مفاجئة للجميع، وربما للرجل نفسه!، انتخاب عبد الإله بن كيران أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية المغربي، شخصية الرجل ومزاجه وطبيعة علاقته المضطربة بقواعد الحزب بل وقواعد الحركة الإسلامية التي ينتمي إليها الحزب كانت تنبئ بعكس ذلك تماما، لكن يبدو أن بن كيران الذي يشبه طائر الفينيق مازال قادرا على القيام من عثرته والعودة أقوى مما كان. "" السطور التالية نشرتها عن بن كيران قبل عام تقريبا، وحين أراجعها الآن بعد اقترابي منه بشكل أقوى وأوثق أجد أن بعضا من جوانب شخصية الرجل بحاجة إلى مزيد من الاستكشاف والتأمل وأقر بأن بعضا ما أطلقته من آراء وتقييمات ربما بحاجة إلى مراجعة قد تأتي في فترة لاحقة، ولكن يظل في مجمله يصلح كقراءة مفتاحية لهذا الرجل الإشكالي القلق الذي إما أن تحبه جدا أو تكرهه جدا وبين الحب والكراهية تضيع الحقيقة في تقييم بن كيران الذي سيظل في كل الأحوال قيادة استثنائية في تاريخ الحركة الإسلامية المغربية. منذ أن اقتربت من الحركة الإسلامية في المغرب وأنا أسمع عن هذا الرجل، وكان أكثر ما سمعته عن عبد الإله بن كيران نقدا حادا في حقه قد يصل إلي الجرأة علي الرجل خاصة من بعض شباب الحركة، وكان هذا – في رأيي- غريبا في حق رجل تولي قيادة الحركة ما يقرب من عقد كامل شهد أهم أحداثها وتحولاتها حتى استوت علي عودها رقما مهما في الحالة الإسلامية في المغرب وخارجها. وحين التقيت به للمرة الأولي قبل عامين في مكتبه بصحيفة التجديد في الرباط كان لافتا لي طريقة تعامله مع مرؤوسيه التي تتسم بالمباشرة وعدم التكلف ولاحظت أنها تخلو من ميكانيزمات الهيمنة والإخضاع التي دائما ما تسم علاقة القادة بالأتباع، وهو ما ينشأ بينه وبين مرؤوسيه علاقة ندية أكثر من تبعية. واستوقفني أكثر أنني حين بدأنا نقاشنا لم أجد كبير عناء في اقتحام الرجل بل ونقده، ولم يتركني الرجل كثيرا في حيرتي فقال في لحظة صفاء وكأنما يجيب علي أسئلة لم أطرحها عليه: أنا قائد لا يبحث عن التوقير بين حركته (أو للدقة قال: أنا قائد غير موقر بين حركتي!)، وأضاف: ولن تجد في حركتنا هذا النمط الشائع من القيادة بين الإسلاميين. نظرة على الجيل المؤسس لا يمكن الحديث عن هذا النوع من القيادة سواء في شخص عبد الإله بن كيران أو حركة التوحيد والإصلاح إلا بتقديم نظرة عامة علي الجيل المؤسس للحركة الإسلامية في المغرب، إنه الجيل الذي نشأ في حركة الشبيبة الإسلامية التي أسسها عبد الكريم مطيع، ثم أسس للعمل الإسلامي في عقد السبعينيات في الجامعات المغربية، وبعدها انفصل في بداية الثمانينيات عن تنظيم الشبيبة بسبب تورط الأخير في العنف والتحريض علي الدولة. إنه الجيل الذي أسس لتجربة إسلامية جديدة بدأها بتنظيم " الجماعة الإسلامية " 1981 واستمرت حتى تغير اسمها عام 1988 إلي حركة "الإصلاح والتجديد"، ثم دخلت في حوار مع بعض مكونات العمل الإسلامي (مثل رابطة المستقبل الإسلامي) أدت عام 1996 لوحدة فريدة من نوعها كان ثمرتها حركة " التوحيد والإصلاح ". كان عبد الإله بن كيران واحدا في مجموعة متقاربة عمريا وفكريا ومتساوية تقريبا في قدراتها وإمكاناتها ليس فيها من يفوق الآخرين أو يتميز عنهم، وهي المجموعة التي ضمت معه محمد يتيم وعبد الله بها وعز الدين توفيق وسعد الدين العثماني وعبد العزيز بومرت والأمين بوخبزة ومحمد العمراني...