كرسي خشبي ضخم جداً – يبلغ ارتفاعه اثني عشر متراً – نُصب في ساحة مفتوحة أمام البوابة الرئيسة لمبنى الأممالمتحدة في جنيف بحيث تبدو أعلام مائة واثنين وتسعين دولة عضو فيها ضئيلة وخجولة أمامه. ليس موقعه الاستراتيجي ولا ضخامته الرمزية وحدهما يثيران اهتمام المارّة .. بل انتصابه على ثلاثة أرجل و(نصف مهترئ) هو ما يدعو للتأمّل والتساؤل: أي رسالة يراد إيصالها للوافدين على الأممالمتحدة أو ربما للقائمين على إدارة مكاتبها ومؤسساتها .. بل - وعلى الأرجح - للمهيمنين على قراراتها .. بوضع كرسي أعرج أمام مبناها؟! وُضع هذا الكرسي أمام مبنى الأمم المتّحدة في عام 1997 من قبل "المنظمة العالمية للمعاقين" على أن يبقى هناك لمدّة ثلاثة أشهر فقط ريثما يتم توقيع "معاهدة أوتاوا" لحظر انتشار الألغام والقنابل العنقودية، وعندما رفضت الدول (العظمى) والمؤجّجة للحروب في العالم توقيع هذه الاتفاقية، تقرّر – بضغط من المنظمات المناهضة للحروب - الإبقاء على الكرسي (ذي الثلاث قوائم) في مكانه تذكيراً بويلات الحرب ومآسيها. قبل أن أدخل مكاتب الأممالمتحدة المنتشرة في جنيف وأتعامل مع موظّفيها الذين يتحلّون بأدب جمّ، وقبل التعرّف عن قرب على إجراءات العمل فيها كنت أرى أنها لا تعدو أن تكون أداة بيد الأقوياء لممارسة تسلّطهم على الضعفاء، وكان يساورني الشكّ في جدوى اللّجوء إليها لإحقاق حقّ أو النيل من ظالم، ولكن – وكدأب كل غريب مجهول عندما يصبح معروفاً – بعد أن تسنّى لي حضور بعض جلسات "الدورة الثالثة عشر لمجلس حقوق الإنسان" المنعقدة الآن، وحضور عدد من الأنشطة الموازية التي تُعقد بالتزامن مع جلسات "المراجعة الدورية الشاملة لمجلس حقوق الإنسان" خلصت إلى أنّ الأدوات والإجراءات المتاحة في أنظمة هذه المنظمة العتيقة ليست استثناء عما عداها من أدوات؛ هي خير إذا طوّعها الأخيار لخدمته، وشرّ إذا استحوذ عليها الأشرار. "مجلس حقوق الإنسان" تأسس قبل أربع سنوات فقط ليخلف "لجنة حقوق الإنسان"، ويُعدّ سلطة أعلى من اللجنة في نظام الأممالمتحدة لأنه يتبع الجمعية العامة مباشرة، وتتحدّد صلاحياته في نشر الاحترام العالمي للمبادئ الدولية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، بدون تمييز من أيّ نوع وبشكل عادل للجميع، ويعمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان. لعلّ من أفضل ما تمخّض عنه هذا المجلس هو مراقبته الدورية لانتهاكات حقوق الإنسان في جميع دول العالم دون استثناء، وتقديم التوصيات اللازمة للحكومات المعنية لوقف مثل هذه انتهاكات أو الحدّ منها، ثم يُعاد بعد أربع سنوات للتأكّد من العمل بتلك التوصيات وهكذا بحيث تستمر عملية التدافع بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني لإحقاق حقوق الناس، بشرط أن تقوم هذه المؤسسات بواجبها في المراقبة والمتابعة الدؤوبة، وإلاّ فلن يكون هذا المجلس خيراً من غيره من لجان ومنظمات تابعة للأمم المتّحدة، ولن ينفع الشعوب ندب حظها إن لم تستثمر هذه الفرص المتاحة لتنتصر لحقوقها المضيّعة بتقديم شكواها على انتهاكات حقوقها في هذا المحفل الأممي. رغم (ورديّة) التقارير الحكومية المعدّة للمراجعة الشاملة، وفقدان الكثير منها لمصداقيتها، إلاّ أنّ مؤسسات المجتمع المدني – منفردة أو بالتحالف مع منظمات من دول أخرى - يمكنها أن تقدّم بياناً لكشف انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في هذه الدولة أو تلك، كما أنّ هذه العملية لا تخلو من تسييس قد يفسد نتائجها المرجوة لإقامة مجتمع العدالة والمساواة، ولكن العمل المنظّم والتخطيط والمبادرة من قبل المخلصين لقضايا المحرومين والقيم الإنسانية الأصيلة من شأنهم أن يعيدوا التوازن ويرجّحوا كفّة الخير على الشر، وينتصروا للحق، كما أنّ الغياب عن المشاركة في هذه الفعاليات يفسح المجال لتغوّل الشر، ولا يخليهم من مسئولية التقصير والتغافل. في رقعة جغرافية صغيرة – نسبيا - في مباني الأمم المتّحدة تلتقي بعدد كبير جداً من جنسيات مختلفة وثقافات متعدّدة، وأعمار متفاوتة من فوق العشرين حتى التسعين، يحملون قضايا لا أول لها ولا آخر، ورغم ذلك فالنفوس هادئة، والهمم عالية، ولا تشعر بوجود تذمّر من أي من الناس، ولا مشاعر غضب منفلتة، كل يمضي إلى حيث مقصده، مؤمّلاً بأن لابد أن يجد له مساحة يعبّر فيها عن رأيه بشرط أن لا يخرج عن أدب التعبير، حتى أنّ لسان حال بعض المتردّدين في أروقة الأمم المتّحدة من المظلومين والمضطهدين يقول "يا ملجأ من لا ملجأ له"!! مع أنه قد يخرج دون تحقيق مأربه إلاّ أنه احتُرم، وقُدّرت قضيّته، واستُمع إليه، ولن يعدم السبيل لإيصال صوته لأعلى مستوى، فله عودة، وسيحصل على حقه ولو بعد حين. لو نجحت مؤسسات الأمم المتّحدة في إشاعة هكذا أجواء بين المتخاصمين في أرجاء العالم لربما نعمت الشعوب بشيء من الاطمئنان إلى أنّ هناك من سيعينها على استرجاع حقوقها إن آجلاً أو عاجلاً، وبالتالي لاستطاعت أن تفكّر برويّة وعقلانية لانتزاع حقها دون اللّجوء إلى المواجهات العنيفة أو الحروب الدموية، ولكن سيبقى كرسي الأمم المتّحدة هذا أعرجاً، فاقداً للتوازن، مخيّباً لآمال المظلومين، إذا لم تُعَد النظر في قوانينه التي صيغت بأيدي الأقوياء لحماية أنفسهم ولو على حساب الضعفاء والمحرومين، وسيأتي اليوم الذي ينقلب هذا الكرسي الأعرج ويلقي أرضاً بمن تربّع على عرشه بلا أهلية لنشر العدل وقمع الظلم، أو أن يبقى أعرجاً إلى أن يتكاتف المؤمنون بالتغيير والإصلاح ونشر العدل والسلام من شتّى أصقاع الأرض – مهما يكن عددهم أو عدّتهم - يجمعهم همّ واحد ليملئوا هذا الفراغ، ويقدّموا العمل تلو العمل ليرمّموا ما أفسده الكبار، ويجنّبوا العالم ويلات حرب ثالثة لا طاقة لأحد بها.