تُعد وثيقة التنظيم التربوي من الوثائق الأساسية التي يتضمنها ملف تدبير الشأن التربوي والإداري بالمؤسسات التعليمية الابتدائية. لذا فهي، بفعل ما تثيره من حساسيات، تكون وراء الكثير من النقاشات المتداولة في أوساط مختلف المتدخلين (مدرسين – مديرين- مفتشين تربويين– مدبرين إقليميين). وخاصة أثناء مرحلة الإعداد للدخول المدرسي. في إطار تفاعلها مع هذه النقاشات، تبادر بعض المديريات الإقليمية، وهي تحضر للدخول المدرسي، بإصدار مراسلات في شأن التنظيمات التربوية بالمؤسسات التعليمية واضعة قواعد ومعايير وموجهات. تحركها، في سبيل ذلك، الرغبة في الحد من المشاكل التي يعانيها مديرو المؤسسات التعليمية الابتدائية وهم يعدون هذه الوثيقة، وكذا مساهمة منها في إرساء مقاربة تدبيرية تستند إلى القانون من شأنها أن تضبط العملية بالتقعيد والتوجيه وتقلل من حجم المشاكل التي ترافق إعدادها والمصادقة عليها وإقرارها. في الآونة الأخيرة، تم تداول مراسلة لمديرية ما، أوردت في مرجعها المذكرة الوزارية رقم 30 الصادرة في 09 أبريل 2004 في شأن إحداث مجالس المؤسسة والمذكرة الإطار الخاصة بالحركة الانتقالية عدد 15-56 بتاريخ 06 ماي 2015. بينما مديرية أخرى اعتمدت المذكرة الوزارية رقم 72 بتاريخ 16 ماي 1991 وهي مذكرة في شأن التأطير والمراقبة التربوية. وقد تم تداول هاتين المراسلتين بشكل واسع بمختلف المواقع التربوية الوطنية ومواقع التواصل الاجتماعي بصيغة تفيد الأهمية والفعالية. ما أثارني، كفاعل تربوي منفتح على مختلف مواقع ومستويات التدبير ومتتبع لما يتم تداوله من وثائق ذات الصلة بالتدبير الإداري رسميا أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، هو أن هذه المراسلات التي تصدرها هذه المديريات الإقليمية تستند، من جهة، إلى مراجع لا علاقة لها بالتنظيم التربوي، لا من قريب ولا من بعيد، بل تُقحم إقحاما لا أدري ما الخلفية وما الاعتبارات الكامنة وراء ذلك ، وتعتمد ، من جهة ثانية، منطق الفصل بين توزيع الأساتذة على الوحدات المدرسية وتوزيع الأساتذة على الأقسام وكذا معيار التراضي أولا ثم معيار الأقدمية ثانيا ثم معيار القرعة ثالثا. بدافع الاهتمام والحرص رجعت إلى هذه المذكرات، قارئا متفحصا، وانتهيت إلى أنها مذكرات لا صلة لها بالتنظيم التربوي. لذا فمساهمة مني في نقاش عام، يفترض أن يكون عميقا ورزينا حول التنظيم التربوي بالمؤسسات التعليمية الابتدائية، بعيدا عن أية حساسية أو خلفيات متمحورة حول الذات وموقعها، أود البدء في معالجة الموضوع، في هذا المقام، بالتركيز على مدخلين أعتقد أنهما أساسيين وكافيين: المدخل الأول: إن من أهم المستجدات التي عرفها إصلاح منظومة التربية والتكوين، منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين(1999) مرورا بالبرنامج الاستعجالي(2009-2012) ثم الرؤية الاستراتيجية(2015-2030) ثم القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي وخاصة الباب السابع منه المتعلق بمبادئ وقواعد الحكامة، التطلع نحو إرساء فعال للامركزية في تدبير الشأن التربوي استنادا إلى مدخل الجهوية المتقدمة التي تعتبر اختيارا وطنيا استراتيجيا لا محيد عنه. ومن بين الدعامات الأساسية لإرساء هذه اللامركزية في منظومة التربية والتكوين توجد الحكامة. والحكامة في تدبير الشأن التربوي على مستوى المؤسسة التعليمية لا يمكن أن تسير إلا في اتجاه تعزيز استقلالية المؤسسة بدفعها