في تحليل ماهية الرواية وتعليل نشأتها الحديثة، يتم ترتيب ظهورها كلحظة فنية لاحقة للحظة المحلمة. ولتفسير هذا التطور النوعي في شكل السرد تكاثرت القراءات والتفسيرات. لكن التفسير الذي قدمه الفيلسوف الالماني هيجل كان له مقام خاص ودور محوري في قراءة تطور الأجناس الفنية، وتشكيل الكثير من الرؤى النقدية المتداولة في حقل المعرفة الأدبية؛ حيث استمر حضور التفسير الهيجلي في تلافيف الكثير من المقاربات النظرية اللاحقة، سواء مع لوكاتش أو لوسيان غولدمان... لذا لابد من أن نتوقف قليلا عند نظرية هيجل لفهم أبعادها وأثرها –ونتبين محدوديتها أيضا- في تعليل نشأة الرواية وإيضاح ماهيتها كجنس أدبي مستحدث. يربط هيجل نشأة الرواية كجنس أدبي جديد بالتحول التاريخي الذي حصل في سياق الوعي الأوربي (وتخصيصه تاريخ أوربا بالبحث ينسجم مع تصوره القائم على المركزية الأوربية التي تنظر إلى تواريخ غيرها من الشعوب كهوامش فقط). فيضع الرواية في مقابل الملحمة. جاعلا من الملحمة الصورة التعبيرية الملائمة لحالة الوعي في المجتمع القديم، في مقابل الرواية بوصفها الصورة التعبيرية الملائمة لحالة الوعي في المجتمع الحديث. فما الفارق بين حالتي الوعي؟ وما الداعي إلى استحداث فن الرواية كبديل لفن الملحمة؟ لندرك الفارق لابد من فهم معنى صيرورة وتطور الوعي عند هيجل، وضبط مسار اتجاهه المستقبلي. يقول هيجل: «إن الفكرة الوحيدة التي تجلبها الفلسفة معها وهي تتأمل التاريخ، هي الفكرة البسيطة عن العقل، التي تقول :إن العقل يسيطر على العالم، وإن تاريخ العالم، بالتالي، يتمثل أمامنا بوصفه مسارا عقليا.» (هيجل، العقل في التاريخ، ص 78). وبما أن الوجود في كليته يخضع للتطور، وبما أن العقل يحايث حركة تطور الوجود. فإن الوجود الإنساني وكل منتجاته، ومن ضمنها المنتج الفني، خاضع هو كذلك للتطور والصيرورة. والقانون التطوري الذي يحكم الوجود التاريخي الإنساني يحكم كذلك نتاجاته. فما هو هذا القانون؟ إن التاريخ الإنساني يتطور من حالة اللاوعي إلى حالة الوعي، ومنه إلى درجة أرقى هي درجة الوعي المطلق. وكل لحظة تطورية أرقى من سابقتها. لذا فأنماط اللاوعي ومنتجاته تخلي مكانها بالتدريج لأنماط الوعي ومنتجاته. «وبما أن التاريخ –يقول الأديب حنا عبود- ينتقل، على مراحل، من اللاوعي إلى الوعي، ومن الوعي إلى مزيد من الوعي، إلى أن يعي العقل الكلي ذاته، فإن من العادي جدا أن تنتقل البشرية من الشعر إلى النثر. ومن الطبيعي جدا –وفقا لنظرية هيغل– أن يظهر الشعر قبل النثر، فهو أقل وعيا منه بما لا يقاس. النثر فكر مركز، فيه من العمق ما ليس في الشعر». لذا كانت الملحمة -بما هي سرد شعري- هي الشكل التعبيري المناسب لدرجة تطور الوعي في المجتمع القديم. ولما انتقل الإنسان إلى نمط الاجتماع الحديث، كان لابد من انتقال السرد من نمط التعبير الملحمي إلى نمط التعبير الروائي. إن صورة العالم في المجتمع الحديث لم تعد صورة عالم مملوء بالأبطال والآلهة، ولم تعد العلاقات الناظمة للعالم مثقلة بالأرواح والسحر، بل هو عالم منتظم وفق قوانين معقولة. لذا كان لابد من تغيير الشكل التعبيري وكذا مضموناته المعرفية؛ لذا ليس من الصدفة أن تكون الملحمة ملفوفة بلغة الشعر؛ لأن الشعر – من منظور هيجل - هو خطاب الكائن البشري الذي لم يترق بعد إلى الوعي. ولذا ليس من الصدفة أن تكون الرواية بما هي خطاب نثري رواية تقطع مع العالم الملحمي السحري، وتتناول العالم المعيش في واقعيته.