هناك قانون سوسيولوجي يفيد بأن كل الجماعات تبدأ متطرفة وتنتهي معتدلة، منذ عهد الخوارج. وهنا نستحضر بعض التجارب التي عاشتها مكونات الحركة الإسلامية المغربية، بدءا بحركة الشبيبة الإسلامية. فعبد الكريم مطيع، الذي كان انقلابيا وبرر اللجوء إلى العنف في بداية الثمانينيات، واتُّهم بإدخال مجموعات للقيام بعمليات تخريبية، عندما نراجع ما يصدر عنه، خاصة ما جاء في كتابه «فقه الأحكام السلطانية»، الصادر سنة 2000، سنجد أنفسنا أمام رجل يتكلم لغة أخرى. ومباشرة بعد وفاة الحسن الثاني، صدرت بيانات عن الشبيبة تطالب النظام بإحداث نوع من المصالحة من أجل مواجهة تحدٍّ وحيد هو قضية الصحراء. هناك تجربة ثانية جسدها مصطفى المعتصم ومحمد المرواني اللذان أسسا تنظيم «الاختيار الإسلامي»، وانتهيا إلى مراجعة أفكارهما. وتنظيم «الاختيار الإسلامي»، الذي تأسس سنة 1981 وكان أتباعه يعرفون ب«الرساليين» أو «جند الله»، هو تنظيم تطورت مواقفه لينتج شكلا من أشكال الإسلاموية المندمجة مع بداية سنة 1990، حيث حاولت قياداته، المتمثلة في مصطفى المعتصم ومحمد الأمين الركالة ومحمد المرواني، تأسيس «الجبهة الإسلامية المغربية» بالاندماج مع جمعيات إسلامية أخرى أفضت إلى الإعلان سنة 1992 عن تأسيس «حزب الوحدة والتنمية». وأمام رفض الترخيص للحزب وصعوبات تدبير خيار الاندماج من قبل قادة تنظيم «الاختيار الإسلامي»، كما عبر عن ذلك المؤتمر الثالث للتنظيم المنعقد بمدينة تمارة سنة 1994، بادر مصطفى المعتصم والأمين الركالة إلى مغادرة التنظيم وتأسيس «حركة البديل الحضاري» سنة 1995. عبر مؤسسو حركة «البديل الحضاري» عن أفكارهم من خلال وثيقة صادرة سنة 1996 بعنوان (البيان الحضاري)، إذ لم يقبلوا بمنطق المراجعات الذي حكم مؤسسي جمعية (الجماعة الإسلامية) والذي أفضى، في نهاية المطاف، إلى نوع من الاندماج والتماهي مع طروحات السلطة السياسية، بل اختاروا منطقا آخر لمراجعاتهم يفضي إلى نوع من التقارب مع طروحات القوى الديمقراطية واليسارية. إن (حركة البديل الحضاري) التي اتخذت من (إبراهيم كمال) مرشدا روحيا لها، وهو الرجل الثاني سابقا في قيادة (حركة الشبيبة الإسلامية)، شددت على رفض العنف واجتناب العمل السري، كما سعت إلى البحث عن الشرعية القانونية، ولكن وفق تصورات تختلف عن تصورات (حركة التوحيد والإصلاح)، فهي تلتقي، إلى حد كبير، مع طروحات القوى الديمقراطية وانخرطت في حوار معها، وهي -على نقيض (حركة التوحيد والإصلاح) التي تطالب ب«ملكية حاكمة»- تطالب ب«ملكية برلمانية»، حيث تراها النظام الأقرب إلى روح الإسلام. لقد تحولت «حركة البديل الحضاري» إلى «حزب البديل الحضاري» سنة 2002، ولم ترخص السلطات لهذا الأخير إلا في سنة 2005، حيث شارك في تشريعيات 7 شتنبر 2007 ولم يحصل على أي مقعد. بعد ثلاث سنوات على تأسيس «حركة البديل الحضاري»، بادر ما تبقى في تنظيم «الاختيار الإسلامي»، بقيادة محمد المرواني، إلى تأسيس «الحركة من أجل الأمة» سنة 1998، وقد تحولت الحركة إلى حزب باسم «حزب الأمة» سنة 2006. وفي الوقت الذي كان فيه الحزب يستعد لمقاضاة وزارة الداخلية بدعوى عدم الترخيص له، أعلنت السلطات عن تفكيك شبكة عبد القادر بليرج في فبراير 2008، حيث اتهم مصطفى معتصم ونائبه أمين الركالة ومحمد المرواني، الأمين العام ل«حزب الأمة»، بالضلوع فيها. وبناء على هذا الاتهام، اتخذ الوزير الأول في فبراير 2008 قرارا بحل حزب «البديل الحضاري» كما قرر القضاء منع «حزب الأمة». إن نفس القانون السوسيولوجي ينطبق على جماعة «العدل والإحسان». وعليه، فإن هذه الجماعة تطورت مواقفها. والذين يختصرون الجماعة في «المنهاج النبوي» هم خاطئون، لأنه كتب في ظروف معينة، إذ كانت هناك ثورة إيرانية ألهمت كثيرا من الإسلاميين، بمن فيهم الأستاذ عبد السلام ياسين الذي قضى وقتا مهما في شرح كتاب «الحكومة الإسلامية» للخميني على صفحات مجلة «الجماعة». والجماعة لا تشكل استثناء لهذا القانون الذي يحكم التنظيمات. قد يقول بعض أتباعها «نحن نشكل استثناء»، ولكن هذا الموقف جزء من الإيديولوجية السياسية التي تجعل «المريد» أو«التابع» يشعر بنوع من التميز عن الآخرين. وما جرى على