كانت مدينة سبتة المغربية أوّل أرض تستعمر في المغرب العربي وأول بلدٍ إفريقي يستولي عليه المستعمر الأوروبي في العصور الحديثة. إلا أنَّ المعلومات حول وقائع الاحتلال البرتغالي لهذه المدينة وما سبقه وما تلاه من جهادٍ مستميت من المتطوّعين المغاربة من مختلف جهات المغرب، معلومات شحيحة. فكتب التاريخ لاتكاد تذكر شيئا عن هذه الوقائع. ومن حسن الحظ أن انبرى مؤرخ مغربي كفء هو الدكتور حسن الفكيكي للبحث التاريخي المتأنّي في كل ما يتعلق بوقائع هذا الاحتلال وما ترتب عليه من نتائج. وكانت ثمرة هذا البحث كتاب «سبتة المغربية صفحات من الجهاد الوطني» الذي صدر ضمن سلسلة المعرفة للجميع (أبريل 2000) بتقديم للمرحوم الدكتور محمد حجي جاء فيه: «كان سقوط مدينة سبتة سنة 818ه/1415م أول احتلال أجنبي لأرض مغربية منذ مجيء الإسلام إلى هذه البلاد، وسيكون تحرير سبتة - ولا شك - آخر جلاء أجنبي عن وطننا. وإذا كانت نفوس المغاربة تتقطع حسرة وألماً على هذا الحدث الجلل فإنهم لايعرفون عن ظروف احتلال المدينة السليبة - رغم مرور ستة قرون على ذلك - إلا نزراً يسيراً لايزيد عن صفحة واحدة اختزل فيها الاستقصاخبر هذه الفاجعة في صورة أسطورة جاهلية لاعلاقة لها بالواقع. يأتي اليوم الأستاذ حسن الفكيكي المتخصص في دراسة تاريخ مقاومة الوجود الإيبيري بالثغور المغربية الشمالية المحتلة، ليقدم في هذا الكُتَيّب تاريخا دقيقا واضحاً - ووجيزاً في نفس الوقت - لاحتلال سبتة وماسبقه من استعداد وتخطيط برتغالي صليبي، ومالحقه من مقاومة شعبية محلية ووطنية خلال ثلاثة عقود من السنين (818 - 847 ه/ 1415 - 1443م). يعتمد الكاتب اعتماداً كليا - تقريبا - على مصادر أجنبية، خاصة البرتغالية، لكن مع نقد وتمحيص ومقارنة بالإشارات العابرة في المصادر المغربية المعاصرة فما بعدها، وبالثوابت الجغرافية الطبيعية والبشرية التي يعرفها عن قرب باعتباره ابن المنطقة. عنون الكاتب المبحث الثاني بفجر المقاومة، وقدّم فيه - اعتماداً على ما كتبه البرتغالي المعاصر أزورارا - وصفاً لسكان سبتة وقد أفاقوا صبيحة يوم أخرجوا من مدينتهم منتشرين على شعاب جبال غمارة وهم لم يفقدوا الأمل بعدُ في العودة، وما قاموا به من محاولات بطولية لعدة أيام ضد مواقع الجنود بأفراك وباتجاه أسوار المدينة، إلى أن هبّ المتطوعون من جبال مجكسة في نحو ألف مقاتل بقيادة البطل عبُّ بن محمد. دامت المقاومة شهوراً وأعواماً دون أن تتمكن من اختراق المواقع الحصينة لسبتة، وتلاحق المجاهدون المتطوعون بضاحية سبتة من جزولة سوس، وبلاد تافيلالت، وسهول فاس، ومناطق تطوان وطنجة وأصيلا، إلى أن أصبح عدد الفرسان ينيف على ألفين، والراجلين أضعاف ذلك. ثم التحق بالمتطوعين عناصر من الجيش المريني ومن أسطول النصريين بالأندلس. وحوصرت سبتة أكثر من مرة برّاً وبحراً. واستطاع المجاهدون أن يسترجعوا بعض المواقع في الضاحية ويٌفشلوا حملة برتغالية كبرى استهدفت احتلال طنجة. سيجد القارئ في «سبتة المغربية» تنامي المقاومة