إجمالا على 11 من المباني والمواقع والمناطق المرتبة في عداد الآثار. والملاحظ أن الإرث البرتغالي بآسفي على الخصوص وبباقي الجيوب الأطلسية (أصيلا وأزمور وحصن فونتي وموكادور ومزكان والمعمورة والقصر الصغير...) لم يلق بعد العناية الثقافية اللازمة في الحفظ والصيانة والترميم والتوظيف الجمالي والمعرفي، وفي حالة آسفي فإن خمسة مواقع مصنفة رسميا لا تترجم حجم وحقيقة الإرث العمراني والهندسي البرتغالي ولا تعكس تقدما في هذا الباب، خصوصا وأن عملية التصنيف توقفت عند بداياتها منذ أكثر من 80 سنة. لقد ساهمت العديد من العوامل البشرية والإدارية والمناخية في الضرر الذي لحق الإرث العمراني البرتغالي المصنف وغير المصنف ومازالت الأخطار تتهدد أكبر معلمة برتغالية وأقدمها قصر البحر الذي تهدمت واجهته البحرية منذ قرابة السنتين ونفس الحالة عاشها برج الناظور الذي استعمل كموقع للمراقبة على مدخل المدينة الشمالي الساحلي، ومازالت العديد من المواقع والمباني لم تسلط عليها بعد أضواء البحث والتصنيف التاريخي كرحى الريح البرتغالي ومدينة سرنو التي كتب عنها مارمول كاربخال وقال إنها على ثلاث مراحل من آسفي وإنها كانت موقعا جهاديا عرف عدة مواجهات بين المغاربة والبرتغال، وتعتبر أنقاضها بمكان المرسى اليوم، وهو التحديد الذي نقله أيضا عبد العزيز بن عبد الله في الموسوعة المغربية بملحق معلمة المدن والقبائل. المرحلة البرتغالية في آسفي تعتبر تراثا تاريخيا يشكل إضافة نوعية رفيعة إلى باقي الإرث العربي والإسلامي وقبلهما الأمازيغي، والفرصة مناسبة أيضا لانطلاق العمل الميداني في الجرد والتصنيف لهذا الإرث ولكل ما يتصل به من معمار مواز كالعمران المدني بالبحث، وحصر كل أثر برتغالي داخل المدينة القديمة وخارجها كالمنازل والدور السكنية، والعمران التجاري كالمخازن ومقرات الممثليات التجارية، والعمران العسكري، فيما تبقى من 87 برجا برتغاليا وتحديد مواقعها (مازال هناك برج قائم حتى اليوم بزنقة الحاج التهامي بحي رحات الريح في زاويته الأولى المتفرعة عن يمين الداخل إليه من زنقة ابن تومرت، ومازالت واجهته الخارجية ظاهرة للعيان والحاملة للهندسة البرتغالية فيما بنيت بمكان حصنه دار لأسرة بلفاسي اليهودية المغربية) وتبيان وظائف هذا العمران العسكري والبحث في ما تبقى من ذخيرة وترسانة السلاح البرتغالي والقيام بأشغال تنقيب برية وبحرية خاصة بحوض المرسى وساحل سيدي بوزيد وبمحيط قصر البحر وساحل أموني، هذا بالإضافة إلى مباشرة العمل العلمي والأكاديمي بالبحث عن وثائق ومصادر تاريخية جديدة كالمراسلات الدبلوماسية والتجارية والاستطلاعية وتقاييد الرحالة والقيام أيضا بعملية ترجمة موسعة للمراجع البرتغالية وللخرائط الجغرافية لتلك الحقبة، هذا مع التفكير في إنشاء متاحف متخصصة وإخلاء المواقع البرتغالية من الأنشطة الإدارية (حالة مندوبية وزارة الثقافة بآسفي) وفتحها في وجه العموم (الأبراج وممرات السور...). وسيكون من المفيد أيضا إعادة تحديد السور الموحدي وترميم ما تبقى منه (هناك جزء من هذا السور متصل بالسور البرتغالي وبأحد أبراج دار السلطان وهو منحدر على ربوة الجهة الشرقية لمقبرة سيدي منصور) وباعتبار أن غالبية السور البرتغالي جاء على أنقاض السور الموحدي ومازال باب الأقواس بآسفي شاهدا على هذه الثنائية التي يحملها هذا الباب بجمالية وبخصوصية هندسية نادرة. آسفي أو تزافين كما كان ينطقها ويكتبها البرتغال تشكل اليوم رهانا ثقافيا وعلميا زاخرا يستدعي الالتفاتة إليه والوعي به والعمل لصالحه، في أفق رفع حالة الهامش وإدماج مكونات المدينة في نسق وانشغال أكاديمي ومعرفي لن يكون إلا مفيدا ومقدما لها ولحاضرها ومستقبل أجيالها.