لست فقيها ولا داعية إسلاميا لأخوض موضوعا شائكا جدا ينبغي لمن يلج دهاليزه أن يلم بكل دقائق وتفاصيل أسسه التي ينبني عليه هذا الدين العظيم . لكن لدي وجهة نظر معينة لا تقترب ولا تبتعد عن التفسيرات والتأويلات المتداولة المعروفة حول رسالة الدين الإسلامي الحنيف ينبغي أن أدلي بها هنا بكل تواضع . محاولتي تتجلى أساسا في فهم تلك العلاقة أو الرابطة المحكمة التي تجمع الخالق بعبده الإنسان . إنها رابطة غير مرئية نحاول دائما أن نفهمها ، قد نفهم بعض خطوطها العريضة ، لكننا نعجز عن فهم رمزيتها التي هي واقع متجسد تحكمه طقوس العبادة المختلفة وسلوكيات الفرد المسلم . الكثير منا هنا لا يعجبه استحضار مصطلح الفلسفة في ميدان يتعلق بالدين الإسلامي ، لكنني مع ذلك سأفعل بمقاربة سطحية لا علاقة لها بإسقاط الفلسفة كعلم يبحث في الوجود وتفكيك بنيات المجتمعات ونفسيتها واعادة بنائها من جديد . لن أسقط هذا المفهوم الفلسفي بشكله التقليدي على الدين الإسلامي لاعتبارات متعددة تتعلق أولا بقناعاتي الشخصية ، وثانيا لأن هذا النوع من الإسقاط غالبا ما يسقطنا في مغالطات عديدة متناقضة مع بنية الدين المبني أساسا على اقتناع تام وإيمان عميق بالرسالة التي يحملها الدين الإسلامي . لكنني في المقابل سأحاول فلسفة أبعاد بعض العبادات التي تبدو من شدة تكرارنا لها مجرد آلية عفوية تفتقد لبعدها ومفهومها العميق الذي من أجله وجدت هذه العبادات . الصلاة ليست مجرد ركوع وسجود لله خمس مرات في اليوم ، إنها لقاء يومي فعلي مع الخالق وجرد حساب دقيق من العابد لمعبوده بين كل وقت صلاة وآخر . يقف العبد بين يدي الله جل جلاله ليجدد التزامه بالعهد الذي قطعه مع نفسه لله سبحانه وتعالى ، وليؤكد له أنه مستمر في الالتزام بكل قواعد الإسلام وسلوكياته والمعاصي التي نهانا الله عليها . إن لم يفعل العبد ذلك ، وان لم يشعر بأنه يقف وقوفا فعليا بين يدي الله فانه سيكون قد فقد الكثير من الفهم الصحيح لتعاليم الدين الإسلامي السمح . يجب ترسيخ هذا المفهوم حتى لا تصبح الصلاة مجرد حركات نؤديها مسرعين متسرعين حتى نتخلص من عبئ يبدو للبعض ثقيلا وغير متحمل . بينما في حياتنا اليومية نمارس سلوكيات والتزامات تفوق بكثير في قوة وطأتها على أعصابنا ضغطا رهيبا لا يمكن مقارنته بما نؤديه من واجبات دينية تنقي أرواحنا من أدرانها ومن ترسبات الاحتكاكات بين الناس التي تؤدي في الكثير من الحالات لخلق بذور شر يعبث بأهواء بني الإنسان ويرمي به في مستنقعات يكون الشيطان بطلها الوحيد والأوحد ومجاله الذي يدخل من خلاله لقلب الفرد المسلم . موسم الحج ، تلك الشعيرة المذهلة في دلالاتها والخلفيات العميقة في رسائل لا تنتهي تحملها بروحانية عظيمة في طياتها ، الحج الذي يجمع أقواما من كل لون وشكل ، ومن مختلف الاثنيات التي لا يجمعها الا دين واحد اسمه الإسلام الذي هو الهوية المشتركة لأكثر من مليار مسلم في العالم كله . كم هو جميل أن تجد أشخاصا مؤمنين يجتمعون كل سنة في مكان واحد يفدون من كل فج عميق ، ترى أشقر الشعر الى جانب أسمر البشرة ، و الهندي الى جانب الأسيوي ، والعربي الى جانب الفارسي ، والكثير الكثير من أطياف المسلمين الذين تجمعهم كلمة واحدة هي لا اله الا الله محمد رسول الله . إنها شعيرة مثيرة للإعجاب والإعجاز في رمزيتها التي تتعدى مجرد التقاء أشخاص مؤمنين من كل دول العالم التي تنتمي الى القارات الخمس ، لتتجلى في كون أن هذا الدين قادر على استيعاب كل الثقافات واللغات والأعراق ، ليجمع الكل حول طقوس عبادة تشبه الدستور الذي ينظم علاقة العبد بالعبد والفرد بالفرد في أي بيئة وفي أي محيط تواجدت به هذه الأفراد . الخالق ليس في حاجة ليعبده البشر ، ولكننا كبشر محتاجين لعبادة الله لعدة اعتبارات بسيطة لعل أهمها أن كل القوانين البشرية الوضعية لم تستطع أبدا حماية الإنسان من ذاته ، دائما ما تحمل هذه القوانين الوضعية مفاهيم تخضع لفئة صغيرة مسيطرة على المجتمعات الإنسانية الأخرى لتفرض عليها رؤاها وهيمنتها التي لا تنسجم الا مع قناعاتها ومصالحها هي بالأساس . تدخل الخالق