الهذيان العصابي لتبون وعقدة الملكية والمغرب لدى حاكم الجزائر    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب        جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    «كوب-29».. الموافقة على «ما لا يقل» عن 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    الدرهم "شبه مستقر" مقابل الأورو    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلامة المختار السوسي مؤلفا
نشر في التجديد يوم 27 - 05 - 2005

في أصول الفقه وداعية إلى الله-مخطوط غير معروف للعلامة المختار السوسي-
في إطار نشرنا للوثائق الخاصة بوالدنا رحمه الله ارتأينا هذه المرة أن ننفض الغبار عن مؤلف نفيس لم يكن يعرف من قبل، ولا ذكره في ثنايا كتبه، ألفه بمنفاه بإلغ في الثلاثينيات من القرن الماضي، ونعيد هنا ما كنا كتبناه عنه في الطبعة الثانية من كتيب صغير ألا وهو: دليل مؤلفات ومخطوطات العلامة رضى الله محمد المختار السوسي ، نشرناه في بحر هذا الأسبوع، ومما جاء فيه:
تحفة القاضي في بدايات علم الأصول (مخطوط):
سبب تأليفه لهذا الكتاب هو المذاكرة التي جرت بينه وبين قاضي إلغ، ابن عمه العلامة سيدي الطاهر بن علي بن عبد الله الإلغي، ونقرأ في صفحته الأولى بتصرف :
...فقد نفعني الله بالمذاكرة مع قاضي إلغ في هذا الشهر المبارك رمضان ... فردد أمورا أنه يود لو مررنا معا على ورقات إمام الحرمين... ولم توجد من كتب إلى أن وقع على نظمها وشرحه للشيخ ماء العينين، فأتاني به، فرأيته غير سلس النظم، ولا مستوفي الشرح، فحاولت أن أحادي النظم والشرح، وأزيد كثيرا في البيان، مستمدا ما أستحضره...
ثم أتى بالمقدمة معرفا بالمؤلف عبد الملك الجويني، ومعرفا بأصول الفقه، وما معنى الفقه، وما معنى الأصل، ثم أتى بفهرس الأبواب المذكورة في هذا المؤلف وهي ستة عشر بابا وهي:
1 أقسام الكلام 2 الأمر 3 النهي 4 الخاص والعام 5 المطلق والمقيد 6 المجمل والمبين 7 الظاهر والمأول 8 أفعال النبي صلى الله عليه وسلم 9 الناسخ والمنسوخ 10 الإجماع 11 الإخبار 12 القياس 13 الحظر والإباحة 14 الأدلة 15 صفات المفتي والمستفتي 16 أحكام المجتهدين.
هكذا عرفنا عن برنامج الكتاب في ذلك الدليل، وندرج هنا ما جاء في أولياته شاكرين بذلك هذه الجريدة التي فتحت ذراعها لنشر تحف والدنا.
ونبين في ختام هذا التقديم الموجز أن ورقات إمام الحرمين في أصول الفقه هي من بين مؤلفاته العديدة ونورد له ترجمة مختصرة:
فهو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، المتوفى 478 ه 1085 م، نشأ في نيسابور ورحل إلى بغداد وجاور في مكة والمدينة ولقب بها بإمام الحرمين، وهو أشعري المذهب، وعند عودته إلى بلده أسس المدرسة النظامية.
أما الشيخ ماء العينين، فهو غني عن التعريف، والمنظومة التي وضعها على ورقات إمام الحرمين تسمى الأنفس في الأنظام لورقات علم الأعلام، في 62 بيتا مطبوعة طبعة حجرية، وشرحها سمي الأقدى على الأنفس.
نرجو أن نكون بنشرنا لمقتطف هذا المؤلف النفيس، الذي لم يكن يعلم من قبل قد بينا جانبا آخر من جوانب والدنا العديدة، وكيف هي كتابته في هذا الفن الجليل، وعسى بهذا كله أن نكون قد وفينا بالعهد الذي قطعناه على أنفسنا من نشر آثار والدنا.
وقد عززنا هذا المخطوط بصنف آخر من أعمال العلامة تبرز عمله في الدعوة، الأولى خطبة غير منشورة عن يسر الإسلام والثانية مقالة مقالة للعلامة محمد المختار السوسي نشرها بصفته وزيرا للتاج في العدد الثاني من مجلة دعوة الحق الصادر في غشت 1957 عن وزارة عموم الأوقاف.
رضى الله عبد الوافي المختار السوسي
المكلف بنشر تراث والده
...ثم أشرع في المقصود فأقول:
أصول الفقه، ما هو معنى الفقه؟ وما هو معنى الأصل؟
فالأصل ما يبنى عليه غيره، على عكس الفرع، الذي هو ما يبنى على غيره، وهذا معنى الكلمة قبل الإضافة، وأما الفقه لغة فهو الفهم، فقهت الشيء إذا فهمته، فيكون الفقه والعلم في اللغة متساويين، وأما في اصطلاح الأصوليين فهو فهم خاص كما يترى.
