بخلاف الهجوم العنيف الذي شنه رئيس الحكومة ابن كيران، على وزيره في التربية الوطنية رشيد بلمختار خلال جلسة عامة، جرت أطوارها بمجلس المستشارين في فاتح دجنبر 2015، بدعوى انفراده بقرار "فرنسة" مواد علمية وتقنية بالتعليم الثانوي التأهيلي، يبدو اليوم منشرحا أمام دعوة رفيقه القيادي وعضو الأمانة العامة بحزبه الإسلامي، وزير التعليم العالي والبحث العلمي لحسن الداودي، طلبة الجامعات إلى تعلم الإنجليزية باعتبارها لغة المستقبل، وإلا فليحفروا قبورهم بأيديهم. ولعل ما يؤكد مباركته لهذه "الفتوى"، هو سفره إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، ليس في مهمة رسمية، وإنما في رخصة استثنائية مدتها ستة أيام من 16 إلى 21 ماي 2016، قصد تلقي دروسا مكثفة في التعلم السريع للغة الإنجليزية، من لدن أساتذة مبرزين بأحد المعاهد المتخصصة في تعليم كبار الشخصيات والمسؤولين السياسيين، لتحقيق حلم ظل يراوده منذ زمن بعيد، باكتساب لغة تحتل مكانة مرموقة في أرجاء العالم. واللافت للانتباه، أن تأتي هذه الرحلة في الوقت الميت من ولاية حكومته، متزامنة مع المذكرة الوزارية الصادرة بتاريخ 20 ماي 2016، الموجهة إلى رؤساء الجامعات ومؤسسات التعليم العالي غير التابعة للجامعة، تأمرهم باشتراط إتقان اللغة الإنجليزية معيارا أساسيا لقبول أطروحات الدكتوراة ابتداء من فاتح شتنبر 2017، فضلا عن شروط أخرى: نشر مقالة واحدة على الأقل بالإنجليزية، تضمين الأطروحة مراجع وملخصا باللغة ذاتها وإشراك أستاذ ملم بها ضمن أعضاء لجنة المناقشة، بهدف "النهوض بالبحث العلمي داخل الجامعات، والإسهام في تحسين مخرجاتها والاستفادة من نتائجها بمختلف أنواعها في معظم مناحي الحياة". ألا تكون الغاية الأساسية من هذه الخطوة الحكومية، استفزاز البعض والدعاية لفائدة التعليم الأمريكي بالمغرب؟ وما هو المقابل؟ فلا أحد يجادل في ما لتعلم اللغات الأجنبية، من بالغ الأهمية في حياة الشعوب لاسيما الأطفال، لأنها تساهم في تنمية الذكاء وتطوير المعارف والمهارات، وتفيد في الانفتاح على مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية. وتعمل على تخليص المتعلم من الفكر المتشدد، ليكون أكثر إقبالا على الحياة وأشد اشتياقا إلى معرفة عادات أخرى. والأهم أنها تعينه في بناء شخصيته وتعزيز ثقته بنفسه، وامتلاك القدرة على الاتصال والتفاهم، والتواصل المباشر مع الغير أو عبر مختلف وسائل الإعلام والإنترنت…. وتعد الإنجليزية، من أرقى اللغات وأوسعها انتشارا في العالم، من حيث أهميتها في تحقيق التقدم وتطوير البحث العلمي الرصين على المستوى الدولي، فهي لغة التدريس في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي لغة التكنولوجيا والعلوم والطب والهندسة… مما أدى بكثير من الدول إلى اعتمادها في مناهجها الدراسية والتحدث بها كلغة ثانية، وصار أرباب العمل في كافة البقاع، يفضلون تشغيل الخريجين من ذوي المهارات العلمية، ممن يجيدون الحديث بها. وبصرف النظر عن خلفيات الإسقاط المباغت للإنجليزية في التكوين الجامعي، الذي لم يسبق التمهيد له من قبل، يجوز أن تكون رغبة ابن كيران في تعلمها رغم تجاوزه سن الستين واستخفافه بكفاءة أساتذة بلاده، نابعة من محاولة تبديد شعوره بالقلق تجاه تشريعيات 7 أكتوبر 2016، التي لم يعد يفصله عنها سوى بضعة أسابيع. وأنه تحسبا من أن تعصف به أصوات الناخبين خارج رئاسة الحكومة، بعد أن فقد مصداقيته وتآكلت شعبيته، جراء قراراته الجائرة التي استنزفت قدرتهم الشرائية، بات مستعدا لاعتزال السياسة والهجرة إلى أمريكا لقضاء بقية عمره. بيد أن ما يتعذر فهمه، هو التأكيد المستمر ل"الداودي" على ما بلغته جامعاتنا من تطور وجودة التكوين، والحال أن التقارير الدولية تضعها خارج التصنيف، أو في المراتب الأخيرة عند أحسن الأحوال. فلماذا هذا الإصرار على فرض الإنجليزية في استكمال الدراسات العليا؟ هل وحده تعلم لغة العم سام، ما ينقص طلبة الجامعات؟ يبدو أن وزيرنا لم يسبق له الاطلاع على القصة الطريفة لملكة فرنسا "ماري أنطوانيت"، التي نصحت يوما بأن يأكل المتظاهرون المطالبون بالخبز، الكعك مكانه ! لا يا سيادة الوزير، فجامعاتنا تتخبط في مشاكل عديدة ومتنوعة، تقتضي إصلاحات جوهرية عميقة، ولا يمكن إطلاقا للغة "الأمريكان" أن تحجبها عنا. فهي تعاني من هشاشة البنيات التحتية وقلة البنايات والموارد البشرية الكفيلة بالاضطلاع الطبيعي بمهامها، وتشكو نقصا فظيعا في التجهيزات اللازمة للدراسة والأشغال التطبيقية، بالمختبرات والقاعات والمدرجات… فكيف نجبر طلبتنا على تعلم الإنجليزية، في ظل الاكتظاظ الصارخ وغياب الأساتذة الجامعيين الضروريين للتأطير بهذه اللغة؟ وأين هي الأحياء الجامعية اللازمة وفضاءات استقبال الطلبة وتبادل الخبرات والتجارب بين الأساتذة؟ وأين المراجع والكتب القيمة بالخزانات البئيسة، لإعداد البحوث والدراسات؟ أين المراقبة الصارمة في الامتحانات النهائية، للتصدي للغش والحفاظ على مصداقية الشهادات، أمام ارتفاع أعداد المترشحين وقلة المراقبين؟ وأين الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية ووسائل الترفيه؟ وماذا أعددتم للقضاء على مظاهر الفساد المستشرية؟ فجامعاتنا التي كانت مجالات تربوية وتثقيفية، تحولت اليوم إلى فضاءات لحلق الرؤوس غصبا، وتفريخ العاطلين… نحن مع تعلم أبنائنا اللغات الأجنبية، وتنويع المناهج ومصادر المعرفة وتعزيز المنافسة. لكن، ألم يكن حريا بابن كيران وصحبه، إيلاء لغة القرآن الكريم الأولوية والنهوض بها في اتجاه مواكبة التطور العلمي والتقني؟ ولماذا التعجيل بتنفيذ هذا القرار في ظل غياب الإمكانيات؟ أليس الهدف منه، ترجيح كفة طلبة المعاهد الخاصة في ولوج سوق الشغل…؟ فالتاريخ وحده الأجدر بالكشف عن الحقيقة.