من منفاه بالقاهرة، بعث الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1960 رسالة بها قوائم بثمانين مركزا للتعذيب بعناوينها المضبوطة، الى صديقه محمد حسن الوزاني. تضم تلك النقط دورا وضيعات و كهوف و سراديب و مقرات بوليس و مراكز السلطة. ما الذي يقع ؟ إنه " الحزب العتيد " يرخي بظلاله على المغرب لسنوات، هي أحر من الجمر. إليكم بعض التفاصيل . غادر الاستعمار البلاد مسرعا، و خلف وراءه فراغا في الساحة سيعمد حزب الاستقلال لملإه وحده، و لأجل ذلك سوف يقاوم كل القوى التي كانت بجانبه في الساحة، كان الباعث هو إعجاب قادته بأسلوب الحزب الوحيد في الحكم، هذه المقاومة بدأت بالدعاية و حرب الإشاعات ، و انتقلت مباشرة الى أسلوب الحديد و النار، خصوصا و أن وزارة الداخلية كانت بيد الحزب. لم ينتظر الحزب كثيرا، مباشرة بعد الاستقلال، اشتغلت الدعاية و فتحت أبواب جهنم، و كشطت المليشيات و العصابات و كشط معها الصعاليك و السفلة، يتصرفون في أموال و أعراض و أجساد كل من يخالف الحزب الوحيد. عاش المغرب سنوات دامية حمراء حالكة قاتمة، طاحونة، مدمرة تطحن كل مخالف، كان الشعار " المغرب لنا لا لغيرنا". كان الهدف كل المعارضين عموما، و معارضي حزب الشورى و الاستقلال خصوصا، أهم مشاكس، و أبرز معارض. انتشرت دور و مراكز القتل و التعذيب عبر مناطق المغرب، تطوان، سبتة، شفشاون، الحسيمة، الريف الشرقي،تازة، وزان، العرائش، القصر الكبير، عرباوة، الخميسات، تفلت، القنيطرة، الرباط، بني ملال، الدار البيضاء، مديونة، خريبكة، ميدلت، تافلالت، صفرو، فاس، مكناس، ولماس، المعمورة، فضالة، الصويرة، مراكش، طنجة، وجدة ، و حتى الصحرا،. بلغ عدد المعتقيلن 9672 ، كلها معروفة بالاسم و اللقب و العمر و المهنة و الحالة المدنية ، يقول بطل الريف، أبرز الضحايا كان الزعماء : العربي السفياني، عبد الواحد العراقي، محمد الشرقاوي، عبد القادر برادة، و الهرمين ابراهيم الوزاني و عبد السلام الطود، إضافة الى المهدي المومني التجكاني صاحب كتاب " دار بريشة ". ظلت هذه الاَلة الجهنمية مشتغلة بنشاط و الحكومة انذاك صامتة لا تتكلم، حتى انفجار حزب الاستقلال عام 1959. هنا بدأ الجناحان في التراشق و التنابز فظهرت في خضم ذلك أولى الحقائق للرأي العام. جناح علال الفاسي رحمه الله ، اتهم الجناح اليساري بتلك الفضائع، لكننا نحن بدورنا نتهم الجناح العلالي بأنه كان يغطي و يسكت. أحد نزلاء دار بريشة بتطوان يقول إن الزعيم علال الفاسي حضر ذات مساء الى تلك الدار، و شرب الشاي ثم راح ( دار بريشة ص 81 ). هو و الكثير من شباب حزب الاستقلال الذين كانوا يزورون المعتقل أحيانا للفرجة على المعذبين و أشلاؤهم تطير و أجسادهم تتمزق ( نفس المرجع ص 76 ). كان الخطافون يخلطون عناصر المعارضة ببعض السكارى و صغار اللصوص للإيهام بأن الحملات غرضها الأمن العام و حده، بل إنه في ظل تلك الفوضى، كان أحد سائقي الطاكسي يتبرع على زبانية تلك الدار بنقلة أو نقلتين من المسافرين ، هدية و قربانا للتقرب و الظفر بوظيفة ما في المستقبل. كان الخير كله بيد الحزب / الدولة انذاك. كان كل من ليس من الحزب خائنا، و من أراد محو عار الخيانة عليه الانتماء و دفع الضريبة مالا و جلود أضحية و زكوات و أعشار ( ن م ص 29). هدا الاستبداد كان مفروضا على كل الناس. بل حتى محمد الخامس رحمه الله كانوا يقولون بأنه إذا لم يساير الحزب و يسكت فمصيره " إما الرجوع الى المنفى و إما أن يقرر الحزب في حقه ما تقرر في تونس في حق الباي. ( ن.