هكذا وصل المسلمون إلى البرازيل وهكذا استمر الإسلام فيها بكل ثقة وفخر واعتزاز يذكر المسلمون أن أجدادهم الأوائل كانوا قد اكتشفوا أمريكا قبل أن يكتشفها كولومبوس بفترة طويلة، وذلك عندما قطعوا المحيط الأطلسي من الأندلس سنة 1150م، ووصلوا إلى ما يعرف حاليا بالبرازيل، والمؤرخ المسلم الشريف الإدريسي، يذكر أن اكتشاف المسلمين لهذه القارة كان قد تم قبيل هذا التاريخ، وذلك عندما أبحر ثمانية من المسلمين من لشبونة في القرن العاشر الميلادي، محاولين اكتشاف ما وراء بحر الظلمات، وهو الاسم الذي كان يطلقه البحارة المسلمون على المحيط الأطلسي، إلى أن نزلوا في أمريكا الجنوبية. وتؤكد هذه الحقائق بعض كتابات المستشرقين ، يذكر مهدي في كتابه (العرب في أمريكا) أنه في سنة 1539 م اكتشف فراماركوس دي نايز المناطق المعروفة اليوم باسم نيومكسيكو وأريزونا، وكان مرشده في ذلك مسلم مغربي اسمه أسطفان، ولقد راح أسطفان ضحية سهم من أحد الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين الذين لم يكونوا قد رأوا الرجل الأبيض بعد. كسكس المغاربة في البرازيل هناك روايات تقول إنه يعود تاريخ المسلمين ووجودهم في البرازيل إلى فجر اكتشاف القارة الأمريكية، فعندما رست سفينة كابرال على ساحل البرازيل، كان برفقته ملاحون مسلمون ذوو شهرة عظيمة أمثال شهاب الدين بن ماجد وموسى بن ساطع، ويؤكد أحد المؤرخين البرازيليين، جواكين هيبيرو، في محاضرة ألقاها عام 1958م ونشرتها الصحف البرازيلية آنذاك، أن العرب المسلمين زاروا البرازيل واكتشفوها قبل اكتشاف البرتغاليين لها عام 1500 م، وأن قدوم البرتغاليين إلى البرازيل كان بمساعدة البحارة المسلمين الذين كانوا أخصائيين ومتفوقين في الملاحة وصناعة السفن، وقد دوى صوت الآذان في أرجاء أمريكا اللاتينة قبل أن تدق أجراس الكنائس. ويزيد في تثبيت وتوثيق هذه الحقائق الكاتب البرازيلي الشهير والخبير في شؤون الأقليات، جيلبير تو فريري، في كتابه (عالم جديد في الأوساط الاستوائية)، يقول: >إن هذا الكتاب لن يشجع القارىء على التعرف الكامل على البرازيل فحسب، بل سيقيم الدليل كذلك، على أهمية إسهام العرب في تكوين الإنسان البرازيلي، إن وجودهم في شبه جزيرة إبيريا منذ القرن التاسع على الأقل، يثبت أن العرب والمغاربة والمسلمين شاركوا كذلك في اكتشاف هذا البلد الجديد منذ الإبحار على متن البواخر الشراعية البرتغالية، وسرعان ما أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من القومية مع تقوية عملية الاختلاط العرقي، وهذا الإسهام يؤكد العمل الدؤوب لدرجة أن الفعل المشتق من اسم سكان إفريقيا الشمالية (المغرب) (حدصزتءز) لا يزال مرادفا للعمل في اللغة البرتغالية. ومن جهة أخرى فإن العبارة: أنه يعمل كما يعمل المورو أو المغربي (حدصزد) تعبر، سواء في البرازيل أو البرتغال، عن النشاط المتواصل والشاق لأولئك الذين كانوا كبار المزارعين وكبار الفنيين، من نجارين وحدادين وخياطي ملابس الرجال... وغيرهم من أصحاب المهن المرتبطين بهذه الأصول العربية، التي تركت آثاراً واضحة كل الوضوح في مختلف المجالات، مثل فن المعمار والأزياء وصناعة الحلوى... ومازال طبق إفريقيا الشمالية (المغرب) المسمى (كسكس) (صسدصس) كوزكوز فتأقلم البرازيلي مع هذه الأكلة وحولها إلى منتوجات محلية مثل المانديوكا (التي هي بطاطس الهنود الحمر