إلى الانفتاح أكثر على المقاربات الجديدة في التدبير (التدبير بالمشروع – التعاقد حول المشروع التربوي للمؤسسة – القيادة الجماعية للشأن التربوي – تفعيل مختلف الوحدات الوظيفية بما فيها مجالس المؤسسة باعتبارها آليات للتأطير والتدبير التشاركي للشأن التربوي). وهذا أمر يستوجب تعزيز صلاحيات الإدارة التربوية واعتبار الموارد البشرية المنتسبة إلى المؤسسة التعليمية، من حيث خبراتها وخصوصياتها جزءا لا يتجزأ من الإمكانات المتوفرة بالمؤسسة يجب الاهتمام بها وتحفيزها وتعبئتها وتدبيرها بشكل فاعل وناجع. المدخل الثاني: تعد المذكرة الوزارية رقم 39 الصادرة بتاريخ 06 فبراير 1981 أهم مرجع صادر عن الوزارة الوصية في شأن كيفية إعداد التنظيم التربوي. ومن بين أهم فقراتها في هذا الشأن أضع بين أيديكم الفقرتين التاليتين: “إن الكل يعلم ما لتوزيع الأقسام على المعلمين من أهمية في بداية الموسم الدراسي وما لهذه العملية من أثر بالغ في إنجاح العمل التربوي طيلة السنة الدراسية. واستشارة مجلس المعلمين في هذا الصدد إنما تهدف بالدرجة الأولى إلى إرضاء مصلحة المؤسسة، ومصلحة التلاميذ، بإحلال كل معلم بالقسم الذي يوافق شخصيته الفكرية والمهنية ويناسب مؤهلاته التقنية والأدبية”. “وقد يبدو إلى بعض الأذهان فكرة الأقدمية أو السلم الإداري أو ما إلى ذلك من المقاييس العملية التي كثيرا ما يلجأ إليها في الفصل فيما قد يحدث في مثل هذه المناسبات من خلافات بين المعلمين، إلا أنه رغم كون هذه المقاييس تظل جزءا لا يتجزأ من حقوق المعلم ومكتسباته، فإن الحاجة هنا، تظل المصلحة الكبرى، تفرض إيثار المقدرة والكفاءة على الاختيارات الشخصية والنزاعات الفردية، إذ أنه غالبا ما تكون خبرة المعلم وتجربته بمهاراته لا بأقدميته أو بسلمه وهذا ما يجعلنا نؤكد على الدور الذي ينبغي أن يلعبه مجلس المعلمين، تحت إشراف رئيس المؤسسة، في توزيع الأقسام على المعلمين حسب كفاءاتهم، وفعالية الطرائق التعليمية لديهم، علما بأن ذلك يمكن أن يتم بكل فعالية وتوافق إذا ما سادت المصلحة العليا على المصالح الخاصة”. دعائم القول: في ضوء ما سبق أخلص إلى بيان ما يلي: إن الاجتهاد من طرف بعض هذه المديريات هو اجتهاد مع وجود نص مرجعي أكثر قوة، عبارة عن مذكرة وزارية لم تصدر الوزارة الوصية أية مذكرة أخرى، بعدها، في نفس الموضوع. لذا فإن القوة القانونية لهذه المذكرة أقوى من مراسلات ذات طابع تنظيمي محلي تستند إلى خلفيات تتعارض والمقتضيات الضمنية والصريحة لهذه المذكرة المرجعية. وكما يقال في الأدبيات التشريعية ” لا اجتهاد مع وجود النص”. وهذا يعني أن الاجتهاد في هذا الباب اجتهاد فيه قول ونظر. إن التنظيم التربوي للمؤسسة هو توزيع الأساتذة على الأقسام وتعتبر المؤسسة التعليمية سواء كانت مستقلة أو مجموعة مدرسية بنية مدرسية واحدة، ومن ثمة فإن العملية هي توزيع للأساتذة على الأقسام وليس حركة انتقالية فتخضع لمعاييرها، وأن الجهة التي لها سلطة القرار بقوة القانون، حسب هذه المذكرة، هو مدير المؤسسة، وأن مبدأ الاستشارة لا يمكن أن يتجاوز مرتبة تقديم المقترحات والمشاركة في تسليط الضوء على الزوايا المظلمة التي قد لا تكون واضحة ومرئية بالنسبة لمدير المؤسسة مساعدة له بالمعطيات اللازمة لاتخاذ القرار الملائم لخصوصيات الوحدات المدرسية وخصوصيات الموارد البشرية المتوفرة. إن وثيقة التنظيم التربوي، في ضوء المدخلين المشار إليهما أعلاه، هي