تنظيمات أخرى يجري على تنظيم جماعة «العدل والإحسان». والجماعة عرفت منذ تأسيسها العديد من التحولات. فعلى المستوى التنظيمي، لم يتبق شيء من المنهاج النبوي، فعنوانه الفرعي: «تربية وتنظيما وزحفا»، فكل ما يتعلق بالتنظيم تغير، وفكرة الزحف لم تعد واردة، بدليل أن ياسين يقدم جماعته على أنها فقط «قوة اقتراحية» وليست تنظيما زاحفا نحو الحكم والسلطة، وما بقي من المنهاج النبوي هو التربية. ومن يرجعون إلى المنهاج للاستناد إليه من أجل إظهار الجماعة بوصفها جماعة متطرفة هم ثلة من الاستئصاليين. لقد وجهت الجماعة ما يكفي من الرسائل إلى السلطات باعتبارها جماعة معترفة بالمؤسسة الملكية وبالنظام القانوني المعمول به. فمثلا، عندما تتهم السلطاتُ الجماعة بأنها غير قانونية، تلوح الجماعة بوجود أحكام صادرة عن القضاء المغربي، بمعنى أن مرجعية الجماعة هي النظام المعمول به بالمغرب، وهو قانون الدولة، ولا تعتبره قانونا وضعه «الطاغوت». وعندما تم تشميع بيت محمد العبادي بوجدة، قدم طعنا إلى المحكمة الإدارية. وأكثر تعبيرا من ذلك المواقف التي صدرت في بيانات الدائرة السياسية، ففي اجتماع المجلس القطري للدائرة في نوفمبر 2005، دعا البيان أعضاء الدائرة إلى العمل على إعداد مقترحات لمراجعة الدستور. وكل باحث يفهم ما المقصود بالمراجعة، فهو لا يقول إنه غير شرعي، بل يطلب مراجعته ليتأسس على مبدأ فصل السلطات. إضافة إلى ذلك، كانت هناك محاولة للتطبيع بين الدولة والجماعة في سنة 1992، وهناك وثيقة وقعتها الجماعة مع وزير الأوقاف السابق عبد الكبير العلوي المدغري، نشرت أخيرا، تبين بالملموس أن الجماعة كانت مستعدة لتشكيل حزب سياسي وطلبت مهلة فقط لإقناع قواعدها بهذا التحول، والوزير يدرك أن عدم تنفيذ الاتفاق ليس راجعا إلى جماعة «العدل والإحسان» وإنما إلى جهات أخرى داخل الدولة لم يكن في مصلحتها أن يتم التطبيع. توجد مؤشرات كثيرة تبرز أن جماعة «العدل والإحسان» طورت مواقفها. وعندما نرجع إلى كتاب ياسين «حوار مع الفضلاء الديمقراطيين»، نجده يشكل تحولا عميقا في مواقف الجماعة، ومذكرة «إلى من يهمه الأمر» -التي تقدم كوثيقة معبرة عن تطرف الجماعة، في حين أن العكس هو الحاصل- هي مذكرة تعترف بالشرعية الملكية وتلتقي مواقفها مع مواقف الملك، فياسين يرفض العلمانية، وهو الموقف الذي عبر عنه الملك محمد السادس في حوار يناير 2005 مع صحيفة «إلباييس» الإسبانية، حيث يؤكد أن الدولة بالمغرب لا يمكن أن تكون علمانية. والتساؤل المطروح هو: لماذا نركز على الجوانب والنقاط التي تبين تناقضا بين مواقف الدولة ومواقف الجماعة ونغمض العين عن المواقف التي تقرب بين الجهتين، خاصة مع وجود وثيقة 1992؟ إن ما هو إيجابي هو أن الأستاذ عبد السلام ياسين مهد في حياته لهذا التحول، ومن سيأتي بعده سيجد سندا إذا ما انخرط في عملية التطبيع مع الدولة، ولا يمكن أن يتهم بكونه انحرف عن منهج عبد السلام ياسين. فعبد السلام ياسين كان واضحا ويتحدث في توصيفه للمجتمع عن كونه «مجتمع فتنة» عندما يختلط الحق بالباطل، ولم يقل إنه مجتمع «جاهلي»، ولا يكفر الناس ولا يدعو إلى العنف، وهناك نقط كثيرة يمكن أن تشكل مدخلا للتطبيع. ينبغي ألا نتعامل مع الجماعة من خارج التاريخ بل هي تشتغل في زمان ومكان معينين، وينبغي ألا نحمل قادتها ما لا يطيقون بل هم أشخاص يجتهدون، ولكن في العمل السياسي هناك حسابات، ففي تاريخ الحركة الإسلامية منذ نشأة الإخوان المسلمين سنة 1928 مع حسن البنا، أدت الحركة الإسلامية ثمن جهلها بقوانين السياسة، فقد أنجح جمال عبد الناصر ثورته باستغلال الإخوان المسلمين، وأنجح الرئيس التونسي «زين العابدين بنعلي» «تغييره» -حتى لا نقول انقلابه- في تونس بمساعدة الغنوشي، ولم يستفد الإسلاميون في تونس من دروس التاريخ، وأنجح عمر البشير انقلابه في السودان بواسطة الترابي وبعد ذلك انقلب عليه. إن «المثالية المفرطة» في العمل السياسي والجهل بقوانين السياسية يؤديان إلى الفشل، وجزء من فشل الحركة الإسلامية، وليس في المغرب فقط، راجع إلى تجاهلها لعوامل السياسة، والحركات التي استوعبت قوانين السياسة واشتغلت وفق منطقها استطاعت تحقيق العديد من المكاسب.