مع الذرة...) ويؤكد الواقع والتاريخ أنه عندما وصل البرتغاليون إلى البرازيل، كثير منهم كانوا يميلون للراحة مع بعض العمل اليدوي، وهذا يمكن شرحه في جزئه الأكبر فقط بما يلي: لقد كانت خدماتهم المنزلية زهاء قرن من الزمن يقوم بها الرقيق، والجزء الأكبر من عملهم الزراعي ليس لمدة قرن واحد ولكن عدة قرون، كان يقوم به المسلمون... وبعض البرتغاليين الذين كان يجري في عروقهم الدم الخالص لأبناء أوروبا الشمالية وجدوا في النساء المسلمات ذوات اللون الأسمر الفاتح وبعضهن أميرات وجدوا فيهن النموذج الرائع للجمال النسائي، وأكثر من باحث في التاريخ وخصوصا روي ناش في كتابه (فتح البرازيل) يتكلم عن أول لقاء بين البرتغاليين وبين المسلمين المغاربة كأنما هو لقاء بين شعب مغلوب وبين شعب غالب ذي بشرة سوداء، والرجل الأسمر كان أكثر ثقافة وصاحب ذوق فني أكبر يعيش في قصور ويسكن المدن، كان هو الغني، بينما كان البرتغاليون يعيشون كما لو كانوا عبيدا في أراضي هؤلاء المسلمين المغاربة، وفي ظروف العز هذه كان شرفا كبيرا للرجل الأبيض أن يتزوج أو أن يختلط مع الطبقة المسيطرة وهم القوم ذوو اللون الأسمر... حتى أصبح الشعراء الروحانيون من البرتغاليين والإسبان يتغنون بالنباتات الجميلة ومنابع مياهم، ذاكرين ذلك في قصص أخاذة عن الأميرات المسلمات السمراوات، وعلى العموم، فإن برتغاليي البرازيل احتفظوا بكثير من طابع التأثير الإسلامي في سلوكهم أو طبيعتهم التي لم تكن أبدا أوروبية خالصة ولا نصرانية خالصة، وهذا التأثير من السهل ملاحظته في كثير من الجهات بالبرازيل، وعلى الخصوص في ولاية باهيا (ءبةء) وفي مدينة سالفادور (سءجضءدز) ورسيف (زةئ) وريو دي جانيرو (زةد تءخةزد)، فالزائر إلى هذه المدن، وخصوصا باهيا، عاصمة المسلمين الأوائل، يرى فن المعمار الإسلامي واضحا جدا من حيث الأبواب والنوافذ والساحات الداخلية ونوافير المياه والأزقة ذات الأرصفة الحجرية، وكأنه في مدينة فاس المغربية أو وسط دروب الأندلس أو أحد شوارع حلب، أو أي مدينة إسلامية قديمة، ولا يستغرب أن يرى اسم شارع القديس محمد والقديسة فاطمة، ويرى تجاعيد الملونين وصورهم ونظراتهم وكأنه وسط مدينة الخرطوم أو إحدى المدن النيجرية، سكان هذه المدينة 80% من أصول إفريقية مسلمة، فأكبر العائلات: مورو سيلفا إلفيارا... ترجع إلى أصول إسلامية، كما أن هناك متحفا للمخطوطات (ميزو دي ليترا) يحمل في رفوفه وثائق تعد بالمئات عن ثورات وانتفاضات لتحرير الرق بشكل عام، وخاصة المسلمين. عبيد متفوقون على الأسياد وتؤكد هذه المخطوطات المحفوظة في هذا المتحف، وفي المتاحف البرازيلية الأخرى، أن أكثر المنحدرين من الأفارقة الذين جيء بهم كعبيد إلى البرازيل هم من جذور إسلامية، وأنهم كانوا يقرؤون القرآن باللغة العربية وبالرسم العثماني برواية ورش المغربية، وقد وصلت أفواج الرقيق إلى البرازيل عام 1538م، ولم تمض 40 سنة حتى نقل إليها 14 ألف مسلم مستضعفين مغلوبين على أمورهم، والسكان كانوا لا يزيدون آنذاك على 57 ألفا، وفي السنوات التالية ازدادت تجارة الرقيق، وأخذ البرتغاليون يزيدون من أعدادهم، إذ جلبوا من أنغولا وحدها حوالي 600 ألف مسلم زنجي، وجل هؤلاء السود جيء بهم من غرب إفريقيا. على أن أبرز مجموعاتهم هي التي اختطفت من المناطق السودانية، مناطق داهوتي، والهوسا، وأشانتي، والفولان... وحمل هؤلاء