"العقل هو صورة المعقول في نفس العاقل... والإنسان أشكل عليه الإنسان" أبو حيان التوحيدي هل يمكن للمثقف أن يعيش بدون كتابة؟ وكيف تساهم الكتابة باعتبارها رأسمالا رمزيا في صناعة الوعي الجماهيري؟ هل الوعي قابل للانكتاب؟ وما هي شروط ممارسة الكتابة القمينة بكتابة الوعي؟ما معنى أن يكون المثقف واعيا بآليات الكتابة وميكانزماتها؟ما معنى أن تكون اليوم كاتبا في المجال الرمزي إنتاجا وترويجا؟ أي دور للمثقف في صياغة مشروع التنمية البشرية بكل أبعادها وتشعباتها؟ هل أدخل المثقف ،اليوم،غرفة الإنعاش في انتظار دق آخر مسمار في نعشه بعد إعلان موته سريريا؟أين نحن اليوم من المثقف العضوي الذي نادى به غرامشي في سياق المجتمع الرقمي والفضاء الافتراضي؟ أسئلة تترى تتداعى تباعا على ذهن كل ملسوع بهاجس الكتابة وكتابة الوعي الجماهيري، في لحظة تاريخية معينة، وفق ضوابط علمية ،وقواعد منهجية مضبوطة ،بما يعنيه ذلك من تدشين الذات الكاتبة حوارا هادئا ،عقلانيا ومتزنا مع العالم ،مع السياقات الثقافية الموازية ،ومع الأطروحات الفكرية المضادة في أفق احتوائها وتجاوزها في نهاية المطاف، وبناء صرح ثقافي بديل يؤسس لمشروع مجتمعي مأمول، لاسيما وأن سؤال الكتابة في علاقته بالوعي يتماشى و"«سؤال التاريخ الإنساني كله في كل مرحلة من مراحله، وخاصة في مراحل تحولاته، ففي مراحل التحول يطل الإنسان في ذاته من موقعه وموقفه الموضوعيين، وبتنوع مراحل التنوع، تتنوع الإجابات فضلا عن اختلافها باختلاف المواقع والمواقف من أزمة التحول في كل مرحلة"1.إن المتغيرات الكونية الطارئة تؤشر على بروز أنساق ثقافية جديدة، وتشكل وعي إنساني متجذ ر، مما يضع قضايا الإبداع في المواجهة وعلى محك الصراع والتدافع الحضاريين ،والحصيلة إقحام المبدع في صلب عمليته الإبداعية بين معطيات واقعية وأخرى متخيلة و" تعميق السؤال حول جوهر الوجود، (...) ومحاولة الوقوف على هذا الجانب للقبض على المقول واللامقول الذي يتحكم في منطق تمثلاننا للتاريخ، للهوية، الأنا، الحقيقة" 2وعلى هذا الأساس المنهجي، تتظافر الوسائل المعرفية الجديدة ،المتلاحقة باستمرار، في بلورة قواعد إبداعية مغايرة، ورؤى جديدة للكون، للتاريخ، للآخر. فما جدوى الوعي إذا لم يتجه نحو الذات في البداية قبل أن يمتد إلى الآخرين؟ففاقد الشيء لايعطيه. ولذلك، فسؤال الوعي لايعد و أن يكون " وعي الذات (...)، بمعنى أنه كشف التحول الضروري المطرّد للوعي وانتقاله إلى الوعي الذاتي."3 ومن هذه الزاوية،فالكتابة والوعي مفهومان مختلفان ومتلازمان،فلا كتابة بدون وعي، ولاوعي بدون كتابة،على اعتبار أن الكتابة ليست دائما تمجيدا للذات بقدر ما هي إدانة لها،أن تكتب-بقول ايبسن- أن تدين ذاتك في جلسة محاكمة.إنها(الكتابة)"ممارسة عمياء قاصرة عن إدراك حقيقة ذاتها وأبعادها الوظيفية المختلفة.ولأن (الوعي)تفكير أخرس عاجز عن التواصل مع الآخرين وربط الصلة بهم.في الأولى يحضرا لكلام وتغيب الرؤية،أما في الثانية،فيحدث العكس،أي تحضر الرؤية ويغيب الكلام،ليبقى النقص قاسما مشتركا بين الحالتين.نقص يستحيل تجاوزه وبلوغ الكمال دون ارتباط الرؤية بالكلام،والوعي بالكتابة،ليصبح الوعي متكلما،والكتابة مبصرة.أما فيما عدا ذلك فلا يمكن الحديث إلا عن كتابة عمياء ووعي أخرس،أوبعبارة أدق عن كتابة ووعي مزيفين.ولعل هذا ما يفسر الاقتران الدائم لمفهوم الكتابة والوعي الحقيقيين ببعضهما البعض في أذهان المثقفين."4 لقد كشف الوعي الجديد عن حقيقة كونه فكرا عاريا مجردا فاقدا لعناصره الحميمية المؤسسة للحمته الداخلية فأضحى، نتيجة ذلك، سلطة كهنوتية تغوص في استقراء معطيات الذات والواقع ولكنه" لا يقرأ الشيء كما يقدم نفسه أو يعلن عن نفسه، وإنما -يقرأه- دوما كنظام أو قاعدة أو بناء أو ثقافة، لتبيان ما استنفذ واستهلك بين المقولات والأدوات، أو ما أمسى فاضحا ومعيبا من التصرفات والممارسات، أو ما بات تشبيحا وتعتيما من السلطات والمؤسسات"5.