لينظم العلاقة بين البشر فيما بينهم ضرورة ملحة حتى لا يسقط المجتمع الإنساني في التسيب الذي نلاحظه في بعض المجتمعات المعصرنة بين قوسين التي تزيغ بشكل أو آخر عن الطريق القويم الذي لا يخدم الإنسانية قاطبة في شيء ، بل تتسبب تلك التجارب في مآس تقود مصير ملايين من بني البشر الى الهلاك والى نهايات جد مأساوية كالجوع الذي يضرب أغلب دول العالم الثالث الفقير . علينا أن نعتبر وجود الإنسان في هذه الدنيا مجرد لحظة قصيرة جدا لا تقارن بالعالم الموسوم بالخلود الأبدي عند الله ، إن الفرد في هذا العالم مهما عاش من سنوات يجد نفسه في الأخير وكأنه لم يعش من عمره كله الا أعماله التي إما تنحاز الى جانب الخير أو الى جانب الشر . لذلك ينبغي اعتبار هذه الدنيا مجرد جسر صغير نعبر من خلاله نحو عالم غير منته سرمدي لا يفنى فيه أي شيء ، مجرد أن نقف على هذه الحقيقة يجبرنا الأمر على إدراك مدى عبثية وجودنا في الحياة وتلهفنا على اكتساب الأموال والتشبع بأكبر كمية من الملذات الزائلة التي لا تساوي أي شيء في مقابل عالم الآخرة الأبدي الذي لا شيء فيه ينتهي . ينبغي اعتبار وجودنا في هذه الحياة مجرد تواجد في حجرة امتحان لحصة قصيرة تحدد من منا يستحق أن يعيش ملكوت جنان الله الخالدة ، أو جهنمه التي نرجو من ربنا أن يقينا وإياكم سعيرها . إننا أمام امتحان إذن ، امتحان بسيط في المقررات التي ينبغي مراجعتها ، والسلوكيات التي يجب أن تسبغ تعاملنا مع أبناء الإنسانية قاطبة . يجب أن تملأ المحبة والأخوة وروح السلام قلوبنا . كلما ابتعدنا عن ماديات الحياة كلما أصبحنا مجردين من شرورها و الاغرءات التي تتيحها لنا بسخاء شيطاني يختفي وراء كل فعل أو شكل أو صورة نصطدم بها في أنشطتنا اليومية ، التحدي الحقيقي هو أن ننجح في مواجهة هذه الاكراهات التي تبدو عسيرة ، لكنها سهلة وبسيطة لمن يمتلك إيمانا حقيقيا وفهما واضحا لرسالة دين الإسلام وأهدافه التي تسعى للرقي بسلوكيات الإنسان وبالتالي خلق مجتمع عادل تنتفي فيه مظاهر الظلم واللامساواة . المساواة التي يضمنها الإسلام للجميع في إطار تكافل اجتماعي جميل ورائع يتجلى بزكاة الفطر القليلة الشأن في قيمتها ، العميقة البعد الإنساني الذي يتجلى في الترابط بين جميع مكونات المجتمع المسلم الذي يهدف في يوم العيد الى ردم الهوة بين الغني والفقير من خلال توفير الفرصة للجميع بالاحتفال في جو ديني مفعم بروح التكافل والتعاضد ، وهو ما يبرز أكثر ويتقوى في فريضة الزكاة التي تحتم على الغني أداء نصيب من ماله لل! محتاجين والفقراء ، لأن الله يعتبر أن الغني لم ينتج هذه الثروة لوحده ، بل هي حصيلة تكاثف بيئة وفرت له هذا الغنى أو صدف معينة أو اجتهاد شخصي تضافرت فيه ملابسات لا أحد يدريها الا الله سبحانه لتجعل من ذلك الشخص غنيا جدا ، والعكس صحيح أيضا . إنها معادلة واضحة وبسيطة ، الغني سيقف يوما ما بين يدي الله ليتعرض لمساءلة عادلة حول الغنى الذي حباه الله به ، والطرق التي أنفقها فيها ، بينما سيسائل الفقير عن الفقر الذي سلطه عليه ومدى تقبله له وشكره وحمده لله على هذا الفقر الذي رغم كده واجتهاده يجد نفسه غارقا في مستنقعه . نفس المساءلة سيتعرض لها الإنسان الذي أنعم الله عليه بالصحة والعافية ، والعكس صحيح أيضا . هذه هي فلسفة الإسلام التي تتجاوز العبادات الشكلية ، لتتعمق في طبيعة هذه العبادات وتأثيراتها على علاقات الأفراد فيما بينهم وتنظيمها وفق رؤية إسلامية متنورة ومتحررة من كل أشكال المغالطات والفهم الخاطئ . الإسلام رسالة عظيمة في محتواها ، انه دين يوحد كل جنسيات واثنيات العالم . لا يعترف بلغة ولا عرق ولا أي شيء آخر ، الإسلام محبة وخير ومنحة إلهية للبشر للسير على هدى الطريق المستقيم الذي يجنب البشرية عواقب الانفلات الأخلاقي والتعصب الأعمى لعنصر معين على حساب عنصر آخر . الإسلام هو الدين الوحيد الذي يغيب كل مظاهر التفرقة بين البشر بحيث يعتبر أن لا فرق بين عربي وعجمي الا بالتقوى . كن تقيا ورعا وصافي السريرة ، حينذاك ستنال رضى الله جل جلاله ، وتكون من أحسن البشر . [email protected]