المغربية في مطلع القرن التاسع (15م) وتعدد عناصر المتطوعين من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، كمظهر رائع من مظاهر الهوية القومية، التي يزعم الغربيون أنها لم تُعرف إلا في أوربا خلال القرن التاسع عشر». المصادر التاريخية: غيابٌ وحضور بدأ المؤلفُ دراسته بالإشارة إلى ظاهرة غريبة تشوب تاريخنا الوطني: «فإذا تتبعنا مسيرته خلال القرنين التاسع والعاشر الهجريين (15 و16م)، يتبين لنا أن معلوماتنا عن المدن الساحلية المعرضة فعلا للغزو الأجنبي تتوقف توقفا تاما عند تاريخ غزوها من طرف الأجنبي، إلى درجة تطلب علمنا بالوجود الأجنبي بهذا الثغر أو ذاك، الانتظار إلى ما بعد زمن الغزو بوقت طويل. فلا أحد أخبرنا عن سقوط سبتة وغيرها من الثغور المحتلة. وإذا كنا نتحدث عن مجرد الإخبار بغزو الثغور الشمالية التي يهمنا أمرها، فإن أخبار مقاومة الوجود الأجنبي لاشيء عنها أيضا. وما تعرفنا عليه من الإشارات جاء متأخرا، على صفحات مصادر غير معاصرة، ولم تكن تلك الإشارات على صواب في جل الأحيان. والنتيجة المترتبة على ذلك متجلية في اصطدامنا بوجود فراغ زمني شاسع، نعلم ضمنيا بانطوائه على سجلات تاريخية جليلة القدر، راقدة على طول امتداده، في انتظار أقلام الباحثين للكشف عنها. وإذا كان الغزو الأجنبي قد أوقف فعلا مسيرة تاريخ الثغور بداخل أسوارها، فإن الاحتلال وما تبعه من جهاد وطني ضد التحالف الصليبي أتاح الفرصة سواء على النطاق المحلي أو الإقليمي أو الوطني، لبداية حلقات تاريخية جديدة، أهم مايستفاد منها، ذلك الطموح الراسخ الذي لم ينل من صلابته التفوق الأجنبي ولا تطاول الزمن ولم يقف دون محاولات المغاربة المستميتة والهادفة لمحو آثار العدوان الأجنبي على السواحل» (ص 35-34). إنّ سدّ هذا الفراغ يتطلب البحث عن مصادر تاريخية، وقد جزم المؤلف بأن كل محاولة جادة لدراسة هذا الموضوع ستعتمد اعتماداً كبيرا على المصادر الأجنبية، على الرغم مما تقدمه من نظرة قصيرة وضيقة عن الجانب المغربي. وهذا واقع آخر ينبغي الانتباه إليه، إذ أن المصادر الأجنبية لا تعنى باستقصاء الأخبار عن الطرف المغربي بالدرجة الأولى، إلا ما كان له ارتباط بالموضوع الخاص بالجانب البرتغالي. ثم استعرض المؤلف مضامين هذه المصادر، وفي مقدمتها حوليات «كوموس إيانس دي أزورارا». قال: «ومن الضروري أن نلاحظ أن الكتابة التاريخية البرتغالية المعاصرة قد اهتمت اهتماماً كبيراً بحدث احتلال سبتة، مستندة إلى تسجيلات «كومس إيانس دي أزورارا» والإيطالي «ماتيوس دي بيزانو» وعلى ما ردده «فرنان لوييس». وابتداء من سنة 1915 دخل الحديث عن سبتة طور التحليل والنقد، نتيجة تقدم منهجية البحث التاريخي. فظهرت التساؤلات عن الأسباب التي قادت جواو الأول إلى احتلال سبتة. وتصدى للبحث والجواب عن تلك التساؤلات عدد من الباحثين في الأرشيفات البرتغالية، مرددين ما توصلوا إليه من نتائج في إصداراتهم وفي المجلات المتخصصة. وقد استفاد المؤلف من آراء أولئك الباحثين