د. عبد اللّطيف الحنّاشي تحولت القارة الأفريقية، من جديد، كفضاء تتنافس على اختراقه الدول الكبرى وذلك لما يتمتّع به من ثروات طبيعية وطاقية ومنجمية مختلفة بالإضافة إلى موقع القارة الاستراتيجي الذي حافظ على أهميته بالرغم من تراجعه النسبي بعد انتهاء الحرب الباردة. وتسعى الصين في هذا المجال للاستفادة من تلك الإمكانيات بهدوء وذلك بتنفيذ مشروع بديل للشراكة الاقتصادية والاستراتيجية مع الدول الأفريقية قائم على «المساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة» والفصل الإرادي بين التنمية الاقتصادية والإصلاحات السياسية، بقيم جديدة بعيدة عن سلوك الغطرسة والهيمنة التي كانت القوى الغربية تمارسها في علاقاتها مع الأفارقة سواء خلال المرحلة الاستعمارية أو بعد الاستقلال. تزامنت علاقة الصين الجديدة والمباشرة بأفريقيا مع بروز حركة عدم الانحياز ومؤتمر «باندونغ» في أفريل 1955، وتعززت بعد نيل الدول الأفريقية استقلالها، واتخذت أبعادا جديدة بعد أن بدأ اهتمام الغرب بالقارة يتقلص نسبيا منذ انتهاء الحرب الباردة، ومع «فورة» النمو الاقتصادي التي أخذت تعرفها الصين منذ أواخر القرن الماضي وتَغيُّر أولوياتها. إذ أصبحت الصين تبحث عن توسيع مجال تأمين موارد طاقية ومنجمية وتوفير أسواق ومناطق جديدة لتصريف إنتاج مؤسساتها الاقتصادية والمالية. ويأتي اهتمام الصين بأفريقيا كذلك لما تتمتّع به الكثير من دولها من إمكانيات طاقية واعدة من حيث الإنتاج أو الاحتياط أو الاثنين معا بالإضافة إلى الجودة العالية لنفطها ونوعيته المتميزة «احتواؤه على نسبة ضئيلة من الكبريت» ووقوع معظم الثروة النفطية الأفريقية في عرض البحار الأمر الذي يجعله في منأى عن أي نوع من الفوضى السياسية والأمنية... ويظهر أن الجولة التي قام بها الرئيس الصيني «هو جين تاو» مؤخرا إلى ثماني دول أفريقية «الكاميرون وليبيريا والسودان وزامبيا وناميبيا وجنوب أفريقيا وموزنبيق وسيشيل» هي بغاية التعبير عن إصرار الصين على الوفاء بتعهداتها في ما تم الاتفاق حوله في قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي التي عقدت في نوفمبر 2006، من ناحية، ومواجهة الإغراءات الأمريكية والأوروبية التي تقدَّمُ لبعض الدول الأفريقية، من ناحية أخرى. ويتميّز الحضور الصيني في أفريقيا ب»الفرادة» والتنوع في جميع المجالات والقطاعات: التجارة والزراعة والصيد البحري وفي قطاع البناء وأشغال البنية الأساسية وحتى في مجال الرياضة ومصانع السلاح الخفيف والتدريب العسكري، وصولا إلى تشييد المولدات الكهربائية ومدّ القنوات المائية والقطاع الصحي.. وقامت الصين بإسقاط الضرائب عن نحو 190 سلعة من الصادرات الأفريقية «ستصل خلال هذه السنة إلى 440 سلعة»، وهو ما أدى إلى ارتفاع حجم تجارة الصين مع أفريقيا؛ إذ سجل ارتفاعا بنحو 30 في المائة بين 2002 وسنة 2007، 52.3 مليار دولار سنة 2007، وبلغت التجارة خلال 2008 رقماً قياسياً قدره الخبراء الصينيون ب106،84 مليارات دولار، أي بارتفاع يقدر بنحو 45،1 في المائة خلال سنة 2008. وبلغت الصادرات الصينية باتجاه أفريقيا لنفس السنة 50،84 مليار دولار أي بزيادة 36،3 في المائة؛ أما واردات الصين من أفريقيا فقد بلغت 56 مليار دولار، أي بنسبة ارتفاع 54 في المائة. أما بالنسبة إلى القطاع المالي فتقدم الصين للعديد من الدول الأفريقية قروضا بدون فوائد وأخرى بفوائد بسيطة جدا تدفعها على مدى زمني طويل، كما قامت مؤخرا بإلغاء ديون31 دولة أفريقية. وباشرت الصين تنفيذ الإجراءات التي تمّ الاتفاق حولها خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي؛ من ذلك إقامة ما بين ثلاث إلى خمس مناطق تعاون اقتصادي في أفريقيا، وتخفيف أعباء الديون المستحقة على بعض الدول