في الصورة الجنرال الأمريكى وليام وارد، قائد القيادة العسكرية الأمريكية بإفريقيا بعد محاولات عديدة، باء جميعها بالفشل لتركيز مقر القيادة الإفريقية للقوات الأميركية في بلد مغاربي أو مُطلٍّ على الصحراء الكُبرى، انطلق العمل من المقر الحالي في شتوتغارت بألمانيا، بوصفه المقر الدائم، حسبما جاء في موقع "أفريكوم" على شبكة الإنترنت. مقر القيادة الخاصة بإفريقيا، الذي يرأسه الجنرال وليام وارد، هو إحدى القيادات السِتّ، التي تتألف منها القيادة العامة للجيوش الأميركية. "" وأتت هذه الانطلاقة في أعقاب تحضيرات استمرّت نحو 18 شهرا، لكن لم يُعلن عن إنشاء "أفريكوم" إلا في فبراير من العام الماضي. وبرهن إخفاق المساعي الأميركية لدى الدول المغاربية، وخاصة الجزائر وموريتانيا، على حرَج الدول المعنِية من استضافة قيادة تُثير من المشاكل وردود الفعل، أكثر ممّا تجلب من الفوائد، خصوصا في ظل رئيس أميركي منتهية ولايته. وعزا الباحث أحمد ونيس، الدبلوماسي التونسي، التحفّظات التي أبدتها البلدان الإفريقية على استضافة مقرّ "أفريكوم" إلى الحِرص على تفادي التورّط مع أميركا، لأنه يجلب نِقمة "القاعدة" عليها. واستبعد ونيس، الذي عمِل سفيرا في عواصم عدّة، بينها موسكو ومدريد ونيو دلهي وواشنطن، أن تكون البلدان المغاربية اعتذرت عن احتضان "أفريكوم" مراعاة لفرنسا، ذات النُّفوذ الاقتصادي والعسكري القوي في المنطقة. وقال إنه تقابَل مع جنرال أميركي، كان مكلَّفا بإجراء مفاوضات مع الحكومات المغاربية حول الموضوع، فعبّر له عن تفهُّمه للمصاعِب التي تُبرِّر رفض العرض الأميركي. واللافت، أن الزعيم الإفريقي الوحيد الذي رحب باستضافة مقر قيادة "أفريكوم" في بلده، هو رئيس ليبيريا إلين جونستون سيرليف، لكن الأميركيين هُم الذين تحفَّظوا هذه المرة، ربما لبُعد البلد عن مركز الدائرة التي تهمُّهم. غير أن تحاشي استضافة مقرّ القيادة أو قواعد أميركية في المنطقة، لا يعني رفض الإنسجام مع الإستراتيجية الأميركية، بل يدُل على انخِراط في الخُطط والبرامج، من دون "ابتلاع" الهياكل المُحرجة. ويتجلى ذلك الانخراط في المشاركة الدورية والمنتظمة للبلدان المغاربية في المناورات العسكرية، التي تُجريها سنويا القوات الأميركية في البلدان المُطلَّة على الصحراء الكبرى، حيث مسرح عمليات "القاعدة"، وستُشرف "أفريكوم" في المستقبل على تلك المناورات وتُخطّط لها وتُؤطرها. وفي هذا السياق، اعتبر مصطفى السحيمي، المُحلل والإعلامي المغربي أن "البراغماتية فرضَت منطِقها مرّة أخرى، إذ أن المغرب العربي (وإفريقيا بأسرها)، وجدا نفسيهما مشحونين في قِطار المعادلة الأمنية والعسكرية الأميركية، التي كان في وسعهم الإفلات منها"، وأرجع انطلاق هذه المعادلة إلى ندوة "الشراكة العابرة للصحراء من أجل مكافحة الإرهاب"، التي استضافها السينغال في 7 فبراير 2007 بمشاركة رؤساء أركان كل من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا (ليبيا غير مشاركة) والنيجر ومالي والتشاد والسينغال ونيجيريا، بإشراف الجنرال وارد، الذي كان آنذاك مساعدا لقائد القوات الأميركية في أوروبا، وأفاد أن المهمّة المركزية ل "افريكوم"، التي رُصدت لها مُوازنة سنوية تتراوح بين 80 و90 مليون دولار، تتمثّل في "ضرب قُدرة المتطرّفين المسلّحين على قتل المدنيين الأبرياء أو إصابتهم بجروح، طِبقا للطرح الأميركي. وفي هذا الصدد، أوضح روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي أن "أفريكوم ستمكِّن الولاياتالمتحدة من أن تكون لها نظرة أكثر فعالية وتماسُكا في إفريقيا، على