في ترجيح ما توصل إليه بدوره من قراءة المصادر الأصلية. احتلال سبتة وتأجج الوعي الوطني في المبحث الأول من هذا الكتاب وهو بعنوان «احتلال سبتة وتأجج الوعي الوطني» تفنيد للأطروحات الاستعمارية الإسبانية، وتصحيح لمفاهيم وتصوّرات خاطئة . قال المؤلف: «كلما قرأنا أو سمعنا إلى ما يلقي به جيراننا الإسبان من أطروحات مزيفة عن إسبانية ثغورنا المحتلة نتساءل بمرارة لاحد لها، متى كان الاغتصاب قاعدة لإضفاء الشرعية على احتلال أراضي الغير.. لا أحد يستسيغ تلك الأقاويل والترهات التي تنتظر بكل إلحاح ردها إلى صوابها. وما يسعنا التعلق به الآن إبراز ما هو راسخ في ضمير كل مغربي، منادين أن سيأتي اليوم الذي تستطيع فيه بلادنا استرداد السيادة الوطنية على ترابها المغتصب. وكما عودنا التاريخ فإن سبتة وأختها مليلية ستلتحقان بالتراب الوطني لا محالة ومهما طال الزمن. إنّ أبسط الردود على الأطروحات الاستعمارية والتواء ادعاءاتها، هي التي تقدمها لنا حقائق الجغرافيا والتاريخ ودماء شهداء الوعي الوطني، مما يستحيل أن تمحوه أقدمية الوجود الأجنبي على ثغورنا، من ضمائر الأجيال» (ص 42). وبتقديم المؤلف للحدود الأصلية لمدينة سبتةالمحتلة سنة 818 ه/1415 م يظهر الفرق الشاسع بينها وبين حدودها المعاصرة المغتصبة الممتدة إلى جبل بنيونش. ومن أهم التنبيهات أو التصحيحات في هذا الكتاب بيان المؤلف لحقيقة أساسية، وهي أنّ مفهوم الوعي الوطني قديم راسخ في تاريخ المغرب الإسلامي، بدأ قبل القرن الحادي عشر خلافاً لما زعمه المؤرخون الأجانب بدوافع استعمارية مغرضة، حيث أثبت الأستاذ حسن الفكيكي أنّ ألفاظ «البلاد وبلاد المسلمين، وبلادنا ودار المسلمين ومدار الإسلام» كانت متداولة على لسان رؤساء الجهاد من أهل القرن التاسع الهجري، وهي ألفاظ تدل على مفهوم الوطن، وتؤكد من خلال الجهاد الإسلامي الموحد في مختلف ربوع المغرب وجود وعي وطني منذ القدم. فقد ردّ المؤلف دلالة لفظ البلاد وما رافقها من مفاهيم موازية إلى الحدّ الجغرافي للدولة المرينية. «وبالتوصل إلى الدلالة الجغرافية الأولى، أي وجود مساحة أرضية ذات حدود معلومة منتمية إلى كيان سياسي معيّن نحصل على الأساس الأوّل المفترض من شروط ما ندعوه بالقومية. وسرعان ما تجتمع لدينا باقي العناصر الأخرى من الديانة واللغة والتقاليد والمصالح المشتركة لتكتمل أصول القومية المغربية» (ص 54). مفهوم الجهاد كما طرح المؤلف في نفس السياق مفهوم الجهاد للمناقشة قصد إبعاد بعض الالتباس الذي أحاطته به الكتابات الأجنبية حينما أوهمت أن ما قام به المغاربة في نطاق التصدّي للأجنبي هو من جنس التعصب الديني وليس من قبيل الدفاع عن القومية وحرمة التراب الوطني. حيث بيّن أنّ مدلول الجهاد الوارد في مصادرنا الخاصة بالفترة التالية لاحتلال سبتة لم يكن سوى المرادف لما نستعمله اليوم بمفهوم المقاومة المسلحة» (ص 57). وقدم المؤلف نبذة عن الرصيد الجغرافي والتاريخي لمدينة سبتة وهو ما جعلها محط أطماع المستعمر. «إذ أن