المسلمون في قعر السفن، بعد أن ربطوا بالسلاسل الحديدية، ومات منهم من مات وألقي في البحر من أصيب بمرض أو حاول أن يثور. اقتلع هؤلاء بالقوة من محيطهم ليكونوا آلات في هذه البلاد... وكان هؤلاء العبيد يتمتعون بتفوق فكري وحضاري على السكان المحليين وعلى البرتغاليين والأوروبين في البرازيل، وخاصة الذين وصلوا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانوا متقنين للكتابة والقراءة، بينما أسيادهم على عكس ذلك يعيشون في جهل مذقع، لذلك لم يكن من السهل قيادة تلك المجموعات المسلمة أو تطويعها وجعلها مجرد أداة حرث توجهه كيفما تريد... لا !! ، قام هؤلاء المسلمون منذ البداية بحركات وانتفاضات عديدة ضد تجار الرقيق وضد معتقليهم على ظهر السفن التي نقلتهم، وبعد وصولهم للأراضي البرازيلية، بعد توزيعهم على أرجاء البرازيل. إلا أن غالبيتهم العظمى كانت موجودة في ولاية باهيا، وكانوا يشكلون الجالية الكبرى الثانية في مدينة ريو دي جانيرو. نضال وكفاح من أجل الحرية المسلم من طبيعته لا يرضى أن يكون عبدا إلا لله تعالى منقادا له في كل شيء، هذا جانب، والجانب الآخر أن هؤلاء الأرقاء جاؤوا من أجواء، أو يحملون أجواء إسلامية واسعة التقدم الحضاري، يقول أحد المؤرخين، واسمه فريري: >كان هؤلاء المسلمون السود يشكلون عنصراً نشيطا مبدعا، ويمكن أن نقول إنهم من أنبل من دخل البرازيل خلقا، اعتبروهم عبيداً، لم يكونوا حيوانات جر أو عمال زراعة في بداية دخولهم، إنهم مارسوا دورا حضاريا بارزا، كان الساعد الأيمن في تكوين البلاد الزراعي، بينما كان سكان البلاد من الهنود الحمر يميلون إلى الكسل والراحة<. إن البرازيل مدين لهم في كل شيء في قصب السكر والقهوة التي جلبوها والقطن والحبوب، حتى الأدوات الزراعية الحديدية، كلها إفريقية، حتى التعدين في البرازيل واستخراج الحديد جاء عن طريق هؤلاء المسلمين الإفريقيين، كانت وسائل التقنية عندهم أكثر تقدما من وسائل الهنود ومن وسائل البرتغاليين أنفسهم... ويذكر أن أسيادهم الأميين الذين جلبوهم لاسترقاقهم كانوا يتخاطبون مع الأوروبيين من خلال هؤلاء العبيد المتحضرين، يكتب العبد المسلم رسالة السيد إلى زميله السيد الآخر، الذي يقرأ له الرسالة عبده المسلم المتعلم، وقد جاء مع هؤلاء العبيد شيوخهم الذين يعظونهم ويرشدونهم ويفقهونهم في الدين وينزلون معهم الأكواخ ويلقنوهم القرآن ومبادىء الشريعة الإسلامية السمحاء . يحكي صاحب المكتبة الرئيسية الفرنسي في عاصمة الامبراطورية (باهيا) لأحد أصدقائه الأمريكان، الذي زار البرازيل في القرن 19م يقول: إن من بين زبائنه عبيدا مسلمين من باهيا، وعن طريقه كان هؤلاء العبيد المتميزون، بعضهم كان يبدو في الظاهر مسيحيا، ولكنه في الواقع مسلم، يستوردون أجزاء غالية من القرآن الكريم والكتب الدينيه ليقرؤوها سراً، وفريق منهم أنشأوا بعض المدارس، وكان من بين هؤلاء العبيد المسلمين في باهيا جمعيات للمساعدة المتبادلة تقوم بتحرير عدد كبير من العبيد، وفي مقاطعة ميناس جيرايس، على غرار ما كان في مقاطعة باهيا من المساعدة المتبادلة ازدهرت بين العبيد جمعيات حركة التحرير والكفاح من أجل الاستقلال، وإنهاء عهد الرق والعبودية، والمواطن الأمريكي إوبانك (ٌّقفًَ) عندما كان في البرازيل من سنة (1845 1846م) تناول العشاء مرة مع أحد المزارعين وملاك العبيد في باهيا، أخبره