نود بداية لو تحدثينا عن أولى بوادر موهبتك الفنية سميرة القادري فنانة سوبرانو باحثة في موسيقات البحر الأبيض المتوسط متخصصة في الغناء القرسطوي. أغني بالعربية أندلسيات المغرب العربي- بالقشتالية القديمة أغني الغاتيغا – بالادينو والحكايتية أغاني السفرديم لشمال المغرب وبلغة الأوك أغاني الشعراء المتجولين لجنوب فرنسا وشمال إسبانيا . وبالسريالية تراتيل الكنائس الشرقية . خريجة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط درست الصولفيج والهارمونيا والبيانو على يد المؤلف الموسيقي مصطفى عائشة الرحماني بالمعهد الموسيقي والرقص بتطون . أخدت أصول الغناء الكلاسيكي الابرالي على يد السوبرانو صفية التجاني . تتلمذت على يد نخبة من الأساتذة داخل المغرب وخارجه أمثال المطزو السوبرانو الهام الوليدي في مادة تقنيات الصوت و من إسبانيا Miguel Angel Hortas . كما تلقيت دروسا مكثفة تخصص في الغناء القرسطوي والباروكي على يد أساتدة من المعهد الوطني للموسيقى بباريس . يلاحظ من خلال أعمالك الفنية طغيان الجانب الصوفي والتراثي عليهما كيف تفسرين ذلك؟ نشأت في كنف أسرة تنتمي إلى الزاوية القادرية الشرقاوية هذا ما جعل الحس الصوفي حاضرا بقوة في إبداعاتي الفنية لأغاني مستوحاة من إرث عربي إيبيري . موهبتي كانت حاضرة في البيت . ميولي للموسيقى والغناء شجعني عليه كل من والدي وأفراد عائلتي الذين عرفوا بثقافتهم الصوفية بالزاوية التي ننتمي إليها . لا زال عالقا بذاكرتي ذكريات تتعلق بالغناء الصوفي النسائي أو ما يعرف بغناء" الفقيرات" حفظته من جدتي وخالاتي ، بالإضافة أني كنت حاضرة كطفلة في كل الحفلات المدرسية . إلى جانب هذه الطقوس التي أثرت مساري فيما بعد حظيت بطبيعة عمل والدي كإطار في مصلحة المياه والغابات ، حيث كانت عائلتي تنتقل كل ثلات سنوات لنكون بذلك قد جلنا عبر ربوع المملكة، الشيء الذي جعلني أجول وأتعرف وأتعايش في كل مرحلة من مراحل حياتي لأكتشف بلدي المغرب بكنوزه وثرائه الطبيعي والبشري والثقافي ، هذا أهلني للتشبع بأهازيج الأطلس والطقطوقة الجبلية لمناطق الشمال والغناء الصوفي . ماذا عن التجربة الفنية و الإبداعية لسميرة قادري؟ أقسم تجربتي الموسيقية إلى مرحلتين الأولى مرتبطة بتخصصي في أداء مؤلفات الراحل مصطفى عائشة الرحماني . أستاذي الذي ركبت معه صهوة المغامرة في أداء ريبرطوار منفرد في الوطن العربي على مستوى الموسيقى العالمية في فن الليد والكانطاطا والمونودراما الابرالية . غنيت 90 عملا من تآليف خيرة من الشعراء أمثال جبران خليل جبران – نزار اقباني –غارسيا لوركا- بدر شاكر السياب-سارغيو ما تياس .... أثمرت هذا الانشغال عن تجربة إنسانية متفردة في أداء الشعر العربي في قوالب أكاديمية عالمية . فصدرنا أول ألبوم لمجموعة ليديرية للسوبرانو بالرغم من صعوبة التجربة وانحصارها داخل النخبة فقد استطعنا أن نقتحم فضاء المو سيقى العالمة ونطوع فيه إمكاناتنا وخصوصياتنا كمغاربة . فاعترضتنا عدة صعوبات بسبب انعدام ثقافة الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية وعدم توفرنا على نقاد أكاديميين قادرين على تقديم قراءات نقدية تقرب الجمهور الينا . المرحلة الثانية تتجلى في تخصصي في البحث والتنقيب في الثراث الأندلسي لبلدان البحر الأبيض المتوسط رفقة فرقتي أرابيسك . كيف جاءت فكرة الاشتغال والاهتمام بالتراث ؟ بدأ اهتمامي بالتراث والانشغال عليه بشكل جدي حين اشتغلت رفقة مصطفى عائشة على عمل مشترك مع موسيقيين أجانب كونا معا فرقة مختصة في موسيقى الحجرة , الإبداع كان سنة 2002 بعنوان" غراميات في حدائق الاندلس "والذي قمنا بعرضه داخل المغرب وخارجه . وهو من الإبداعات المستحسنة في نفسي نظرا لما لقي من اهتمام من قبل جمهور راقي . بفضل هذا اكتشفت ثراء تراثنا الفني المتشعب مما جعلني أعتبر نفسي سفيرة لهذا الإرث الحضاري كلما وقفت على خشبة مسارح العالم لأقول بصوت عال أنا مغربية لنا كفاءات كعرب وكمسلمين ولنا خصوصيات تؤهلنا لتقتحم البيوت العالمية في أداء تراثنا بقوالب عالمية . لقائي وتعرفي على موسيقات البحر الأبيض المتوسط جاء نتيجة مشاركتي كسوبرانو في الملتقى الموسيقي لمدارس البحر الأبيض المتوسط بإسطنبول سنة 2001 ، فأثار فضولي استماعي لمجموعة من الأغاني القديمة بلغة قديمة تتشابه وتتقاطع مع صنائع من موسيقى الآلة , أسئلة كثيرة حيرتني واستفزتني حتى وجدت نفسي منغمسة للبحث المقارن في نماذج موسيقية أحسست أنها لنا ...وللجواب على هذه الأسئلة ألزمتني الوقوف للبحث أكاديميا والعمل على تفسير وتشفير ما تتضمنه بعض المكتبات والمتاحف . تجولت من مكتبة إلى أخرى ومن مخطوط إلى آخر لأصل إلى أن هذا التطابق مصدره ومنبعه تلاقح الثقافات تعايشت وانصهرت لتكون ثمرة إرث ثقافي إنساني بأرض الأندلس. في كل مرحلة من هذه الرحلة الموسيقية التي امتدت من الأندلسي لتشمل كل بقاع البحر المتوسط يزيد إيماني وعزمي في الخوض في غمار كنوز كانت ولازالت من صناعة أجدادنا الأندلسيين . فاشتغلت بمعية فرقتي الموسيقية أرابيسك التي تضم خيرة من العازفين المتميزين الذين آمنوا بهذه الرسالة لم أتردد في طرح عدة أسئلة لأصل إلى حقائق جد مهمة تهم دور الأندلسي المسلم في خلق حضارة كبيرة عبر العالم الأوربي . فاشتغلت رفقة أرابيسك على كل النماذج الموسيقية التي استمدت مادتها من الموسيقة الأندلسية باعتبارها الموسيقى الأم .لأقول كلمتي أولا وأخيرا – نحن أندلسيون في كل الأزمنة والأمكنة . أنتم تعلمون أنني أهتم بكل ثراث متوسطي مستمد من الأندلس ، وهذا ما يجعل الريبرطوار الذي أشتغل عليه يكون غالبا صلة وصل بين الشرق والغرب بتلوينات لغوية متصلة فيما بينها . كل هذا مكنني من الحضور في الساحة الموسيقية العالمية ، وبالتالي جعلني أسلك تجربة متفردة في الموسيقى العالمة التي تقترن بالبحث الأكاديمي ،لأترجم عبر الأحاسيس والإيقاعات النغمية عدة رسائل إنسانية فلا أكف عن طرح أفكار عالقة بذهني ، أستحضر هنا أسئلة كثيرة راودتني حول القضية الموريسكية والتي أعتبرها امتدادا للقضية القلسطينية ،لو كانت أجهزة الإعلام لأوصلت لنا محنة أجدادنا وما عانوه من تشرد وظلم عند طرهم من بلاد الأندلس المسلمة . رقصة موريسكية هي آخر إبداع لي رفقة مغنية الفلامنكو روسيو ماركيز ،تقاسمنا التجربة لنعبر بصوت واحد عن محنة امرأتين منحدرتين من طبقتي الغجر والمورسكية مهمشتين في المجتمع الإسباني للقرن 17 . تقاسمنا بصوت واحد قصائد من الثرات المدجن وأخرى من الغناء الفلامنكو وأخرى من الغرناطي لنقول بصوت واحد نحن امرأتين منحدرتين من ثقافة واحدة أصولها وعروقها منغمسة في أرض واحدة , أرض الفردوس المفقود . نعلم أن سميرة قادري قد أحرزت مؤخرا عدة جوائز عالمية، ما قيمة ذلك في مسارك الفني على وجه الخصوص؟ إنني محظوظة بهذا الاختيار الصعب لأنني لم أكن أضع في حسباني أن ما أقدمه للجمهور سيحظى يوما ما باهتمام النقاد أو حتى الحوز على جوائز . جاء نتيجة أفكار عنيدة استهوتني واستفزتني لأوظف صوتي قلما ينبش في خبايا ذاكرة قوية نستمد منها وجودنا الإنساني والحضاري . أريد فقط عبر إبداعاتي الفنية ان أعيب على كل جيران الضفة الأخرى حين ينعتون المسلمون بالإرهابيين والمجرمين و...... أريد أن أعبر عبر الموسيقى والميلوديات أننا أسياد حضارة كبيرة كنا صناعها . جيراننا يعيشون من خيراتنا من أثارنا ، أريد أن أذكر كل من نسي أو تناسى دور الأندلس في إرساء أخلاقيات الإسلام السمحاء الداعية إلى حوار الثقافات ، واحترام الأديان السماوية الأخرى . حصولي على جوائز وطنية وعالمية سواء تعلق الأمر بلوبي النساء المبدعات سنة 2007 أو تتويجي من قبل المجلس الوطني للموسيقى التابع لمنظمة اليونسكو سنة 2008 وأخيرا تتويجي بباريس ضمن تسع شخصيات مغربية من قبل أكاديمية الفنون والعلوم والآداب بباريس سنة 2010 كل هذا يزيد من قلقي للعطاء في ما هو أجود. من المعلوم أنك فنانة المفاجآت بامتياز، إذ مافتئت تفاجئين جمهورك بأعمال وإبداعات جديدة، فما جديدك هذه السنة؟ انتهيت مؤخرا رفقة أرابيسك من تحضير عمل جديد اشتغلت فيه على أغاني المهد لبلدان البحر الأبيض المتوسط لأقدمه في حفل مرتقب بفرنسا يوم 8 مارس المقبل الذي يصادف اليوم العالمي للمراة . وعمل آخر بعنوان "رياض العاشقات" رفقة مجموعة نسائية مرتقب بمهرجان موازين و عروض أخرى بباريس . كما أنني منكبة على تداريب رفقة مجموعة أرابيسك بقيادة الفنان نبيل أقبيب والفرقة الفرنسية للفلارموني بقيادة المايسترو تياري وبير لعمل مشترك بعنوان "رياض الحب"، كما لنا مجموعة عروض خلال شهر أبريل المقبل داخل وخارج المغرب . كيف توفقين بين العمل كفنانة ومديرة دار الثقافة في نفس الآن؟ علاقتي بعملي علاقة مقدسة ، أعتبر دار الثقافة بيتي الأول منذ أزيد من 19 سنة وأنا حاضرة في هذا البيت الثقافي الذي من خلاله أستمد طاقاتي الفكرية والفنية لما يعرفه الفضاء من أنشطة ولقاءات بين فعاليات المجتمع المدني ورجال ونساء المدينة . راكمت تجربة عملية في مجال التدبير الثقافي والفني أهلتني أن أؤسس وأشرف على بعض المهرجانات الوطنية أذكر منها المهرجان الدولي للعود – مهرجان أصوات نسائية في دورته الأولى و ملتقى الأندلسيات بشفشاون . كما أدير جمعية إيكوم للتبادل الثقافي بين دول البحر الأبيض المتوسط فرع المغرب . فالتوفيق بين المهمتين يستوفي مني ألا تصادف أنشطتي الشخصية برامج نشرف عليها في إدارة المديرية الجهوية للثقافة .و بالتالي كربة بيت وأم لطفلين يحد من تواجدي في كل المحافل التي أستدعى إليها . ولأوفق بين دار الثقافة والفن الذي أمارسه لابد أن أكون في خدمة دار الثقافة وألا أتردد في كل فرصة تتاح لي لكي أعرف ببلدي وبتطوان وهذا إيجابي جدا بكوني أرتدي قبعتين كل واحدة في خدمة الأخرى . نعلم أن سميرة قادري تتعرض لحملة إعلامية كبيرة، فكيف تتعاملين مع هذه الحملة؟ وهل سيكون لها انعكاسات على أعمالك الفنية والثقافية؟ بالفعل هي حملة تشهيرية شرسة من قبل أعداء النجاح استهدفوا تدميري عائليا وفنيا وعمليا. استعملوا كل أنواع الابتزاز والمساومة مستغلين ما تتيحه الآن وسائل الأنترنيت والفبركة الإلكترونية . تعرضت لكل أنواع الإرهاب النفسي، ذنبي الوحيد أنني سلكت طريقا فنيا مراميه ثقافية خالصة . أقول من خلال جريدتكم الغراء أنني صامدة وواثقة من نفسي بحب الله لي وعونه وإيماني القوي بفضل عائلتي وخاصة زوجي وأبنائي وبفضل كل من بؤمنون برسالة الفن الراقي، أجتاز هذه المحنة العابرة وأختم قولي: الحق يعلو ولايعلى عليه، كلام وفعل نشره أشباه بشر ومن يدورون في فلكهم وأصبح مثل الزبد يذهب جفاء . سأظل أقاوم بالموسيقى أولا ثم بالموسيقى أخيرا . لاسلاح لي أقوى وأنبل من من الإبداع، فالضربات التي لا تكسر فهي تقوي.