وغيرهم من الذين صاروا رموزا للعمل الإسلامي في المغرب. سيرة موجزة أما عبد الإله بن كيران فهو رباطي من أصول فاسية بما تعنيه " فاس " من معاني الوجاهة والتقاليد، ولد في 8 أبريل عام 1954 لأب من عائلة صوفية تعمل بالتجارة عرف بعض أبنائها بالعلم الشرعي من بينهم " العالية " أول امرأة اعتلت كرسي العلم في مسجد القرويين، أما أخواله فهم من أسرة خزرجية الأصل استوطنت فاس قبل قرون. عن أمه أخذ عبد الإله الاهتمام بالشأن العام وقد كانت تواظب علي لقاءات حزب الاستقلال، فيما أخذ عن أبيه بعض التصوف والتعلق بتحصيل العلم الديني والميل إلي التجارة. تلقي عبد الإله التعليم الديني برعاية من والده وحفظ أجزاء من القرآن في الكتاب ( المسيد )، ثم تعرف في بداية حياته علي بعض التنظيمات اليسارية ( مثل 23 مارس، وإلي الأمام ..) كما اقترب من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الاشتراكي في نفس الوقت تقريبا الذي كان يتردد فيه علي حزب الاستقلال، وأخيرا كان التحاقه بتنظيم الشبيبة الإسلامية في عام 1976 بعد واقعة اغتيال الزعيم الاشتراكي عمر بنجلون التي اتهم فيها التنظيم! تدرج عبد الإله سريعا في العمل الإسلامي وأصبح من قيادات التنظيم، وكان لأبناء جيله ميزة أنهم نقلوا عمل التنظيم إلي الجامعات بعدما كان قاصرا علي المدن فقط، وبذلك كان ممن بدأوا العمل الإسلامي في الجامعة، وأثناء ذلك قادوا الشارع تضامنا مع الشبيبة الإسلامية ومرشدها عبد الكريم مطيع الهارب خارج البلاد من الملاحقة القضائية في اغتيال بنجلون، فعرفوا تجربة السجن بسبب ذلك. فما بعد ولأسباب لا يتسع لها المقال سيمضي هؤلاء الشباب بالعمل الإسلامي في طريق الانفصال عن الشبيبة؛ التنظيم الإسلامي الأول؛ في البداية احتجاجا علي طريقة إدارة المرشد التي تميل للتخوين وبث روح الشك وعدم الثقة بين الأعضاء، ثم سيتحول الأمر إلي خلاف في الرؤى والأفكار بعدما تبنت الشبيبة الإسلامية العنف ضد النظام وخرقت الإجماع الوطني بانحيازها إلي انفصال الصحراء المغربية..كان هذا في عام 1981، وهو العام الذي بدأ فيه عبد الإله بن كيران في وضع أولي بصمات نوع جديد من القيادة في العمل الإسلامي. أول ظهور فارق ومؤثر لما استقل شباب العمل الإسلامي عن تنظيم الشبيبة الإسلامية بدئوا في وضع لبنات تنظيم جديد: الجماعة الإسلامية الذي ضم العدد الأكبر والأهم من الشباب ولكن دون أن يعلنوا عن ذلك، وتصادف أن صعّد مرشد الشبيبة الإسلامية من عمليات التحريض ضد النظام والإساءة إلي الملك وتورط في إدخال أسلحة للبلاد عبر الجزائر كما انحاز إلي انفصال الصحراء؛ فبدأ النظام حملة اعتقالات موسعة في صفوف كل المنتمين للتنظيم. ولما كان أعضاء الجماعة الإسلامية أعضاء سابقين فقد طالتهم الاعتقالات، وهنا سيظهر أول دور محوري لبن كيران. كان أبناء الجماعة الإسلامية قد انفصلوا – فعلا- تنظيميا وفكريا عن الشبيبة