ذكرها يمتد على طول العصر القديم والعصور التالية: سواء في المصنفات أو في الخرائط، مما لا يسع ذكره هنا، ونشير فقط إلى الجغرافيين أمثال أبي عبد الله البكري والشريف الإدريسي وابن سعيد المراكشي وإلى من هم قريبون من فترتنا المدروسة أمثال محمد الأنصاري والحسن الوزان ورديفه مارمول كاربخال وغيرهم. فتاريخ سبتة قبل الاحتلال حاضر في كل السجلات والمصنفات منذ بدء الفتح الإسلامي إلى بداية القرن التاسع، لتتولى الحديث عنها المصادر الأجنبية. كانت مدينة سبتة محسودة على مر القرون وتوالي العقود. فسبق لها أن وقعت في أسر الرومان والوندال والبيزنطيين، إلى أن تم تحريرها في آخر القرن الأول الهجري، ومنذ ذلك التاريخ بدأ دورها القيادي بالشمال الغربي المغربي والجنوب الأندلسي يتعزز في إطار الدولة المغربية. وما كان يغيض الأوربيين والإيبريين خاصة هو ما دأبت عليه مدينة سبتة من دعم الوجود الإسلامي بالأندلس من بداية الفتح الإسلامي الى العهد القريب من سنة الاحتلال. هذا الدور الذي تترجمه أطماع الإيبيريين التوسعية هو الذي جرهم الى نعته افتراء بالعمل القرصني. وإذا كانت سبتة بالنسبة للبرتغاليين مجرد موقع استراتيجي يقف مدى استغلال مزاياه البرية عند نهاية الأسوار، كما قال المؤلف فإن فقدان المدينة بالنسبة لمغرب القرن التاسع الهجري لايقل في شيء عن وضع حد سميك لحضارة مغربية تطلب تشييدها ثمانية قرون متوالية، فلا عجب أن تكون سبتة مثارا للوعي الوطني المناهض للوجود الأجنبي ونموذجا لامعا له (ص 48). ظروف ودواعي اغتصاب سبتة خصص المؤلف المبحث الثاني من كتابه للبحث عن ظروف ودواعي اغتصاب سبتة. وهو ما لخصه بقوله: «تأكد لدينا، أثناء البحث عن دواعي احتلال سبتة، أن الغاية الرئيسية من المغامرة البرتغالية، تكمن فيما كان راسخا في ذهن الساسة من ضرورة التسابق الى اختراق مياه المضيق، لربح موقع استراتيجي بالممر المتوسطي. وتحت تضاعيف تلك الغاية اندرجت باقي الدواعي السياسية منها والاقتصادية. انطلقت الرغبة البرتغالية الصليبية في وقت جد مناسبة لتحقيق ذلك الهدف، لما عاينته من تراجع ظاهر للقوة البحرية المغربية بالمضيق، ومن تأرجح في الاستقرار الداخلي، بلغ الى حد اشتداد الأزمات السياسية في آخر القرن الرابع عشر. هذا ما توصلنا إليه من خلال ما استعرضته المصادر البرتغالية، وعلى الأخص ما سجله المؤرخ المعاصر للفترة «كومس إيانس دي أزورارا»، في «تاريخ احتلال سبتة» ورديفه «ماتيوس دي بيزانوا»، صاحب «حرب سبتة». فمن هذين النصين ومن المصادر المساعدة تمكنا من استخلاص أسس مشروع الاحتلال وهو ما يزال في مهده، ثم تتبع مادرج فيه من تطورات، إلى أن أصبح سنة 1415 واقعا سياسيا» (ص 62). وتحدث المؤلف بعد ذلك عن حقيقة وخلفيات مشروع لشبونة الاستعماري. قال: «الثابت لدينا بعد الاهتمام لبحث جذور مسألة سبتة، أن فكرة غزو مياه المضيق كانت موطدة على عهد الدولة البرتغالية، القائمة منذ سنة 1385 م. على يد أسرة آفيس وملكها، جواو الأول» (JoaoI) وأنذاك