م ص 30). استأسد الحزب و تغول و أضحى مثل تنين لسانه من لهب تحرق كل مخالف مهما علا شأنه أو قل. لا مفر لأحد من جحيمه الا الله و الله وحده. و يضيف أسد الريف في رسالته المذكورة أنفا " لقد تيتمت أطفالنا و انتهكت حرماتنا و سلبت أموالنا، و عذب رجالنا، و ملئت السجون و المعتقلات بعشرات الآلاف من المجاهدين و المجاهدات، و آلاف منهم قد أقبروا أحياء و تركوا هذه الدنيا ". و يضيف " أطلق سراح 6520 لغاية 26/2/1960 و جلهم ما زالوا مشوهين و مبتورين من الأعضاء التناسلية أو الأرجل أو العيون أو الأذن " . " في تيزي أوسلي بقبيلة جزناية حشروا 82 ضحية في كهف ... وواروا عليهم الكهف و هم أحياء بعدما عذبوهم ". هل من مزيد. نعم . يقول كذلك " في مكان معروف يبعد عن الرباط ب 8 كلمترات في طريق الرباطتمارة أقبروا 92 ضحية أحياء بعدما حفروا قبورهم بأيديهم ". " أما المختطفات ... فقد بلغ عددهن 235 ما بين المتزوجات و الأبكار، و من الشمال فقط اختطفت 75 حشروا منهن 25 في دار معروفة بحومة سانية الرمل بتطوان. حيث ظلوا يترددون عليهن صباح مساء، ليل نهار، لهتك أعراضهن، إلى أن اختفين من الوجود ". كل هذا قليل من كثير يقول أسد الريف. هذه المعتقلات السرية و دور الفضائع و الأهوال . أما السجون، فقد بلغ عدد من زج بهم بدون سبب معقول " منذ إعلان الاستقلال الموهوم، لغاية فاتح أبريل 1959، نقول بلغ عددهم 80 ألف. وزعت على السجون المركزية في المدن و الصحاري و القفار". و يضيف " جل هذه الضحايا كانت في مقدمة العاملين الذين ساهموا بنصيب وافر في الجهاد ضد الاستعمار، و من أجل تحرير البلاد من الاستبعاد .وأخيرا كان جزاؤهم "جزاء ستمار " ". فجع الجميع بالعربدة الحزبية التي أصيبت بالجنون، جنون العظمة و الغطرسة و اللاحساب، لا لغة لها إلا لغة المودى و الشواقير و السلخ و الذبح و الاغتصاب و النهب و السطو، لا تمييز بين كبير و صغير، طفل أو شيخ، امرأة أو رجل، كما وقع في مذبحة سوق الأربعاء الغرب يناير 1956. كان لحزب الشورى و الاستقلال انتشار واسع عبر تراب المملكة كان عدد فروعه 127 .صيف 1956، و كانت له بحكومة 1956 خمس حقائب. بعدها في حكومة 1958 لم يمثل و لو بحقيبة واحدة، و أصيبت فروعه بالشلل التام، على يد " الحزب العتيد ". ( محمد ضريف. الأحزاب السياسية المغربية ص 79 ). و نال كذلك نصيبه كل من أحزاب الأحرار المستقلين و الحركة الشعبية و حزب الوحدة و الاستقلال، و النقابة الحرة. كانت حربا لا تبقي وتذر. كان المعذبون في طاحونة السلخ و التقطيع يصيحون أثناء التعذيب مستغيثين " وامحمداه " " واحسناه". يقصدون محمد الخامس و الحسن الثاني رحمهما الله. فيجيبهم الزبانية الصعاليك بما لا يمكن تصوره . كان المعذبون يعدون الراحل محمد الخامس في منزلة سامية جد عالية، و كان الزبانية يظهرون أن لا قداسة إلا قداسة الحزب و ما دون الحزب العدم و اللاشيء. ( دار بريشة. ص 69 ). ليس أفقير وحده من كان يخطط لحكم دموي أحمر قاتل سفاك. الرفاق البلاشفة كدلك لهم إظافة الى النوايا حكم أربع سنوات او أكثر، رسموا بمعتقلاتهم صورا مصغرة لمستقبل كانوا يودون فرضه. لولا لطف الله. فتح الجراح بعد طول كتمان ليس الهدف منه تعميقها. كلا بل الهدف هو أن نعلم ان الكوارث سواء التي حلت بالمغرب أو تلك الموؤودة في مهدها، كل جاءت من بوابة واحدة، هي بوابة الإعجاب بالأفكار و الخزعبلات الواردة مما وراء الحدود. أفقير تآمرمع شياطين خارج الحدود، و أما الرفاق الأوائل فقد أغرتهم فكرة الحزب الوحيد الأسلوب الدكتاتوري الذي حاولت تعميمه النضرية الاشتراكية على كادحي العالم. بعد هذا نرى السياسيين خصوصا من ورثة الحركة الوطنية واثقين من أنفسهم و هم يرددون كل حين أنهم ذووا الفضل على الناس. هم من جاء بالديمقراطية و خيرات الديمقراطية التي تعم بركاتها كل فرد، ما كانت لتحصل لولاهم. رحم الله علال الفاسي، و المهدي بنبركة، كانوا أعلاما و نجوما أضاءت المغرب حين عم السواد، لكن الإنصاف هو من دعى الى تفحص تلك الأيام، بل تلك السنوات. أخيرا هل ستكون صفحة الماضي المطوية رسميا. متبوعة بلاشيء أم لا.