الإسلامية وكان من الطبيعي أن يعلنوا ذلك لكنهم لم يفعلوا، ربما كانوا يرفضون أن يبدؤوا بإعلانهم الخروج فصلا في معركة مع مرشدهم السابق، أو ربما كانوا يستحون أن يظهروا وكأنهم يتبرؤون من ماضيهم " الإسلامي".. فامتنعوا لهذا وربما لأسباب أخرى عن إعلان موقف قاطع مع الشبيبة، فكان وحده عبد الإله بن كيران من تجرأ وأخذ مبادرة أن يعلن للسلطات هذا القرار الذي رفض الجميع أن يأخذه أو يوافقه عليه، بل وأصدر نيابة عن نفسه وإخوانه بيانا صريحا بذلك علي أن يترك لبقية الإخوان أن يتبرؤوا منه ومن البيان إذا ما رفضوه بل وأن يأخذوا قرارا بفصله من الجماعة إذا ما رأوا ذلك بعد خروجهم أو توقف ملاحقة من ظل هاربا منهم! لقد رأي عبد الإله أن الحركة تأخذها العزة بما سيدخلها في نفق لن تجني منه إلا الحنظل، وأن واجب اللحظة القيام بواجب تستحي بل ربما تخاف أن تقوم به وهي التي لم تخف السلطة والسجون؛ فتطوع لمهمة لم ينتدبه إليها أحد بل ووضع نفسه في وضعية المتهم بالتساهل أو اللين في مواجهة السلطة بل وربما كان سيصبح أول ضحاياها إذا لم يتفهمه إخوانه الذين مازالوا حديثي عهد بالتشدد ولم يفارقوا بعد روح التضحانية التي تجعلهم يستعذبون الأذى ولو قبل أوانه ومن دون أي استحقاق! ولكن جاءت مبادرة عبد الإله بالخير علي إخوانه و جماعتهم التي سرعان ما تخلصت من عقدة الشبيبة التي كانت الأولي في سلسلة عقد كانت تحكم علاقتها بالنظام، ويبدو أن نجاح هذه المبادرة سيكون له تأثير بالغ في منهج عبد الإله في التعامل مع كل العقبات والعقد التي واجهتها الحركة أو عاشتها. سريعا سيدخل عبد الإله معركته الثانية والتي كانت موجهة ضد السرية ولم يكن قد صعد بعد إلي سدة القيادة التي كان فيها محمد يتيم رئيسا للجماعة الإسلامية، ورغم ذلك طرح عبد الإله مبادرته التي تدعو إلي ضرورة أن تقطع الجماعة مع السرية وتسعي إلي أن توفق أوضاعها قانونيا وفق النظام واللوائح المعمول بها. لا يمكن فهم أهمية ما دعا إليه بن كيران إلا إذا وضعناه في سياقه التاريخي؛ فقد كانت السرية في هذا الوقت من أهم أسس العمل الإسلامي الذي توارثته الجماعة عن تنظيم الشبيبة وغذته من أدبيات الحركات المشرقية التي كانت حاضرة بقوة، ومن ثم فلم تكن تتصور القطع معها في يوم ما. قوبلت دعوة العمل في إطار القانون ورفض السرية برفض عارم من التيار العام للحركة لكن عبد الإله أصر عليها وقاوم من أجلها، فما كان إلا أن وافقت الحركة علي الفكرة جزئيا بأن تسمح لعبد الإله بأن يتحرك في مسألة القانونية ولكن في إطار محدود لا يتصل بالجماعة كلها وإنما بفرعها بالرباط الذي كان مسئولا عنه، فقام عبد الإله من فوره بإيداع أوراق جمعية " الجماعة الإسلامية " في فرع وزارة العدل بالرباط، وكانت تلك أول محاولة في تاريخ الحركة الإسلامية لتجاوز السرية وتوفيق أوضاعها قانونيا. قدرة على فرض منطقه ستكر المسبحة وتأخذ أفكار عبد الإله مسارها في الحركة رغما عن رفض التيار العام لها، وفي أول اعتقالات طالت معظم أعضاء فرع تنظيم "الجماعة الإسلامية" في مدينة مكناس وكادت تسقط التنظيم في القطر كله سيقود بن كيران حملة لإقناع