الأفريقية التي لها روابط دبلوماسية مع الصين، وبناء 30 مستشفى و30 مركزا للوقاية وعلاج الملاريا، وتقديم 3 مليارات دولار أمريكي من القروض الميسرة وإقامة صندوق «تنمية الصين_ أفريقيا» برأسمال يقدر بنحو 5 مليار دولار بهدف تشجيع الشركات الصينية على الاستثمار في أفريقيا وتوفير الدّعم لها، وبناء مركز لمؤتمرات منظمة الاتحاد الأفريقي بهدف «دعم الدول الأفريقية في جهودها لتقوية نفسها ودعم عملية التكامل الأفريقي» وفتح أسواق الصين أمام الدول الأفريقية من خلال مضاعفة التسهيلات الجمركية... وعلى المستوى الاجتماعي تعمل الصين على تدريب 15 ألف عامل أفريقي وإرسال 100 من كبار الخبراء الزراعيين إلى دول أفريقية مختلفة وإقامة 10 مراكز خاصة للإدارة الزراعية والتكنولوجية، كما باشرت الصين بتقديم ما وعدت به لدعم للقطاع الصحي؛ من ذلك منح تقدر ب43،9 مليون دولار لتوفير مادة «الأرتيميسينين» الضرورية لعلاج الملاريا وبناء 30 مركزا للوقاية منه، كما شرعت في إنشاء 100 مدرسة ريفية، ومضاعفة عدد المنح الدراسية التي تمنحها الحكومة الصينية للطلاب الأفارقة من 2000 منحة كل سنة إلى 4000 قبل نهاية عام 2009... ولا يفسر هذا «الكرم» الصيني، حسب الكثير من المحللين، برغبة هذه الدولة لكسب المزيد من الأصدقاء الأفارقة لدعم موقفها في الأممالمتحدة أو لدعم وجودها الاقتصادي فقط، بل إن الأمر يرتبط أساسا بعقود ذات علاقة بموارد طاقية ومنجمية، إذ يمثل النفط 25 % من واردات الصين من أفريقيا «60 % من إنتاج السودان والربع من إنتاج أنغولا ثم كينيا ونيجيريا» كما تستورد مواد أولية ومنجمية مختلفة مثل النحاس والنيكل والحديد والبوكسيت والأورانيوم كما تستورد الصين الأخشاب أيضا من أفريقيا. أما على الصعيد السياسي فقد تمكنت بكين أيضا من تحقيق عدة مكاسب منها تهميش تايوان في القارة الأفريقية «6 دول أفريقية من 53 دولة تعترف بتايوان» مقابل كسب علاقات جديدة مع دول أخرى كأفريقيا الجنوبية والسنغال وليبيريا؛ كما أن أصوات الدول الأفريقية التي تمثل ثلث الأصوات في منظمة الأممالمتحدة تمثل احتياطا دبلوماسيا للصين تستخدمه عند الحاجة... وفي المقابل لا تتردّد الصين في الدفاع عن دول القارة على الساحة الدولية والعمل على دفع المجموعة الدولية لتفهّم معاناة أفريقيا ومشاكلها وبالتالي مساعدة دولها لمجابهة تلك المشاكل... ويظهر أن من بين أهداف الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الصيني إلى أفريقيا إظهار وفاء بكين لتعهداتها تجاه الدول الأفريقية وتصميمها على ذلك، عكس الدول الغربية التي قامت بتخفيض حجم المساعدات التي تقدمها للدول الأفريقية، وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم من ناحية، واستعداد بكين للتعامل مع كل الدول الأفريقية بغض النظر عن امتلاكها للموارد الطبيعية أو عدم امتلاكها، من ناحية أخرى. وعلى الرغم من النقد الذي يوجهه الاتحاد الأوروبي للصين تجاه مواقفها الداعمة للأنظمة الديكتاتورية في أفريقيا وطريقة تقديم القروض لبعض الدول التي تعاني من عبء ديون سابقة، وأيضا اتهام بكين بعدم احترام المواصفات الاجتماعية للعمل والبيئة.. فإن الاتحاد الأوروبي قد عبّر مؤخرا عن تفهّمه للنشاط الصيني في أفريقيا في الوقت الذي عبّرت الصين بدورها عن استعدادها لعقد شراكة مع الاتحاد الأوروبي في أفريقيا لكن في إطار احترام الأفارقة وسماع صوتهم. وبغضّ النظر عن كل ذلك، فقد أقرّ العديد من الاقتصاديين الغربيين بأهمية نموذج التعاون الاقتصادي بين الصين ودول أفريقيا ونجاعته في حلّ مشاكل القارة المستعصمة، وبالتالي المساعدة على تحقيق تنمية مستديمة متوازنة. فهل تكون هذه العلاقة، على تعلاتها المفترضة، نموذجا بديلا عن علاقة الدول الكبرى بدول الجنوب؟!