أن العبيد في مدينة سلفادور محافظون على لغتهم الأصلية، وأنهم ينظمون جماعات وجمعيات تضع خططا ثورية، الخطط نفسها التي حاول تنفيذها إخوانهم في مناطق أخرى عدة مرات... وقد قص هذا المالك للعبيد أكثر من ذلك لهذا المواطن الأمريكي، فقال: >إن بعض العبيد في باهيا كانوا قادرين على أن يكتبوا العربية بمهارة، وكانوا أعلى ثقافة من أسيادهم بكثير. وبعد أن ازداد عدد العبيد المسلمين وقويت شوكتهم وبلغوا من القوة الاقتصادية والعلمية والثقافية مع التخطيط المحكم، قاموا بثورة إسلامية تحررية سميت عند المؤرخين بثورة العبيد المسلمين بمنطقة باهيا تجاه مجموعة سياسية متحكمة اقتصاديا وسياسيا. وهكذا توالت ثورات وانتفاضات بزعامة الشيوخ والعلماء والدعاة الذين وجهوا الثورة وقادوها بكل شجاعة وإخلاص وأدب رفيع... فمن غير المتوقع أن يخضع هؤلاء لأسيادهم الذين دونهم ثقافة ومعرفة وعلما. ولم يتمكن التنصير القصري والحكم الدكتاتوري ومحاولة تغيير أسمائهم لأسماء نصرانية أن يطفئ الحمية اإاسلامية حتى في نفوس القلة منهم... لذا كانت الأكواخ في الحقيقة مساجد عامرة لتربية الفرد المسلم، فالإسلام كان هو روح الثورة وشعاعها ومنطلقها، وكانت العربية هي لغة التفاهم بين الثوار المسلمين. وأهم الثورات الإسلامية التحررية هي ثورة (بالميرس) في شمال البرازيل في القرن السابع عشر، ولم تسطع السلطات البرتغالية إيقاف مد المسلمين إلا بعد مقاومة طويلة والاستعانة بمقاطعة باوليستا (أي ساو باولو)، لكن مع الأسف الشديد انتصر البرتغاليون على الثوار وسحقوهم بوحشية، وظلت جثث المسلمين تتعفن مدة طويلة على قارعة الطريق... ثورات عديدة ثم حدثت سلسلة من الثورات في العقود الأولى من القرن السابع عشر والثامن عشر، كان أهمها في أعوام 1805 1813 1816 1826 1827 1829م وإن أخطر هذه الثورات وأدقها تنظيما وتخطيطا كانت ثورة الماليز أي مالي في باهيا سنة 1835م، وكانت قيادة الثورات بأيدي شيوخ الهاوسا، لكن السلطات علمت بالمحاولة قبل ساعات معدودة، فتحركت على الفور وقامت بإجراءات أمنية مشددة، من مداهمة البيوت واعتقال الأفارقة المسلمين الرقيق منهم والأحرار، مع قطع الطرقات على الثوار المسلمين القادمين من القرى المجاورة للمساهمة في الثورة، فانتشر الرعب الشديد في نفوس السكان المحليين والأوروبين نتيجة لمستوى تنظيمها وبعدها الديني... وبعد إخماد الثورة وتشتيتها والقضاء عليها، صدرت الأحكام في حق 286 رجلا و24 امرأة ما بين الإعدام والأعمال الشاقة والسجن والجلد، وكان من بين قادة الثورة رجل دين وعالم اسمه دي كارمو، كانت له شعبية كبيرة وسط العبيد المسلمين، ولم يتوقف يوما عن الدعوة إلى الإسلام وإلى التغيير الثوري، وهكذا تحالفت الدولة آنذاك مع الكنيسة في قلع جذور المسلمين من هذه الديار، بعدما تنصر من المسلمين من تنصر بالقوة طبعا. واستشهد من استشهد، لكن حتى الذين تنصروا بقيت التقاليد الإسلامية لفترة ليست قليلة في تصرفاتهم وعاداتهم، ولايزال قسم كبير من أجيالهم إلى اليوم يحرم شرب الخمر ويقوم بنحر الأضاحي ويلبسون ثيابا بيضاء يوم الجمعة، إلى جانب مظاهر أخرى هي بقايا ارتباطهم بهذا الدين العظيم الذي اجتثه هؤلاء الصليبيون البرتغاليون بوحشية من نفوسهم اجتثاثا ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل. وعلى الرغم من فشل كل الثورات، كثورة