الحركة بلا جدوي السرية وأنها أضعف من أن تحافظ علي التنظيم بل إن خطئا واحد يمكن أن يقضي علي التنظيم مهما تحصن بالسرية. وكان درس اعتقالات مكناس مما ساعد الحركة علي تقبل دعوة عبد الإله وإن علي مضض. كما ستفرض أفكار عبد الإله منطقها علي الحركة أيضا، خاصة مع انتخابه رئيسا للحركة عام 1986 بأغلبية تجاوزت الثلثين. إذ مع الدخول في مفاوضات الوضعية القانونية سيقود عبد الإله أيضا الدعوة إلي تجاوز مأزق الاسم ( الجماعة الإسلامية ) بعدما أثار رفض الجهات الرسمية التي رأت أنه لا يتناسب مع بلد كل شعبه مسلم ويستمد نظامه الشرعية من الدين باعتبار أن الملك فيه أمير المؤمنين، وستتجاوب الجماعة مع بن كيران وتغير اسمها من الجماعة الإسلامية إلي التجديد والإصلاح!. ستستمر أفكار عبد الإله في فرض منطقها علي الحركة لتدفع بها نحو تجاوز إشكاليات مهمة؛ ومن أهمها تلك التي تتصل بعلاقاتها بالدولة، هل هي دولة إسلامية؟ وهل تسلم الحركة بالنظام الملكي؟ وهل تقبل بمبدأ إمارة المؤمنين الذي يؤسس للملك والملكية شرعية دينية؟.. إنها الإشكاليات التي كانت تتلبسها بتأثير النشأة مع الشبيبة الإسلامية وبتأثير الفكر الحركي المشرقي أيضا. سيطرح عبد الإله بن كيران وكان رئيسا للحركة تصورا يبدو بسيطا لتجاوز هذه الإشكاليات ولكنه بالغ الأهمية علي الأقل في لحظته التاريخية ( وكل ما فعله بن كيران لا يُقرأ إلا في سياقه التاريخي )، فقد ذهب بن كيران إلي القول بأن الدول مثل الأفراد، لا نحكم عليها إلا بما تدعيه، وإذا كانت الدولة قد أعلنت أنها مسلمة فهي كذلك حتى ولو ارتكبت ممارسات تخل بإسلامها، ومثلما لا نكفر الفرد الذي يعلن الإسلام حتى ولو أتي بالذنوب والمعاصي فإنه لا ينبغي أن نكفر الدولة بمجرد أن ارتكبت ما لا يتوافق مع الإسلام طالما أعلنت أنها مسلمة. علي بساطتها ستعمل هذه الفكرة عملها في الحركة لتفكك كل الألغام التي كانت تقف في طريق علاقتها بالدولة ونظرتها لها، ستتجاوز سريعا نفق تكفير الدولة الذي دخلته معظم الحركات الإسلامية الأخرى، ومن ثم ستتخلص من كل العقبات التي تقف أمام " تطبيع " وضعيتها في المجتمع المغربي. سيتولي بن كيران ومعه نائبه عبد الله بها أقرب قيادات الحركة إلي قلبه وعقله وضع وثيقة تقبل فيها الحركة بالنظام الملكي بل وتقر فيها بإمارة المؤمنين التي تؤسس للشرعية الدينية للملك ونظامه وكانت وجهة نظرهما أن الإقرار بالشرعية الدينية للملك يلزمه بهذه الشرعية التي تسوغ للحركة الإسلامية مساءلته عليها ومحاولة إلزامه العمل بمقتضاها. في هذه الوثيقة التي طرحها عام 1990 ستتضح رؤية بن كيران بأنه إذا كان النظام الملكي هو الضامن لوحدة التراب المغربي فإن إمارة المؤمنين هي الضامن لإسلامية الدولة وعدم انحرافها أو سقوطها في براثن الأطروحات العلمانية الداعية للتخلص من أي مرجعية دينية للدولة. ستواجه وثيقة بن كيران وبها معارضة شرسة من التيار العام في الحركة ممثلة في مكتبها التنفيذي، وأمام هذا الرفض سيضع الرئيس ونائبه ( بن كيران وبها ) استقالتهما تحت تصرف قيادة الحركة والتي ستنتهي إلي القبول بالوثيقة بعد إعادة صياغتها فيما