وعليه،فإستراتيجية الكتابة الجديدة تتأسس على موقف قابل للانكتاب مادامت الكتابة «قراءة تغير في مجرى الواقع، بقدر ما تشكل واقعة تضاف إلى سائر الوقائع التي يتركب منها العالم (...) فكل -قراءة تخلق مجالها وتنتج حقيقتها."6.بعبارة أوضح، فالقراءة المنهجية للوعي وإعادة كتابة وعي القراءة تساهمان،بشكل أو بآخر،في مساءلة الواقع وانكتابه من منظور فني تخييلي من أجل بناء أفق توقع جماهيري جديد، أصيل ،وطلائعي تمنحه كثيرا من العمق والخصوصية."إن تميز الكتابة الإبداعية هذا يجد تمظهره الطبيعي في تعدد رهاناتها وتنوع مراميها،خلافا للكتابة الأحادية الهدف،مادام انشغالها بالقضايا العامة لا ينسيها أبدا همومها الإبداعية الخاصة التي تظل دائما حاضرة بقوة لدعم تميزها وتطويره،علما بأن ايجابيات المحافظة على هذا الحضور المتوازن للوعي الخاص والعام،الفني والفكري،لايقف عند هذا الحد،بقدر ما تتجاوزه لحماية هذا النوع من الممارسة الإبداعية من كل انحراف محتمل من شانه تشويه طبيعتها،وتحويلها إما لكتابة شكلية جوفاء خالية من الوعي العام:(الكتابة الشكلية=الوعي العام +الوعي الخاص)،أو لكتابة تحريضية مباشرة مجردة من أبسط الشروط الفنية المطلوبة في كل ممارسة إبداعية محترمة:(الكتابة التحريضية=الوعي العام-الوعي الخاص)"7.ومن ثم، يتعين إعادة الاعتبار للوظيفة الجوهرية للكتابة الإبداعية المغايرة للكتابة العادية المغرقة في الواقعية، مما يبعد الأدب عن رساليته وفنيته، و يرسخ ميكانزمات حضور الوعي بشقيه العام والخاص الضمني والصريح ،وهذا "لا يمنع من إمكانية حضور بعض (أو كل)مظاهر هذا الوعي في كتابات أخرى،كالمقدمات ،الاستجوابات، الشهادات وغيرها من الخطابات الموازية التي غالبا ما يسعى الكاتب من خلالها لإلقاء بعض الأضواء الكاشفة على مجمل القضايا والإشكالات، الفكرية والفنية، المرتبطة بالممارسة الإبداعية عموما وكتاباته على وجه الخصوص، في محاولة إضافية لتمتين علاقته بالقراء، وتوطيدها في الاتجاه الصحيح بعيدا عن التأويلات الخاطئة أو المغرضة وانعكاساتها السلبية المختلفة."8
في ضوء هذا المعطى، فإن وعي الكتابة في تطورها التاريخي الجديد- تراهن على تمثل البعد الإنساني، وما يفرزه من قيم وعلاقات تتأطر داخل نسق ثقافي يستدعي مختلف الأبعاد والرؤى الممكنة، إنها مستوى من الكتابة تعمل على تشكيل الإبداع في بعده الجمالي يصور الصيرورة الاجتماعية والكلية متجادلة ومنفتحة على المعرفي في اللحظة التاريخية.9،الشيء الذي يجعل الكتابة تنفتح على عوالم المصارحة والمكاشفة، عبر تفكيك النسيج السوسيو ثقافي من خلال تطويع ممكنات اللغة، وطاقاتها الثاوية في تضاعيفها، من حيث تحقيق الخيال وتخييل الحقيقة. فكل إنتاج نصي يسعى جاهدا إلى تشكيل أد بيته ومتخيله الفني من خلال إعادة كتابة الواقع، وليس النقل الانعكاسي المر آوي كما دعا إلى ذلك أنصار المدرسة الواقعية ذات الاتجاه الأرثوذوكسي، بل كتابة تروم خلق نوع من التوازن بين متطلبات الإبداع ومشترطات الالتزام. لقد تحدث الفيلسوف الألماني "هيجل"عن مفهوم "الوعي الشقي" الذي يكتسبه بعض "أشباح المثقفين" الذي يتوهمون أنهم حققوا أهدافهم، وأمموا "ثرواتهم"، وسكنوا في برجهم العاجي بعد أن خانوا شعاراتهم، وتخلوا عن قضاياهم التي سوقوا يوما ما أنها "عادلة" ،فإذا بهم يلوذون بمؤامرة الصمت، بعد أن انبطحوا، وركعوا، وخنعوا متلذذين بعذابات الآخرين قابعين، في مستنقع غيا هيب ذواتهم المنفصمة.