الماليز، نسبة إلى مالي، إلا أنها كانت مؤشرا على الوجود الإسلامي في البرازيل، وكانت الشرطة في وقتها تعتقل معلمي المدارس القرآنية، حيث كانت تشعر بأنهم مصدر التنظيم، كما اكتشفت الشرطة أيضا أن المسلمين كانوا يقسمون أنفسهم ضمن مجموعات صغيرة يطلق عليها اسم النوادي، وهي عبارة عن أكواخ صغيرة يجتمعون من خلالها لدراسة الدين الإسلامي وحفظ القرآن الكريم ومناقشة أمورهم الدينية والدنيوية، ومساعدة بعضهم البعض، وتوجد في دار المخطوطات العامة في ولاية باهيا عشرات الكتب والوثائق، وهي عبارة عن صحف من القرآن الكريم، وكانت الشرطة لغبائها تعتبر تلك المخطوطات القرآنية تفاصيل للمخططات الثورية، لأنهم لم يكونوا يفهمونها، كما توجد في الدار نفسها محاضر المحاكمات المزيفة التي طبخت ضد أولئك الأبرار الذين ساهموا في بناء البرازيل وتقدمها، وقد استمرت المحاكمات العرفية والعسكرية حتى عام 1888م، حيث المظلوم ظالم وجريمته الوحيدة هي عقيدته، تقول المصادر البرازيلية نفسها إنه قد صدر الحكم على كل شخص وجد عنده خاتم فضي أو غطاء للرأس أو جلباب أبيض، فكانت أكبر خسارة ثقافية لدولة البرازيل. وهكذا تشتت الجمع الأول من المسلمين، فمنهم من هجّروه إلى إفريقيا بمجرد شبهة التعاطف مع الثوار، ومنهم من استشهد في زنازن السجون، وكثير منهم وجدوا أنفسهم مرمى بهم في شواطىء نجيريا وبنين بعدما اشتروا حريتهم وآخرون حاولوا المقاومة لكنهم في الأخير استخدموا في الحروب التي خاضتها البرازيل مع أعدائها، وخصوصا حرب البراغواي، والتاريخ يحدثنا أن أحد رماح زنجي مسلم هي التي قتلت الدكتاتور لويس (رئيس الباراغواي) وانتهت بمقتل الكثير منهم .. بعد فوات الأوان .. قانون لمنع الرق بعد ما تحركت الدبلوماسية المغربية تجاه القارة الأمريكية باعتراف المغرب رسميا باستقلال الولاياتالمتحدةالأمريكية، وذلك سنة 1787م، فكان بذلك أول دولة في العالم تفعل ذلك، كما وقع سلطان المغرب (الملك) محمد الثالث اتفاقية صداقة وتعاون مع جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدةالأمريكية، وجاء في رسالة جوابية من الملك محمد الثالث إلى جورج واشنطن ما يلي: إلى فخامة رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية، السلام على من اتبع الهدى. استلمنا رسالتكم مقرونة بمعاهدة السلام التي أرسلتها إلينا وكتبنا إلى كل من تونس وطرابلس بخصوص التماسكم، وسوف تلبى رغبتكم بمشيئة الله. قيل إن هذه العلاقة الدبلوماسية بين المغرب وأمريكا أعطت مفعولها بضغطهما على السلطات البرازيلية لإلغاء الرق وعهد العبودية، وهكذا صدر قانون منع الرق وتحريمه في البرازيل عام 1888م متأخرا، حيث فقد هؤلاء الأفارقة المسلمون هويتهم وعقيدتهم بعد ثلاثة قرون من المعاناة والقهر والظلم، ويؤكد بعض المؤرخين أن ثلثي السود العبيد ذهبوا ضحية الحرب التي خاضها البرازيل مع الباراغواي، ولم يبق للمسلمين من أثر يذكر ما عدا بعض التجمعات في مدينة ريو دي جانيرو وباهيا ورسيف، وأصبح ابن الحفيد الإفريقي المسلم لا يعرف إلا أنه ابن حفيد منحدر من جده الأعلى الذي جيء به عبدا إلى البرازيل. هجرات المسلمين في القرن ال 20 وفي مطلع القرن العشرين، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بدأت طلائع المهاجرين الجدد تصل إلى البرازيل من بلاد عربية مختلفة، وخصوصا لبنان وسوريا وفلسطين، أملا