يمثل انتصارا للخط الذي تبناه عبد الإله بن كيران ودعا إلي ترسيخه في مسار الحركة. صاحب مبادرات تأسيسية التئاما مع مشروعه لتطبيع وضعية الحركة في المجتمع المغربي كان عبد الإله بن كيران صاحب مبادرة تأسيس العمل النسوي للحركة وذلك بمجرد انتخابه رئيسا للحركة، وعام 1986 وفي بيته بحي الليمون في الرباط التئمت أول مجموعة الأخوات شكلت نواة أول تجمع نسوي للحركة وفي بيته أيضا انعقد أول مؤتمر نسوي للحركة. وكان بن كيران أكثر من دعموا العمل النسوي في وقت كان خطباء الحركة ودعاتها يرفضون مجرد أن يعطوا دروسا مباشرة للإخوات مظنة التحريم ( كما يروي أبو زيد المقرئ الإدريسي )، واستمر بن كيران في دعمه حتى انتهت الحركة الإسلامية المغربية إلي تصور متقدم لها عن بقية الحركات الإسلامية الأخرى في قضية وجود المرأة وعملها في الحركة، وهو تصور يقوم علي ثلاثة أركان: وحدة العضوية: حيث تصبح شروط عضوية المرأة بالحركة هي نفس شروط الرجل ولا يميز بين العضويتين، ثم وحدة التنظيم: حيث لا يوجد تنظيم خاص منفصلا للنساء عن الرجال بل يشتركان في كل هيئات الحركة ( الجمع العام، مجلس الشورى، الهيئات المسيرة علي الصعيد الوطني والجهوي)، ثم العمل المشترك: حيث يعمل الأخوة والأخوات بطريقة تشاركية. كما قاد عبد الإله مبادرة دخول الحركة إلي العمل الحزبي فكان صاحب مبادرة تأسيس أول حزب للحركة؛ حزب "التجديد الوطني" الذي رفضت الدولة الترخيص له، ثم قاد المفاوضات مع عبد الكريم الخطيب ليقبل بدخول الحركة في حزبه "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" الذي تحول فيما بعد إلي حزب " العدالة والتنمية "، وقد ظل مسئولا عن إدارة ملف الحزب طوال رئاسته للحركة واستمر مسئولا عنه إلي ما بعد عقد أول مؤتمر عام للحزب ولم يترك المسئولية إلا بعد انتخاب سعد الدين العثماني أمينا عاما للحزب. بصمات تاريخية على الحركة لقد قاد عبد الإله بن كيران حركته: التجديد والإصلاح مدة فترتين رئاسيتين متواصلتين ( 1986- 1994) كانت الأكثر أهمية في تاريخها حيث سيكتمل تأسيس الحركة وبناء التنظيم بشكل هيكلي وإداري صارم ووضع اللوائح والقانون الداخلي وتأسيس مجلس الشورى. ستتضح ملامح الحركة تحت قيادة بن كيران وستتحول من تنظيم سري محدود الحركة والتأثير وقيد الملاحقة إلي حركة علنية معروفة لها مقراتها وصحفها وحزبها السياسي، وسينتظم في عضويتها نحو عشرة آلاف عضو يمثلون الكتلة الأكبر في بناء الحركة حتى يوم الناس هذا. أفكار من دون مفكر! عبد الإله بن كيران ليس مفكرا ولكن لديه القدرة علي إنتاج بعض الأفكار المهمة أو التقاطها وتوظيفها في العمل الحركي وإن لم يكن لديه من القدرات الفكرية ولا السعة ما يسمح له بالاشتغال علي تطوير هذه الأفكار. من الأفكار التي أطلقها بن كيران واستفادت منها الحركة فكرة أن مهمة الحركة الإسلامية ليست الوصول إلي السلطة حتى ولو كان الهدف إقامة الدين، بل إن مهمتها هي المشاركة في إقامة الدين من دون أن يتوقف ذلك علي الوصول إلي السلطة، وهو يري أن الحركة الإسلامية إذا صارت سياسية وطلبت الحكم – ولو لإقامة الدين – فهي سيجري عليها