ليس من السهل الحديث عن جماعة كجماعة العدل و الإحسان، ذلك أن الأفكار المغلوطة التي تشوب وجهة نظر الكثيرين من الناس تكون في الغالب عبارة عن أحكام مسبقة وحس مشترك لا وجود له في فكر و مشروع الجماعة منذ صدور كتابي "الإسلام بين الدعوة و الدولة" سنة 1972، و"الإسلام غداً" الصادر سنة 1973، لكاتبهما الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد الجماعة - وقد اشرنا إلى الكتاب الأول باعتبار سنة صدوره تعتبر الانطلاقة الأولى لنشأة تصور الجماعة، وإن كان البناء التنظيمي بدأ مع حلول 1980 سنة حسب وجهة نظر السوسيولوجي محمد ضريف- إضافة إلى ما يروج له المخزن و الإعلام الرسمي و النظام بكل ما أُوتي من قوة لتشويه صورة الجماعة في الداخل و الخارج ، لكن اللافت للانتباه - كما يرى العديد من المحللين السياسيين و العاملين في الشأن السوسيولوجي والمهتمين بتاريخ الحركة الاسلامية في العالم الإسلامي عموما و في المغرب خصوصا، فضلاً عن المهتمين بتاريخ جماعة العدل و الإحسان - أن الجماعة بقيت صامدة منذ أن شرعت في محاولة إقامة العدل في الأرض و الدعوة إلى الله، كما يلخص ذلك الشعار القرآني الذي رفعته "العدل والإحسان"، فأين تكمن قوة هذه الجماعة؟ و ما السر وراء ثباتها و صمودها؟ العامل الأول، الذي جعل من الجماعة قوة و تيارا إسلاميا كبيرا في المنطقة، هو الجانب التصوري، فالجماعة تتبنى في عملها التخطيط ثم التخطيط، مستمدة آليات و أساليب عملها من المشروع الفكري الإسلامي الذي نظْر إليه الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب " المنهاج النبوي: تربية و تنظيما و زحفا"، إضافة إلى باقي الكتب الأخرى التي تنم عن دراية و إطلاع كبيرين لمرشد الجماعة، فهو استفاد من تجارب الحركة الإسلامية، خاصة الإخوان المسلمون (فكر حسن البنا )وقرأ فكر المجددين الإسلاميين، فضلاً عن إطلاعه الواسع على الفلسفات الغربية الليبرالية منها و اليسارية...، حيث استنتج ضعفها عملا و ممارسة .. ، مما جعل فكر الأستاذ عبد السلام ياسين فكرا يفهم الإسلام فهما شموليا معتدلا، ويستوعب الواقع و ينفتح عليه مع قابليته للتجديد و مسايرة المتغيرات. الأمر الذي جعل من تصور الجماعة تصورا له ماض و حاضر و مستقبل يجعل منها تنظيما قويا و محكماً. أما العامل الثاني، فهو عامل إشعاعي - فرغم الحصار الإعلامي الكبير، الذي تعاني منه الجماعة، حيث لا تتواصل إعلاميا إلا من خلال موقعها الرسمي، وموقع الأستاذة ندية ياسين، إضافة إلى ما تبثه بعض القنوات الفضائية العالمية كالجزيرة وقناة الحوار وقناة فرانس24...- فعمل الجماعة لا يقتصر على المغرب فقط، بل يتجاوز الحدود المغربية ليطل على أمريكا و وأوروبا و العالم العربي و الإسلامي وإفريقيا...فأعضاء الجماعة يوجدون في جميع مناطق العالم، مما أعطى للجماعة الفرصة لتكوين تمثيليات وترسل سفراء ينشرون فكر الأستاذ عبد السلام ياسين و تصوره، الأمر الذي جعل منها تيارا يكتسح أرجاء المعمورة بطريقة ذكية جداً، وإذا كانت القضية الفلسطينية خاصة، و هموم الأمة الإسلامية على العموم، تعتبر من بين القضايا الملحة على منطقة الشرق الأوسط، فإن الجماعة لا تفوتها ولو مناسبة واحدة إلا وتبادر و تشارك في اكبر المؤتمرات العربية و الإسلامية و تخرج في مسيرات مليونية لنصرة قضايا الأمة، و الوقوف إلى جانب المستضعفين في الأرض كما هو معروف في أدبيات الجماعة، مما أعطاها صدىً كبيراُ و شهرة واسعة، و الدليل على ذلك الحضور الأوروبي الكبير في قضية اختطاف أعضاء الجماعة بفاس، حيث حضر العديد من المحامين و الهيئات و المنظمات الحقوقية و الإنسانية للمساندة و الدفاع عن براءة و سلمية الجماعة. أما العامل الثالث، فهو مناهضتها للعنف وعدم سريتها ، فمن مبادئ جماعة العدل والإحسان: لا للعنف، لا للسرية، إذ رغم كل محاولات الدولة من أن تجعل من التنظيمات الإسلامية تنظيمات إرهابية لتبرير مقاربتها الأمنية للاعتقال و المحاكمة، باسم محاربة الإرهاب عن طريق ممارسة الإرهاب، إلا