أنقاض الرؤية الحالية التي هي من مخلَّفات الحرب الباردة". تداعيات 11 سبتمبر على هذا الأساس، سيُعهد ل "أفريكوم" بتطوير التعاوُن العسكري مع البلدان الإفريقية التِّسعة و"كذلك قيادة عمليات حربية عند الإقتضاء"، ويُقدّم رئيس قيادة "أفريكوم" تقاريره مُباشرة إلى رئيس الدولة الأميركية، أسوة برؤساء القيادات الإقليمية الخمس الأخرى في العالم. وتشكِّل "أفريكوم" إحدى تداعِيات تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي قرّرت الإدارة الأميركية في أعقابها شنّ حرب وقائية على الإرهاب على بُعد آلاف الكيلومترات عن أراضيها. ومن هذا المنظور، أجريت المناورات المشتركة الأولى، التي شاركت فيها قوات من البلدان المغاربية ودُول الساحل والصحراء، بقيادة أميركية في يونيو 2005 تحت إسم "فلينتلوك". أما تيريزا والن، مساعدة وزير الدفاع الأميركي، فاعتبرت في مَقال منشور على موقع القيادة الإفريقية أن "أفريكوم" ستكون الجُزء الأكثر بروزا من التحرّكات الأميركية، لتعزيز العلاقات في الساحة الإفريقية، واعتبرتها أهمّ أداة لتقديم العَون الأميركي للبلدان الإفريقية في المجالات العسكرية وغير العسكرية أيضا. ومما أورده موقع "أفريكوم" على شبكة الإنترنت، أن هذه القيادة ستُؤمِّن مَناخا مضمونا وآمنا للسياسة الأميركية في إفريقيا، بالتعاون مع وكالات حكومية وشركاء دوليين. وعبّرت والن في ردِّها على التعاليق، التي انتقدت عسكرة السياسة الخارجية الأميركية أو أبدت شكوكا في دواعي إنشاء القيادة الجديدة، عن يقينها بأن"افريكوم" "ستصبح أمرا أليفا في المشهد الإفريقي". وتأتي فرنسا في مقدِّمة الذين يشعرون بالضّيق من التمدّد العسكري الأميركي في شمال إفريقيا، على رغم التوجّه الأطلسي لرئيسها الحالي، ولعل هذا ما يجعل المنافسة بين الأميركيين والفرنسيين في هذه المرحلة الجديدة، تكتسي أبعادا مختلفة عن الماضي، إذ أنها مُركّزة على الإقتصاد. ويرى هشام بن يعيش، الباحث التونسي المُقيم في فرنسا، أن الانسجام بين ساركوزي والولاياتالمتحدة يعود إلى سنة 2004، عندما كان الأول وزيرا للداخلية، فاحتضنته "اللجنة اليهودية الأميركية"، وأوضح أن رئيس اللجنة ديفيد هاريس والطاقم العامل معه، "أنجزا عملا بالغ العُمق في الأوساط المؤثرة في واشنطن من أجل نحْت مكانة مُميّزة لساركوزي داخلها". ولعب جان دافيد لوفيت Jean-David Levitte، السفير الفرنسي المُعتمد آنذاك في واشنطن، دورا هامّا في إكمال المهمة، وهو حاليا مسؤول الخلية الدبلوماسية في الإيليزي (قصر الرئاسة الفرنسي)، وأضاف أن الولاياتالمتحدة حصدت ثِمار تلك الجهود الدَّؤوبة خلال زيارة ساركوزي الأولى لأميركا، بصفته رئيسا منتخبا، إذ كرّس عودة الشراكة الأطلسية بين فرنسا وغريمتها السابقة الولاياتالمتحدة. مطامع اقتصادية لكن، طالما أن المسؤولين الأميركيين أقرّوا دائما بأن سياساتهم تخضَع لمنطق المصالح ولا شيء سوى المصالح، ينبغي البحث عن المنافع التي تكمُن وراء إنشاء القيادة العسكرية الخاصة بإفريقيا، وأول ما يتبادر إلى الذِّهن، هي المطامع النفطية، إذ أن 15% من واردات الولاياتالمتحدة من النفط، تأتي من القارّة الإفريقية، ويُرجّح الخبراء أن يرتفع الإعتماد على النفط الإفريقي إلى 25% في العقد المقبل. وعلى هذا الأساس، يربط باحثون كُثر، بمن فيهم شخصيات أميركية، بين "أفريكوم" وإرادة التحكُّم في إمدادات الطاقة المعروفة في القارّة. ويعتبر مارك فنشر، عضو الندوة الأميركية للمحامين السُّود، أن القيادة العسكرية الخاصة بإفريقيا "ليست سوى أداة لضمان نفاذ الصناعة النفطية الأميركية