ما يجري علي الساسة وطلاب الحكم. ويلح دائما علي أن فعل الحركة يجب أن يكون تغيير ما بالنفس والمجتمع وليس الوصول إلي السلطة التي ستأتي تتويجا لهذا التغيير وليس مقدمة إليه. كما كان صاحب فكرة أن الأمة مازالت تعيش عقدة النبوة والحاجة لزعامة تقودها تحل بديلا عن النبي صلي الله عليه وسلم، وقف بن كيران ضد هذه العقدة والداعين للقيادة المؤسسية البريئة من هذه العقدة؛ فكان أكثر من تصدوا لنمط القيادة الصوفية الأبوية الذي دعا إليه وطبقه الأستاذ عبد السلام ياسين مؤسس ومرشد جماعة العدل والإحسان والذي يقوم علي فكرة أنه لا يمكن للإنسان السير إلي الله إلا بشيخ أو مرشد. علاقة مختلفة بين القيادة والقواعد لقد جرّت أفكار عبد الإله عليه العنت والنقد سواء من إخوانه في الحركة أو من بقية الحركات الإسلامية الأخرى؛ وتسببت له طريقته في القيادة في سلسلة من الصدامات التي لا تنتهي مع أجيال الحركة فقد كانت تخلو من فكرة صناعة صورة القائد المبجل المهاب، كما لم تكن تخلو من رعونة دائما ما أدخلته في صراعات بل وعداوات كان يمكن تجنبها بقليل من الكياسة واللباقة. لقد دفع عبد الإله ثمن نزع الفتيل بين الحركة الإسلامية والدولة، فاتهم باللين والضعف والتساهل مع الدولة، بل واتهم في بعض الأحيان بالعمالة للنظام، و"بيع" الدعوة. كما دفع ثمن الإصرار علي هذا النمط من القيادة المؤسسية غير الكارزمية سيلا هائلا من النقد بل والتجريح والإساءة حتى من بعض أبناء حركته فضلا عن الحركات الإسلامية، حتى أن قيادة الحركة حاكمته في إحدى المرات مدة 11 ساعة كاملة بسبب كلمة ارتجلها في ندوة جامعة الصحوة الإسلامية غير الكلمة التي كانت مقررة له!. ودفع أيضا فاتورة أنه أسرع بالحركة بأكثر من طاقتها علي السير أحيانا، فحملها علي مجموعة من الأفكار والمبادرات المتقدمة والصعبة التي أنهكتها وأتعبتها وراء سيره السريع والمتلاحق فكان أن فضلت القواعد أن ترتاح قليلا مما فعله عبد الإله بن كيران. صوتت القواعد ضد بن كيران في انتخابات الحركة عام 1994 فأبعدته عن رئاستها واختارت بدلا منه محمد يتيم رئيسا لها ليكمل بها مسيرة الوحدة عام 1996، كما استكمل بن كيران دفع الفاتورة بإبعاده عن الإشراف علي ملف الحزب وانتخاب سعد الدين العثماني أمينا عاما له. ثم دفع الفاتورة ومازال بما يبدو من تجاهل بل ونكران كثير من أبناء الأجيال الشابة للرجل وعدم تقديرها أو حتى وعيها بما أدّاه تاريخيا للحركة لدرجة أن ترشيحه للبرلمان في الدائرة التي كان نائبها تقليديا صار محل جدل واختلاف بين قواعد الحركة ! لقد عرفت الحركات الإسلامية نوعا من القيادات علي استعداد أن تناطح أعتى نظام وتتحدي أقوي سلطة لكنها لا تمتلك الجرأة أمام جماهيرها فتضعف تجاهها وتخشاها بأكثر مما تخشي السلطة بل وتتردد في مواجهتها فيما تستخف بالسلطة وبما يمكن أن تلاقيه منها من تضييق واعتقال وسجن، فيما ندر فيها القيادات من أمثال عبد الإله بن كيران الذي يغامر بمواجهة الجماهير ويقبل أن يتصدق بعرضه في هذه المواجهة من أجل تحرير حركته من المعارك الوهمية أو الخروج بها من الأنفاق التي تؤدي بها خارج التاريخ.