وأما معنى أصول الفقه بعد الإضافة فالمقصود بالفقه عندهم فقه المسائل الجزئية التي يفهمها الفقيه المجتهد بالأدلة النظرية، والمسائل الجزئية، ففقه الضروري من مسائل الشرع كوجوب الصلوات الخمس، وصيام رمضان، ليس فقها في اصطلاحهم، ولذلك يعنون بالأصول، هذا ما يسلكه المجتهد من الأدلة الإجمالية، كمطلق الأمر للوجوب، حتى يفهم المسائل التي هي مجالات أنظار المجتهدين، فلا يفقه واحد منهم حكم مسألة من مسائلها، حتى يمعن النظر، وهذه المسائل النظرية هل يجب تبييت النية في الصوم، وهل يجب على من أفطر عمدا قضاء ذلك النهار، وكذلك من أفطر نسيانا، وهل يكون القصاص في القتل بالمتقل كما يكون في القتل بالمحدد، وهل تصح صلاة من خرج من الصلاة بغير سلام وبعد تشهد، إلى مثل هذه المسائل المختلف فيها، الكثيرة التي تتموج بها كتب أحاديث الأحكام وآيات القرآن.
وأما القواعد التي يسلكها الفقيه المجتهد في إدراك حكم هذه المسائل، وذلك ما يسمى أصول الفقه، فهي مثل أن مطلق الأمر يكون للوجوب وأن مطلق النهي يكون للحظر والحرمة، وأن الإجماع حجة ومقدم على القياس، وأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره على شيء حجة، وأن القياس والاستصحاب والعام والخاص والمبين والمجمل والظاهر والمأول كلها حجج، وكذلك معرفة ما يقدم منها على غيره عند التعارض.
فمعرفة هذه الأمور التي بها يتوصل المجتهد إلى معرفة الأحكام التي يختلف فيها هي التي تسمى معرفة أصول الفقه، إن عرف الفقيه كيف يستدل بها ويتصرف فيها، فهي بنفسها أصول الفقه، وعارفها هو الأصولي اللبق، ويسمى في الاصطلاح المجتهد والفقيه لأن الفقيه هنا هو المجتهد، فلفظة الفقه هنا أخص من الفقه المعروف بين الفقهاء الفرعيين، كما كانت أيضا أخص من لفظة العلم، الذي هو إدراك كل معلوم على ما هو عليه، والفقه هنا إدراك معلوم وخاص.
مجد أصول الفقه: أدلة الفقه الإجمالية، أو معرفة الأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد، ومعرفة صفات المجتهد، وكيف يستدل بتلك الأدلة.
وأول من استنبط هذا العلم هو الإمام الشافعي، وله فيه رسالة، ثم إن هذا الفن لا يتعرض فيه إلا لتبيين تلك الأدلة الإجمالية، التي بها يدرك الحكم في مسائل الشرع، ولا يتعرض فيه لتلك المسائل بالتفصيل، ومتى ورد شيء من هذه المسائل على ألسنة الأصوليين، فإنما هي للتمثيل فقط، لأن تحرير أحكام المسائل عمل هو من وظيفة أهل هذا الفن.
ثم إن الأحكام إما أن تكون واجبة ومندوبة مستحبة، وإما أن تكون محرمة محظورة ومكروهة، فإذا لم تكن من ذلك فهي مباحة، فالواجب ما يترتب على فعله الثواب وعلى تركه العقاب، والمستحب ما يترتب على فعله الثواب ولا يترتب على تركه العقاب ولا الثواب، والمحرم والمحظور ما يترتب على فعله العقاب وعلى تركه الثواب، والمكروه ما يترتب على تركه الثواب ولا يترتب على فعله العقاب ولا الثواب، والمباح ما استوى طرفاه فلا عقاب ولا ثواب في فعله ولا في تركه، والصحيح ما يعتد به ويكون له النفوذ، والباطل ما لا يعتد به ولا يكون له نفوذ، فالصلاة المستلزمة لكل ما تتوقف عليه صحيحة، وكذلك العقود إن تمت شروطها صحيحة، فيعتد بها ويترتب على ذلك اعتبارها نافذة، وعكس ذلك هو الباطل، والراجح أن الصحة والبطلان ينطويان بين الأحكام الخمسة المتقدمة.
أولا ترى أن الواجب إذا تأدى كما يجب صحيح، وإلا فباطل، والصحة والبطلان يكونان حينئذ في العقود وفي العبادات، فمعنى ما يعتد به أن يكون، بحيث يعتبر شرعا باستجماعه كل ما أمر به فيه، وباجتناب كل ما نهي عنه فيه، ومعنى نفوذه بلوغه المقصود به، فعقد النكاح الصحيح يعتد به إذا اجتمع كل الشروط، وينفذ فيحل الاستمتاع بالمنكوحة، فافهم وقس، فالنفوذ من فعل المكلف، والاعتداد من فعل الشارع.
ثم إنه تقدم لنا أن أصول الفقه معرفة الأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد، فالمعرفة هي العلم هنا، كما أن العلم هنا المقصود به هو الظن، لأن كل ما يعلمه المجتهد من الأدلة بطريق الاجتهاد إنما هو ظن فقط، والظن في الفروع يكفي، والعلم من حيث هو علم ينقسم إلى ضروري وإلى نظري.