في تحسين معيشتهم وكسب لقمة العيش، بعد الفقر الذي سيطر على دولهم، ولقد جاء هؤلاء المهاجرون الجدد بثقافة دينية عبارة عن عاطفة فطرية، الأمر الذي أدى إلى انعكاس هذا الضعف الديني على الجيل الأول، فخرج لا يعرف من الإسلام إلا أن اسمه محمد أو اسمها فاطمة، وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت هجرات المسلمين والمسيحيين من الشرق الأوسط صوب الولاياتالمتحدةالأمريكية، لكن العديدين منهم نزلوا بدلا عن ذلك في الأرجنتين والبرازيل، وهكذا استمرت الهجرات إلى البرازيل، ولا سيما بعد احتلال فلسطين من قبل الصهانية وما رافق ذلك من توترات سياسية وحروب دموية في المنطقة، تلتها حرب لبنان الأهلية، كل هذه العوامل وغيرها ساعد العرب على الهجرة إلى أرض أجدادهم وآبائهم التي بنوها بسواعدهم تحت سياط المستعمر البرتغالي. يشكل المسلمون اليوم في البرازيل ما نسبته 1,5 % من مجموع عدد السكان، لكن ليس هناك إحصائيات برازيلية تعطي النسبة الحقيقة لعدد المسلمين فيها، وأكثر تجمعاتهم في ولاية ساو باولو (60 ألف نسمة) وريو دي جانيرو وريو كراندي وماتو كروسو وولاية برنا وباهيا... ولا توجد إحصائيات دقيقة بالنسبة إلى عددهم، إذ تقدر بعض المصادر عدد المسلمين بالبرازيل بحوالي اثني عشر مليونا (من عرب مسلمين ومسيحيين) والغريب في الأمر أن كلمة توركو نسبة إلى تركيا كلمة يطلقها البرازيليون على كل عربي مهما كانت ديانته. وسبب هذه التسمية، كما قيل، أن الدولة العثمانية العليا كانت تحكم كثيرا من أقطار العالم، وصادف أن عينت سفيرا لها في البرازيل، وعند وصول السفير العثماني إلى ميناء ريو دي جانييرو، أثناء احتفال البرازيل بعيد الكرنفال لم يحل للسفير العثماني ما يقام في الكرنفال، حيث الناس يكونون شبه عراة، فقطع زيارته على الفور لما رآه من المنكرات في هذا العيد وعاد إلى بلاده، فغضبت حكومة البرازيل آنذاك واعتبرته متخلفا متوحشا، وأطلق الناس على كل من يمت بصلة إلى العرب والمسلمين اسم توركو، والجدير بالذكر، يقول أحد الأدباء، وهو لبناني الأصل (داود نصر) سكن في مدينة ريو دي جانيرو، يذكر حادثة حصلت مع فتاة عربية اسمها عايدة حاول بعض الفساق الاعتداء عليها، وهم من أبناء الطبقة الفاسدة والمترفة في المدينة، فلما استعصت عليهم لقوة عقيدتها، احتالوا عليها فأدخلوها إلى عمارة ودفعوها في مصعد إلى شقة في الطابق الثالث عشر ودافعت عن شرفها دفاعا مستميتا إلى أن تمكنت من اللجوء إلى شرفة العمارة ورمت نفسها من الشقة، واعتبر الحادث انتحاريا، إلا أن بعض الصحافة الذين عندهم بقية من الغيرة والشرف كتبوا عن الحادث واعتبروه ليس انتحارا، وإنما هو دفاع عن العرض والشرف. ودخل هؤلاء الفساق السجن الواحد تلو الآخر حتى التقى بأحدهم وهو يحاول أن يهرب بالقطار إلى شيلي ومسكه هذا الأديب (داود نصر) وقال له بالحرف الواحد: يا هذا أنتم لا تفهمون معنى العفة والشرف التي جاء بها هؤلاء المسلمون الشرقيون والعرب من بلادهم. ودفعت هذه الفتاة الشرقية حياتها لعرضها وعفافها، هذه هي القيمة التي حملناها إليكم يا شعب البرازيل من بلاد الشرق ومن إفريقيا المسلمة، حضارة ذات سلوك قويم وأخلاق حميدة وقيم الحق والعدل والمساواة، إن الذي تسمونه توركو أو المورو يدافع، ليس عن ماله بل عن شرفه وعقيدته وشرف البلد الذي استضافه. وحوادث كثيرة تعطي البرازيل