إلى احتياطات الطاقة الواسعة في القارة. وإذا ما حاول أحد التدخل في الأمر، نخشى أن تُلصق به تُهمة الإرهاب ويصبح هدفا لهجمات عسكرية". ويُحيل موضوع السّعي الأميركي للسّيطرة على منابع النفط في إفريقيا على المزاحمة الصينية – الأميركية في السودان، التي يعزوها باحثون محايدون إلى الصِّراع على نفط دارفور وتشاد. ويرى الباحث الجزائري محمد سعدون أن "الإختراق الإقتصادي، الذي حقَّقته الصين في قارّة غنية بالثروات الطاقية، هو السبب الأساسي وراء الإرادة الأميركية لضمان حضور عسكري مُباشر في القارة". غير أن السفير أحمد ونيس استبعد تطوّر الإنتشار الاقتصادي الصِّيني إلى حضور عسكري، وأكّد أن البلدان الإفريقية تشجِّع التّعاون مع الصين وتُفضِّله، لشعورها بكونه بلدا بعيدا جغرافيا ولديه التكنولوجيا، وغير مرشحة لتقديم طلبات مثل التي قدّمها الأميركيون بشأن استضافة "أفريكوم". وقال السفير التونسي السابق لسويس أنفو: "هناك مزاحمة على النفوذ، غير أن إفريقيا تتجنّب الانخراط فيها، لأن هناك دروسا لم تُنْس في هذا المجال". إلا أن التقليل من أهمية الصِّراع الصيني – الأميركي لا يُخفي الإطار الشامل الذي تتحرّك ضمنه السياسة الأميركية في القارة. فالحرب الوِقائية التي تخوضها الولاياتالمتحدة ضدّ ما بات يُعرف ب "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، ترمي للحُؤول دون حصولها على ملاجِئ آمنة في بلدان الساحل أو انتشارها شرقا نحو منطقة القرن الإفريقي، وواضح أن القيادة العسكرية الأميركية تشعُر بالقلق من الوضع في شرق أفريقيا، لكونها ترى فيها قاعدة خلفية لتنظيم "القاعدة" وجِسرا نحو أفغانستان عبر الصومال، وهذا ما حملها على اتِّخاذ جيبوتي قاعدة عسكرية يتمركز فيها 1800 عنصر من المارينز، بالإضافة لتمركُز مجموعة من القِطع البحرية والجوية الأميركية حول حاملة الطائرات دوايت أيزنهاور في سواحل الصومال المجاورة لجيبوتي. غير أن الجنرال وارد أكّد لدى سماعه أمام أعضاء لجنة الدّفاع في مجلس الشيوخ الأميركي في مثل هذا الشهر من العام الماضي، أن دور "أفريكوم" سيقتصِر على حماية الحدود وضمان الأمن البحري (أمن السّفن)، وتنفيذ عمليات في إطار مكافحة الإرهاب، ونحى جانبا أي إمكانية لإقحام الولاياتالمتحدة في عمليات ترمي لحماية مصادر الطاقة في القارة. كما أن برامج "أفريكوم"، باتت خاضعة لمراقبة الأجهزة الأميركية المكلّفة بالتعاون من أجل التنمية، ربما لنزع الطّابع العسكري عنها. ويستدل الأميركيون على ذلك، بتعيين مساعدين للجنرال وارد الأول عسكري، هو الأدميرال المساعد روبرت موللر Robert T. Moeller، المكلف بالعمليات، والثانية هي السيدة ماري كارلين ياتز Mary Carlin Yates، الدبلوماسية في الجهاز الخارجي، الذي يسهَر على المساعدة التنموية، وإليها أحيلت مهمّة التوفيق بين المساعدات العسكرية وتلك ذات الطابع المدني البحت، بحُكم خِبرتها السابقة في كل من وزارة الخارجية ومؤسسة المساعدة من أجل التنمية. ولعل هذه التجربة الجديدة في "أفريكوم"، هي المرة الأولى التي يخضع فيها نشاط عسكري أميركي لرقابة المدنيين وتوجيهاتهم. لكن على رغم محاولات الطَّمأنة الأميركية، التي تسعى لإشعار الحكومات الإفريقية المُهدّدة بعمليات "القاعدة" (الحقيقية حينا والمُتخيلة في غالب الأحيان)، بأن حليفا قويا يقِف إلى جانبها، أتت النتائج على عكس الآمال المُعلنة، إذ تكثفت العمليات في موريتانيا والجزائر واتّخذت منحى تصاعُديا في النيجر ومالي وتشاد، ممّا يوحي بأن تواري القوات الأميركية عن المنطقة، سيكون ربّما أفضل من وجودها.