هناك أزيد من مليونان من المصلين يحجون إلى المساجد في رمضان يوميا. لا تستوعبهم مساجد المملكة فيكملون صلاتهم في محيطها وفي الشوارع المجاورة لها. وفي كل صلاة تراويح يقف آلاف المصلين في صفوف متراصة وفي خشوع كامل يستمعون للقرآن فيركعون ويسجدون في حركة متناغمة. ولو تخيلتهم في كل ربوع المملكة في ذلك الوقت، ولو وسعت من خيالك ليشمل باقي العالم حيث ينتشر المسلمون، إذن لرأيت طيفا من حركة السجود والركوع لا ينقطع في كل لحضة حول العالم وطيلة أيام السنة. ولو وسعت خيالك أكثر واستحضرت سجود وركود الملائكة في عوالمها، إذن لأدركت أن طيف السجود والركوع يجسد حركة إيمانية كونية. يتعزز صف المنخرطين في حركة الكون الإيمانية تلك في رمضان. ولا يكفي أن يكون ثمة مسجد ليستقطب المصلين، بل لابد من وجود مقرئ يجيد قراءة القرآن. فالمصلون يقطعون المسافات الطوال للصلاة خلف المقرئ المفضل لديهم. وحكايات مصلين يفطرون في المساجد لحجز أماكنهم خلف الإمام، لضمان جو إيماني أقوى، كثيرة ومتواترة. تكبيرات وركوع وسجود ودعاء ورجاء ودموع من خشوع. وبعد كل صلاة تراويح يخرج المصلون رجالا ونساء وأطفالا فتمتلئ بهم الشوارع المجاورة للمساجد. مسيرات سلمية للتائبين. لا تعزيزات أمنية ولا مشادات كلامية و لا عراك ولا مخدرات ولا بغاء ولا تجارة محرمة... ويتكرر المشهد كل يوم. إنها انتفاضة رمضان السنوية. انتفاضة ضد المعاصي والتيه و ... انتفاضة عفوية لا ترصد لها ميزانيات. ولا تحث عليها حملات إشهار. وليس من ورائها جهة منظمة ولا مقاولة مستثمرة. إنها حركة اجتماعية فطرية. انتفاضة صامتة نعم، ولكنها أيضا انتفاضة تمارس ضدها كل أشكال التعتيم. وسائل الإعلام تتجاهل الجانب المشرق فيها وقد تتصيد اختلالات ما فيها و"تجعل من الحبة قبة". لا ربورطاجات ولا تحقيقات ولا تقارير صحافية. ولا دعوات للمشاركة. اللهم ما كانت له طبيعة رسمية. ربما استجابت لتوجه سياسي يخاف من كل ما هو إيماني. توجه لا يرى الإرهاب والتخلف والظلام إلا في شعائر الإسلام ومظاهره. وبالمقابل تنشط وسائل الإعلام حين الحديث عن المهرجانات، فتعدها عدا وتحصي روادها بشكل دقيق، وتتنافس في نقل وقائعها وفي وصف حالات تفاعل الشباب مع فنانيها، فتنقل تفاصيل الحركات والرقصات... وتتغاضى عن كل السلبيات. بل وتتنافس في التعريف بها والدعوة إليها والدود عنها ضد كل ناقد. لكن، ورغم كل شيء، فللمساجد رب يحميها وللمهرجانات أرباب "تحلب" بها.