كانت البرتغال على موعد مع نهضة اقتصادية متشوفة الى ضرورة اقتحام البحار، للتغلب على الركود التجاري الجاثم آنئذ على البلاد، مؤملة من كل ذلك التوصل بسرعة الى تخفيف حدة الآزمة الفلاحية والضغط السكاني» (ص 64). ونبه المؤلف الى أن عامل القرصنة المزعوم لايمت بأي صلة الى العوامل المباشرة. «فنحن نعلم أن لشبونة كانت محطة مرور البضائع الشرقية على ظهر السفن الأجنبية، (جنوية، بندقية، انجليزية، فلا ندرية) فهي التي كانت تؤدي ضريبة المرور لسبتة وجبل طارق. فلماذا قامت البرتغال وحدها برد فعل ضد سبتة؟ إن الحملة الغازية الموجهة ضد سبتة تختلف تمام الاختلاف عن الحملات القرصنية المعروفة» (ص 72). على أن المؤلف لايقف عند مجرد العامل الاقتصادي، بل يبرز الدواعي السياسية القوية حيث «إن المتتبع لتاريخ الصراع على مضيق جبل طارق، سيدرك أن الوضع العام كان قد طرأ عليه تحول بارز، إلى درجة أنه أصبح مغريا في بداية القرن الخامس بالنسبة للبرتغال، بعد تخلي المغرب وانسحاب غرناطة المسلمة من الميدان وتراجع أطماع قشتالة، مما أتاح لأسرة آفيس أخذ زمام المبادرة لأول مرة في تاريخها» (ص 72). كما أن تدهور الوضع الداخلي من عوامل الاحتلال، حيث من البديهي أن ترتبط طموحات البرتغال بدرجات تدهور الوضع السياسي ببلادنا، فقد كانوا يعلمون أن نجاح المشروع التوسعي متوقف على ما سيتاح لهم من فرص التدخل العسكري. فقد كان الإيبيريون على علم بالمشاكل العاملة في المغرب على تفكيك السلطة المركزية المرينية، وعلى اطلاع أيضا بالتيارات التي تتجاذب السياسة الخارجية. ظلت مدينة سبتة، في إطار الوضع الداخلي، محطة معارضة للسياسة المركزية المرينية. وخلال نصف قرن كامل بقيت خلاله معبرا أساسيا للقرابة المرينية، والمتمثلة سواء في تلك الجماعات المنفية الى الأندلس والمتكونة من القرابة غير المرغوب فيها، أو تلك التي كانت من حين لآخر ترتد الى فاس، بغية الاستيلاء على الملك في غرناطة المسلمة. وكانت هذه قد وضعت في حسابها من وراء تلك المساعدة التشويش على السلطة المركزية، والحيلولة بينها وبين التفكير في استعادة الثغور الأندلسية. فتأزم العلاقات الأندلسية المغربية كان ظرفا مناسبا للشبونة ومساعدا لها للانقضاض على سبتة. وبالإضافة الى هذا، أخذ البرتغال في حسابهم ضعف إمكانيات سبتة الحربية (تحصينات المدينة، انشغال سبتة بالحرب الداخلية، ضعف الإمكانيات الحربية). قال المؤلف: «حلت كارثة مدينة سبتة يوم الأربعاء 14 جمادى الثانية من عام 818 ه. كما حدده محمد الأنصاري، وكان على مايبدو، من جملة الناجين من المذبحة الرهيبة التي تعرض لها سكان سبتة على يد الصليبيين وهذا التاريخ موافق لما عينه أزورارا بيوم 21 غشت 1415 م. لاريب أن حدث اغتصاب سبتة وضع المغرب المريني أمام مسؤوليات جسام، نتيجة ما ترتب عليه من العواقب الوخيمة والنتائج المتشعبة الجوانب، بدءا على الإقليم ثم على البلاد برمتها. وإذا كان البحث عن تلك النتائج وإبرازها من عمل