وثيقة تدبيرية تخص توزيع الأستاذات والأساتذة على الأقسام بوضع المدرس(ة) المناسب(ة) في المكان المناسب، يعدها مدير(ة) المؤسسة استنادا إلى اعتبارات إدارية وتربوية واجتماعية، غايتها جعل المتعلمات والمتعلمين في قلب الاهتمام والفكر والفعل وتحسين جودة التعلمات وتحقيق أعلى درجة ممكنة من المردودية بالمؤسسة وضمان الاستقرار الأفضل للمدرسات والمدرسين. يستوجب التحضير لإعدادها استشارة جميع الأستاذات والأساتذة العاملين بالمؤسسة باعتماد الآلية التي يراها مدير المؤسسة مناسبة، والتنسيق مع مفتشي المنطقة باعتبارهما الجهة المعنية بالتوقيع والمصادقة، ولا تأخذ صبغتها الإدارية إلا بعد الموافقة عليها من طرف مصالح المديرية الإقليمية المختصة. إن مبادرة بعض الجهات إلى تقنين وضبط عملية إعداد التنظيم التربوي بالمؤسسة وتوزيع الأساتذة على الأقسام هو تدخل في اختصاص مديرات ومديري المؤسسات التعليمية واختصاص المفتشات والمفتشين التربويين الذين لهم، جميعا، الحق في التمتع بالسلطة التقديرية إذ لهم ما يكفي من القدرات لمعرفة كيف يسهمون في استقرار مؤسساتهم وتحصين مصلحتها ومراعاة خصوصياتها وتأمين الزمن المدرسي وبناء اختيارات تدبيرية كفيلة بتحقيق المردودية المطلوبة لأنهم مسؤولون عن هذا الاستقرار وعن هذه المردودية وعن تدبير هذه الخصوصية من حيث عدد الموارد البشرية المتوفرة، كما وكيفا، وظروف العيش والاستقرار بالوحدات المدرسية والمناخ السوسيو ثقافي لمحيط المدرسة. لذا وجب تعزيز هذه السلطة التقديرية مادامت المدخل الأساس لتعزيز استقلالية المؤسسة، فلا يعقل أن نطالب مدير المؤسسة بإرساء مشروع لمؤسسته وتدبير ماليتها وتحقيق الجودة والمردودية، وفي الوقت ذاته، نكبله ونحد من قدراته. بدعوى ضمنية أنه قد يشخصن التعاطي مع المبدأ ويجعله مكسبا تدبيريا فيستغل هذه السلطة التقديرية في غير محلها. إن سلطة مدير المؤسسة ليست سلطة مطلقة، كما قد يفهم البعض من هذا الكلام، ولكنها سلطة تحت المراقبة، مبنية على قرارات مبررة ومعللة وخاضعة لمراقبة بعدية تستهدف معالجة الحالات الاستثنائية. بل إنها سلطة يستمدها من مشروعه التربوي ومن مقارباته في التدبير والقيادة ومن النتائج التي تحققها مؤسسته ومن الإشعاع الذي تحققه. لذا فإن الأمر لا يتطلب الحد من صلاحياته ولكن يتطلب تأهيله وتعبئته وتحميله المسؤولية وتعزيز انتمائه والتزامه وانغماسه في رحاب المسؤولية المفوضة ومصاحبته ومراقبة أدائه مراقبة بعدية في مختلف المجالات التدبيرية إدارية كانت أو تربوية أو مالية. وأخيرا إن النهوض بالمدرسة المغربية الجديدة، في ضوء ما تم إقراره من اختيارات وطنية استراتيجية لتجديدها والنهوض بها، يستوجب إرساء استراتيجية مندمجة تستهدف القطع التدريجي مع مختلف المقاربات التدبيرية والبيداغوجية التنميطية العمودية بفتح المجال أمام مختلف المتدخلين للمبادرة والاجتهاد والإبداع في ضوء الثوابت والاختيارات الوطنية الاستراتيجية في قطاع التربوية والتكوين. إن المتعلم في حاجة إلى مزيد من الحرية كي يتدرب على اختيار وتنويع استراتيجياته لتحسين تعلماته، والأستاذ في حاجة إلى مزيد من الحرية كي يتدرب بيداغوجيا على تجويد ممارساته، ومدير المؤسسة في حاجة إلى مزيد من الثقة لتعزيز استقلالية مؤسسته كي يتدرب على تنويع مقارباته التدبيرية وابتكار سيرورات تدبيرية نوعية غايتها تحسين المؤشرات الاستراتيجية للمنظومة بالمؤسسة التي يدير شؤونها.