درسا عن قيم وأخلاق هذا التوركو المسلم العربي والإفريقي على السواء. إنها قيم الحق والوفاء في مجتمع طغت عليه الأنانية والانحلال الخلقي حتى القدمين. واقع الجالية المسلمة اليوم في مطلع العشرينات بدأت وفود العرب والمسلمين تهاجر إلى البرازيل، وعند وصولهم عملوا في بادىء أمرهم كباعة متجولين في الشوارع والأسواق الشعبية (الفيرا) وعمالا في المصانع والمزارع... إلا أن التجارة طغت على نشاطهم الاقتصادي، ومع تطور الحياة الاقتصادية والتجارية، تمكن هؤلاء في ظرف وجيز من أن يصبحوا أرباب مصانع ومحلات تجارية فخمة، ومراكز مهمة في السلطات الوطنية البرازيلية، وهناك من وصل إلى مراتب عالية في مرافق الدولة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر السيد حسين جمعة، الذي رأس الاتحاد الإسلامي في ضاحية باريتوس ساو باولو، ووضع حجر الأساس لمشروع إقامة مسجد في هذه الناحية، وقد روى لي أحد الدعاة أنه عند وفاته أغلقت الدوائر الرسمية أبوابها وحياه سرب من الطائرات منذ خروجه من داره حتى وضع في قبره. بدأت الصحوة الإسلامية في البرازيل تتطور رويدا رويدا وباكورة هذه الصحوة والخلية الأولى لنموها هي الجمعية الخيرية في مدينة ساو باولو، والتي تعتبر الجمعية الأم في البرازيل، كما تعتبر أول جمعية خيرية إسلامية تأسست في جنوب القارة الأمريكية، ويرجع تأسيسها إلى سنة 1926م، وكان من أهداف هذه الجمعية إقامة بيت الله تعالى، لكن هذا الحلم لم يتحقق نظرا للظروف المادية الصعبة التي كانت تمر بها الجالية، واندلاع الحرب العالمية الثانية، فتأخر هذا المشروع حتى عام 1957م، والجمعية كانت واعية بالدور الذي يضطلع به الإعلام، حيث قامت بإصدار صحيفة النشرة سنة 1933م ثم صحيفة الذكرى سنة 1937م، ثم الرسالة والعروبة أخيرا، وهي ما زالت تصدر إلى اليوم. استمرت الصحوة الإسلامية المباركة تشق طريقها في هذه البلاد إلى أن أصبحت تضم بحمد الله وتوفيقه العشرات من المدارس والمساجد، بالمعنى الصحيح للمساجد، أي بمآذن وقباب، هذا بالإضافة إلى عدد كبير للمصليات، وقد وصل إلى أكثر من 60 مسجدا ومصلى ومن أهمها، مسجد أبي بكر الصديق بسوبرنارد / ساو باولو ومسجد الشيخ محمد بن ناصر العبودي في مدينة مارينكا / بارانا ومسجد الملك فيصل في مدينة لوند رينا، ومسجد عمر بن الخطاب بمدينة فوز ديكو اسو، ومسجد باراناكوا، ومسجد كوريتيبا وموجيه وسانتو أمارو... وفي أوائل السبعينات عقد أول مؤتمر إسلامي في البرازيل، بل في القارة الجنوبية، وكانت قد نظمت هذا المؤتمر وزارة الأوقاف المصرية بالتعاون مع جامعة الأزهر، ومع مطلع الثمانينات كانت الجالية الإسلامية في البرازيل بحاجة ماسة إلى من يجمع شملها وشتاتها، بسبب ما أصابها من تفريط في دينها وانغماسها في تجارتها وهمومها اليومية... الأمر الذي أدى بها إلى الضعف والهوان والذوبان في بحر من الانحلال والمروق... فهذا الوضع المزري أوجب على المخلصين والغيورين على دين الله في هذه البلاد التفكير مليا في إنشاء إطار دعوي إسلامي، حتى يتسنى لهم الإسهام في رفع راية الإسلام طاهرة نقية عن طريق الهداية والموعظة الحسنة، وعليه كانت الدعوة من طرف رجل أعمال ودبلوماسي حكيم ومخلص وغيور على دينه فضلية الشيخ أحمد علي الصيفي لتأسيس مركز الدعوة الإسلامية لأمريكا اللاتينة، بعد أن لمس اتساع رقعة العمل الإسلامي في شمال