انه لم يسجل عن الجماعة منذ تأسيسها أن قامت بفعل إرهابي أو ممارسة عنف أو سرية في دعوتها، و هي الفكرة الأولى التي يشير إليها مرشد الجماعة وهو ينظر لمشروعه الفكري الإسلامي في كتاب" المنهاج النبوي"، إذ أكد أن عمل الجماعة عمل علني بامتياز، وليس هناك أي سبب يدعو إلى السرية في الدعوة إلى الله باعتبار الجماعة "جماعة تدعو إلى الله و تتوب إليه". و البناء التنظيمي للجماعة مبين و مسطر و واضح في "المنهاج النبوي". فهي جماعة لا تكفر الناس و لا تهجرهم و لا ترى في العنف و التشدد سبيلا لإقامة دولة الإسلام. مما جعل إقبال الشعب على بيوتها إقبالا متزايدا ملحوظا. و العامل الرابع، هو عامل عدم التمييز و عدم الإقصاء، والاستعداد لقبول الآخر مهما كانت قناعاته و توجهاته، عن طريق الحوار و التناظر مع الاحتفاظ بحق النقد، فمرشد الجماعة كان أول ما قام به أن دعا العلماء إلى التعاون و التوحد لحمل هم رسالة الإسلام و الدعوة إلى الله، فلم يترك المجال لأحد كي يقول و يحاسب الجماعة على أنها لم تقم بواجب "اللهم إني قد بلغت"، بل الأكثر من ذلك نجد أن الأستاذ عبد السلام ياسين قد فتح الباب واسعا ليناشد و يخاطب و يوقظ - فيمن اصطلح عليهم بالفضلاء الديمقراطيين - روح المبادرة من اجل التغيير و النهوض بالبلد من اجل إخراجه من التخلف و الانحطاط الذي يعيشه على جميع مستوياته: التعليم و الصحة و الاقتصاد و الضعف العسكري...، و السبيل إلى ذلك في نظر مرشد الجماعة هو جعل الحركة الإسلامية هي حركة كل ذي ضمير حي يسعى إلى التغيير الفعلي، فيقول في مقال بعنوان (من اجل فتح حوار مع النخبات المغربة، مجلة الجماعة، السنة الثالثة، العدد السابع، سنة 1401ه، ص: 34-35):"..ندعو النخبات المغربة إلى أن تجعل من الحركة الإسلامية حركتها، وأن تشاطر الشعب إيمانه بالله وشريعته و رسوله من منطلقنا وقانوننا و مرجعنا..."، و إن قيل أن الجماعة تقصي الآخر إذ رفعت شعارا خاصا بها دون باقي المسلمين "العدل و الإحسان". فالجماعة ترى انه شعار فقط يلخص برنامج عملها و لا يميزها عن غيرها. أما العامل الخامس، فهو عامل المحبة و التشاور و الطاعة، فرغم اختلاف مدلول ودلالة هذه المفاهيم الثلاثة، إلا أنها تجتمع في قاسم مشترك: العمل الوازن و المسؤولية المسؤولة و الثقة المتبادلة بين أعضاء الجماعة، مما أعطاها صرحا قويا لا يترك مجالا سهلا للاختراق أو التشويش من طرف أي كان، فأعضاء الجماعة تربطهم علاقة حب متبادل إلى درجة كبيرة، الحب في الله مسألة ضرورية في صف الجماعة، تقويها مجالس الإيمان و الرباطات و مجالس النصيحة ودعاء المؤمن لأخيه المؤمن...، تأسياً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يرى أعضاء الجماعة، مما يعطيهم قوة في التشاور والنقاش و الحوار قبل القيام بأي عمل، تشاور يمتد لساعات بل أيام، بل الوقت كله مشاورة بين أعضاء الجماعة، وبعد التشاور يأتي الاتفاق، الذي يلزم الكل، فالجماعة عندما تقرر القيام بعمل ما، تقوم به على درجة كبيرة من الإحسان، لا يثنيها عن ذلك أي عائق، لا ترضى بأنصاف الحلول و لا تتراجع عن المواقف، بإيمان قوي و إرادة متينة، لا تسوق وراء الحماس العاطفي، أو المزلق السياسي المناسباتي، بل الأمر الأساسي في عمل الجماعة هو التوبة إلى الله، أما السياسة فهو بعض شان الجماعة، و تعتبره و وسيلة و ليس غاية. والجانب الإحساني هو المرتكز الأساسي في فكر الجماعة. به توصي أعضاءها، و به تستمد قوتها. ويبقى عامل أخير يعتبر بمثابة نتيجة، هو عامل التغلغل في الشعب، فلا تكفير و لا تشدد و لا نفور...، مما جعل الكل يقبل على مجالس الجماعة، الجزار و الخضار و الفلاح و البناء و المرأة و الرجل و الطفل و الشاب و الأمي و العالم و المثقف و الفنان و التلميذ و الطالب، المغربي و غير المغربي، أصناف و مكونات المجتمع كلها حاضرة، و في جميع جهات و مناطق المغرب، المدن و البوادي..فأينما حل الإنسان و ارتحل إلا ويجد الجماعة حاضرة تستقبله ليقبل على الله و يحسن علاقته مع خالقه.