(فالموافقة في الأقوال، والمخالفة في الأفعال أخطر من مؤامرة الصمت). "ان الوعي الشقي ، هو قبل كل شيء وعي بالازدواجية والتناقض. وبما أنه وعي ممزق منفصل منقسم على نفسه ، فانه ينحل إلى تناقضات لا متناهية"10 . لقد ربط "جون بول سارتر " بين الكتابة والالتزام، وطرح من خلال كتابه "ما الأدب؟" أسئلة فلسفية عميقة مستفزة في سياقها التاريخي الثوري للوعي الإنساني برمته – ويمكن تحيينها هنا والآن بشكل أو بآخر-من قبيل "لماذا نكتب؟(بالإضافة إلى أسئلة جوهرية مؤداها:لمن نكتب؟ وما هي الكتابة؟).ومعلوم أن صاحب رواية "الغثيان" قد ربط الكتابة بمفهومي الالتزام والمسؤولية ،داعيا –على غرار غرامشي- الى ضرورة انخراط المثقف في مختلف المعارك من أجل كسب رهان التنمية- بمختلف أبعادها وتمفصلاتها – من خلال تأطير الوعي، وهندسة الأفكار،وتحسيس الجماهير بقضايا الواقع، وأسئلة الوجود درءا للوعي الشقي، والفكر الزائف الطوباوي الغارق في المثاليات إلى حد جلد الذات." المعرفة والإدراك أو الوعي والفهم والفكر أو العقل هي إدراك وفهم وعقل في العالم وفي التاريخ، أي في المكان والزمان، وهما كالنهر، الذي لا يمكن أن نسبح في مائه ذاته مرتين؛ (التراث هو وعي الماضي وفهمه وعقله). ليست الحقائق والمبادئ العقلية والأخلاقية وحدها عابرة للزمان والمكان، بل الأباطيل والرذائل أيضاً.."11 ولهذا،فالنخبة المثقفة -ذات الوعي الأصيل- مدعوة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى الانخراط الواعي، والمعقلن، من أجل إعادة قراءة الواقع قراءة صحيحة وعلمية ،بالإضافة إلى تحيين مفاهيم التراث عبر استثمار المناهج النقدية المعاصرة(السيميولوجية ،التفكيكية،...)،لأن حقائق اليوم لست هي حقائق الأمس في ظل زمن متسارع ،باستمرار،على مستوى ثوراته المعرفية والرقمية ،زمن أضحى معه العالم قرية زجاجية صغيرة،زمن لايؤمن إلا بمنطق الغلبة للأقوى على حد تعبير العالم الجليل ابن خلدون "المغلوب تابع للغالب في زيه وتفكيره ونمط عيشه".فماذا أعددنا لمواجهة الآخر؟الآخر الذي ما زال بعض "شرطة الأخلاق" يعتمدون في مقاربة قضاياه وملامسة إشكالاته مقولات متآكلة من قبيل "دار الإيمان" ،و"دار الكفر" و"دار الصلاح" ،و"دار الفساد"، وقد صدق الشاعر عندما قال: وكم ذا بمصر من مضحكات ولكنه ضحك كالبكاء ما رأي مثقفيينا مما قاله المرحوم عبد الكبير الخطيبي :"نحن أحياء نتحدث بألسنة الموتى"؟ما رأيكم في إعادة كتابة تاريخ الوعي الإنساني؟وكيف؟وعلى ضوء أية مقاربة منهجية؟"النار إلى الأعماق ،ومع ذلك يجب أن نختار"على حد تعبير الروائية المغربية خناتة بنونة. وسبق الإمام الشافعي زمانه بقوله:
الهوامش محمود أمين العالم، الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، دار الثقافة الجديدة، ط 2، 1988، ص: 12 2-أدمون جابيس، أسئلة الكتابة - أو حوار الفلسفة والأدب، تر: أدريس كثير، عز الدين الخطاب، منشورات ما بعد الحداثة، فاس ط 1، 2003، ص: 3 3- حسني الموزاني، الوعي والوعي الذاتي عند هيجل، مجلة القاهرة، ع/167-168، نوفمبر 1999، ص: 111 4-د.عبد العالي بوطيب،الكتابة والوعي(دراسة في اعمال غلاب السردية)دار الحرف للنشر والتوزيع القنيطرة،ط1،2007،ص:07 5- علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط 1، 2005، ص:18. 6-نفسه،ص:30 7- د.عبد العالي بوطيب،الكتابة والوعي(دراسة في اعمال غلاب السردية)م.س ص:08 8- نفسه،ص:09 9- جورج لوكاش، دراسات في الواقعية الأوربية، تر: أمير اسكندر، الهيئة المصرية، القاهرة، 1972، ص: 85. 10-سليم المجار الوعي الشقي .... وشقاء ثقافة السياسي المتأسلم سليم النجار الحوار المتمدن - العدد: 1412 - 2005 / 12 / 27 - 15:49 11- جاد الكريم الجباعي، الوعي الشقي ومملكة الشيطان،موقع الأوان،الجمعة 1 حزيران (يونيو)،2007.