ووسط قارة أمريكا اللاتينة. فتم تأسيس المركز في أوائل شهر غشت من عام 1987م ومن مقاصده وأهدافه المسطرة في قانونه: دعم الأقليات الإسلامية ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وتبصيرهم بحقيقة دينهم العظيم، كما يضع المركز نصب عينيه أهمية اللغة العربية لغة القرآن الكريم بنشرها بين الجاليات الإسلامية والأجانب الذين يرغبون في تعلمها، بالإضافة إلى كشف الوجه الحضاري لديننا الحنيف، مع توضيح وبيان الإسلام الصحيح المتسامح الذي يشوه في هذه الأيام من قبل أعدائه، من خلال المناقشات واللقاءات والدورات والحوارات الصحفية والمؤتمرات الدولية التي يعقدها المركز سنويا، كما وضع في مقاصده نشر الثقافة الإسلامية وفق منهج إسلامي سني معتدل، ومن أجل هذا قام المركز بترجمة العديد من الكتب الإسلامية وتوزيعها على جميع الجمعيات والمراكز الإسلامية في هذه القارة، ومن أهدافه كذلك تشجيع حفاظ القرآن الكريم وكفالتهم والاهتمام بهم مع الاهتمام بتعمير بيوت الله تعالى وصيانتها والمحافظة عليها، وخلاصة القول، فمركز الدعوة من أهدافه العامة الدعوة إلى هذا الدين والتعريف به ودفع الشبهات عنه وتبليغه للعالم بالحكمة والموعظة الحسنة. إن تأسيس مركز الدعوة الإسلامية كان فاتحة خير ودافعة قوية في تطور الصحوة الإسلامية في البرازيل وفي أمريكا اللاتينة، بحيث أخذ عدد المراكز والجمعيات الإسلامية والمساجد والمدارس القرآنية والعربية في الازدياد، ومن تلك المراكز والجمعيات: الجمعية الخيرية الإسلامية في ساو باولو الجمعية الخيرية في ريو دي جانيرو. الجمعية الخيرية في سانتوس. الجمعية الخيرية في لوندرينا. المركز الثقافي الإسلامي في ريسيفي. الجمعية الخيرية الإسلامية لمركز شباب أبي بكر الصديق. الجمعية الخيرية في مارينكا. الجمعية الخيرية الإسلامية علي بن أبي طالب في سان جوزيه. الجمعية الخيرية في ماتو كروسو دو سول. الاتحاد التقدمي العربي. المركز الثقافي العربي. نادي غزة. مستشفى ابن سينا الإسلامي. نادي السلطان يعقوب الرياضي. الاتحاد الإسلامي في البرازيل. الجمعية الخيرية في سانتو أمارو. أما بالنسبة للمراكز والهيئات الإسلامية العالمية الفاعلة والعاملة في حقل الدعوة في البرازيل، فنذكر منهم مكتب هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، ومكتب الندوة العالمية للشباب الإسلامي، والذي يمثله الشيخ علي العبدوني. إن الصحوة الإسلامية في تحسن وتطور في هذه البلاد، نظرا لكثرة الجمعيات والمراكز العاملة في الميدان ، وللخصوصيات التي يمتاز بها هذا الشعب، فهو فطري طبيعي عاطفي وبريء، محب ويحترم الآخر، وهذا شيء ملموس ومعروف، بالإضافة إلى قوانين البلد، فهي تضمن حرية التعبد والعبادة، وممارسة أي نشاط ديني بدون أي استفزاز ولا مضايقة، كما هو الحال في أوروبا، لأن هذا الشعب ليس له خلفيه تاريخية مع العالم الإسلامي تحمله على الكراهية والحقد، بل العكس هو الصحيح، وجل دول أمريكا اللاتينة هي ما زالت عذراء خصبة لزرع بذور دين الإسلام العادل المتسامح، ولا يواجه المسلمون اليوم من المشاكل في البرازيل سوى المشاكل نفسها التي تواجه جميع السكان، وهي الشكوى من الديون الخارجية وسرقات المال العام، والمشاكل الأمنية المتفاقمة. إعداد :الشيخ الصادق العثماني مدير قسم الشؤون الدينية بمركز الدعوة الإسلامية لأمريكا اللاتينية