المؤرخين، فإن المهمة ليست سهلة، لما تطرحه مكانة سبتة من القضايا في جغرافية وتاريخ البلاد. وسوف لايكفي هنا، في حق سبتة والمدن الشمالية الغربية التي لقيت نفس المصير بعد ذلك، أن نسجل أن سنة 1415 قد وضعت حدا لمسيرة تاريخ وحضارة لامعة لمدينة المضيق. المقاومة الباسلة وإذا كان الاحتلال الأجنبي قد أوصد الباب في وجه تاريخنا الوطني، فإن سنة 1415 فتحت المجال واسعا أمام إقليمسبتة ببواديه وحواضره، سهوله وجباله، لخوض معركة صعبة، رجاء إنقاذ تاريخ وحضارة المدينة. وليس من قبيل الأحكام العامة، إذا قلنا ان مرحلة جديدة من تاريخنا كانت قد بدأت. لذلك سنعتبر سنة 818 / 1415 بداية تاريخ المقاومة المغربية للغزو الأجنبي» (ص 87 88). ومن الرسوم التي اشتمل عليها هذا الكتيب صورة البرج الموجود بمدينة سبتة والمعروف ببرج المرأة المغربية لأنه كان مسرحا لأحد الأعمال البطولية التي قامت بها امرأة مغربية في معركة الدفاع عن المدينة يوم احتلالها من طرف البرتغال حيث ألقت من أعلى البرج بحجرة أودت بحياة أول ضابط برتغالي سقط في المعركة واسمه باسكو أطايدي. المبحث الثالث من هذا الكتاب بعنوان «فجر المقاومة (1415 1419). حيث عرف بأول رئيس للجهاد وهو عب بن محمد المجكسي، فقد كان أول من قاد الجهاد لتحرير سبتة، كما تحدث عن التنظيم الحربي بميدان هذه المدينة، ويعني بالميدان مساحة المجال الخارجي الواقع غرب أسوار المدينة، الممتد الى أقصى الحدود الأمنية المراعاة بالنسبة لسبتة. كما قدم أمثلة للتضامن الإقليمي والوطني. وقال المؤلف في هذا الصدد: «وإذا كنا لانجهل الدور الهام الذي ألف العلماء ورجال الدين الاضطلاع به في مثل هذه الظروف ببلادنا عامة، فإننا سنبقى عاجزين كل العجز عن الكشف عن قائمة أسماء المساهمين في الدعوة الى الجهاد. ونوعية الأساليب المستعملة لتلك الغاية (....) ونجد أحسن الأمثلة، فيما يمكن استنتاجه من الدور البطولي الأخير الذي قام به فقيه بني معدن، حين استشهد هو وجماعة من طلبته، أثناء الغارة البرتغالية على القرية سنة 1436» (ص 110). وفي صدد البحث عن النتائج التي حصلت عليها حركة المقاومة نجد أن الشعور بالتضامن والوعي الوطني كانت جذوره ممتدة نحو الجنوب الغربي بمشاركة جزولة، والى الجنوب الشرقي بتطوع رجال تافيلالت، فضلا عما توصل به الميدان من مشاركة أقاليم مملكة فاس المرينية (ص 111). الحصار المغربي لمدنية سبتة ويتساءل المؤلف، في بداية المبحث الرابع وهو بعنوان «سبتةالمحتلة وأول حصار (821 1481 / 822 1419)» عن أسباب تأخر الجهاز الرسمي المريني للحضور الى ميدان سبتة «والواقع أن احتلال سبتة لم يكن كافيا لإنهاء النزاع بين أفراد الأسرة المرينية. فعلى الرغم من أننا شعرنا بالحاجة الى تقديم التفاصيل عن الحالة السياسية بالبلاد خلال السنوات الثلاث، إلا أننا لاحظنا ألا جديد في الأمر، فالحالة العامة مشابهة لما كانت عليه قبل سقوط سبتة وماتلا بعد ذلك. ومن عناصر ذلك التشابه أن التدخلات الأندلسية في النزاع الأسري المريني ظلت متمسكة بنفس الأساليب والأدوات. ومن ذلك أيضا، أن الصراع بين مراكشوفاس كان لازال على أشده، منذ انطلاقه في منتصف القرن الثامن الهجري (14م). ويمكن الاستشهاد بقول أزورارا حين لاحظ أن أمراء المغرب لم يتوقفوا عن الصراع على الملك، مشيرا الى أن مدينة سبتة استمتعت بقسط من الراحة خلال ثلاث سنوات تالية لاحتلالها. يظهر أن الخلاف بين أبي سعيد عثمان ومحمد السعيد كان عميقا جدا. فبمجرد تصفية الحسابات مع السعيد ظهر قريب آخر، قالت الحوليات إنه أحد إخوة أبي سعيد، اسمه مولاي يعقوب، كان من جملة اللاجئين الى غرناطة المسلمة، إثر تراجع حركة السعيد (...) وكانت مراكش بدورها في نزاع موروث منذ القرن الماضي مع العاصمة المرينية. (116 117). ويتحدث المؤلف بعد ذلك عن الحصار المغربي لمدينة سبتةالمحتلة، حيث تمكن من تحديد لائحة المشاركين فيه، كما أبرز مثال التضامن المغربي الأندلسي، وانتعاش حركة المقاومة (823 1420 / 834 1430). حيث خصص المبحث الخامس والسادس لهذه المرحلة الزمنية، وقسمها الى فترتين، الفاصل بينهما سنة 1430، بقصد التمييز بين فترة بلغت فيها البلاد والمقاومة حدا كبيرا من التأثر بالنتيجة السلبية التي منيت بها محاولة استرجاع المدينةالمحتلة، وفترة لاحقة عاد فيها غزو القرى المجكسية الى أوجه، لينتهي بتخريب تطوان على يد البرتغال. يتبين انطلاقا من التمعن في مقومات الحصار المغربي على سبتةالمحتلة والظروف التي مر فيها، أن الوضع السياسي لم يكن سليما بمدينة فاس نفسها، ذلك أن مثيري الاضطرابات كانوا مصدر تذمر عميق متولد عن تخاذل الأوساط الرسمية وعدم وعيها بواقع مسؤوليتها تجاه خطر الوجود الأجنبي. ومن هنا تطرق المؤلف لجهاد الجزوليين وجبل حبيب (1420 1424) ، ورئاسة طلحة الدريج السبتي للمقاومة (1427 1429)، وجهاد الشيخ أحمد بن مرزوق المجكسي (833 1430). وأما المبحث السادس والأخير من هذا الكتاب فخصصه المؤلف لانتصار طنجة من أجل سبتة (841 1437) حيث ذكر الجذور التاريخية للحملة البرتغالية على طنجة، والتعبئة الوطنية حيث تميزت المقاومة بتنظيم محكم. ومثلما رسم البرتغاليون من وراء حملة طنجة هدف إيجاد الدعم لسبتة، رأى الوزير يحيى الوطاسي وصالح بن صالح استغلال الانتصار لاسترجاع سبتةالمحتلة. ويكشف لنا نص الاتفاق وأطوار المحادثات المتعلقة بالتنفيذ عن مدى تعلق المغرب المريني بسبتة. «والجدير بالتذكير في نهاية هذه الصفحات عن حركة الجهاد، أن الوعي الوطني المناهض للغزو الأجنبي كان قد تمكن، انطلاقا من ميدان سبتةالمحتلة وخلال ثماني وعشرين سنة، من ترسيخ أبعاده الإقليمية والوطنية، كما أنه لم ينته سنة 847 1443 بإغلاق أمل استرجاع سبتة بعد المفاوضات .... فعلى الرغم من أن المغرب كان على موعد لتلقي ضربات صليبية أخرى مماثلة لما حدث في سبتة وقريبا منها إلا أن شعوره الوطني لم ينضب، بل على خلاف ذلك، تناسبت قوة نموه واتساع نطاقه وتعميق جذوره مع ازدياد خطورة الغزو الأجنبي وامتداد نفوذه...» (ص 199).