والنظري هو ما احتاج للتأمل، وعكسه هو الضروري الجلي، فما يدرك بالحواس الخمس، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، أو بتواتر عن قوم يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإنه ضروري، وما يدرك بالنظر والتأمل والاستدلال فهو نظري، فعرفنا أن العلم الذي يذكر في هذا الفن إنما هو نظري كله، لأنه لا يحصل إلا بالاستدلال بأدلة هذا الفن، ثم إن النظر من حيث هو النظر لغة: إما أن يؤدي إلى يقين أو ظن، وإما إلى شك أو وهم، واليقين ما أدى إليه النظر وحده بغير معاول ولا تردد ولا توهم غيره، والظن ما أدى إليه برجحان، وهناك في مقابله مرجوح، فالراجح هو المظنون والمرجوح هو الموهوم، وإذا تساوى الجانبان فذلك هو الشك.
ذكر هنا كل ما تقدم لا على أنه من أصول الفقه، ولكن ليكون مفتاحا لهذا الفن في ما يأتي، ولذلك يسمى بالمقدمة.
مقتطف من مخطوط
تحفة القاضي في بدايات علم الأصول
يحاضر في موضوع: يسر الإسلام وسهولته
إن الله تبارك وتعالى رحيم بعباده، سبقت رحمته غضبه، ونهجه الصراط المستقيم للناس على اليسر والسهولة، ولم يجعل لعباده من حرج في كل ما جبلهم الله عليه، أو كلفهم الله به، فلا حرج عليهم في كل ما يزاولونه في الميدان الحيوي ولا في ما كلفوا به من ربهم من شرائع الدين.
إن هذا الدين يسر، ولن يشاذ هذا الدين أحد إلا غلبه، وعليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، فإن المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، إن الله يعين على الرفق ما لا يعين على العنف، والطيبات كلها معروفة، فأحلت للناس أن يتناولوا منها باقتصاد، والخبائث كلها معروفة، فحرم عليهم أن يقربوها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة في مسألة تأبير النخل: أنتم أدرى بأمور دنياكم، واحتلم عمرو ابن العاص في سرية، فلم يتوضأ وصلى بالناس بالتيمم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إن الله تعالى يقول (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فخفت إن توضأت في البرد أن أهلك، فأقره الرسول عليه السلام على ذلك، ولم يكن عمرو عرف قبل أن ذلك هو المعين عليه. وكان الصحابة في سرية أخرى فجاعوا وكانوا كثيرين جوعا شديدا، فأصابوا حوت عنبر ألقاه البحر ميتا فلم يقدروا أن يأكلوا منه تحرجا، فقال أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاعوا في سبيل الله، ألا يحل لهم أن يسدوا جوعتهم بكل ما وجدوه، فتبعوه فأكلوا منه، فأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يكن القائل لذلك إذذاك يعرف أن البحر
حل ميتته.
ورسول الله ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وأحل الله للمسلمين نكاح نساء أهل الكتاب وأكل طعامهم. ولو حرم ذلك عليهم لكان في ذلك حرج، خصوصا في مثل هذا العصر الذي نحن فيه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالق جفاة العرب وطواغيت قريش ويتساهل معهم، وسامحهم يوم الفتح، فلم يزل بهم عطاء وملاينة حتى ذاقوا حلاوة الدين وسهولته، ثم استحالوا بعد ذلك أبطال القادسية واليرموك، والفاتحين للشرق والغرب. بل ما لنا نبعد كثيرا، فهذه الصلاة اليومية قد حقت كلها بيسر وسهولة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها فمن لم يقدر على الوضوء من هلاك أو زيادة مرض أو طروة تيمم. ومن لم يقدر أن يصلي قائما صلى جالسا، ومن لم يقدر على الجلوس صلى مضطجعا، ومن لم يقدر إلا على الإيماء كفاه الإيماء، ومن نام عن الصلاة أو سها عنها فوقتها إذا استيقظ أو تذكر، ومن سافر نقص عنه نصف صلاته.
وما قلناه في الصلاة يقال مثله في الصوم، فكون الإنسان يبقى بلا أكل وشرب بعد أن يتسحر إلى المغرب أمر عاد سهل، ولا يستعظمه إلا من لم يومن بالدين. وقد قال الله في آيات الصيام: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). فمن لا يقدر على الصيام أو تحصل له فيه مشقة فله أن يفطر ثم يقضي الأيام التي أفطرها. فالمريض والمسافر والمرأة الحامل والمرضع والشيخ الكبير، (ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر).
ومتى حدثت مشقة في أثناء اليوم ورأى الصائم نفسه في عنت يتضرر به فله أن يفطر في أثناء النهار، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر غزوة، فكان الناس معه بين مفطر وصائم، حتى إذا أراد أن يلاقي العدو أمر الجميع بالإفطار عزما ليتقووا على ملاقاة العدو، ولم يحمل النبي صلى الله عليه وسلم الناس على قدر قوته هو وأمثاله، بل راعى الضعفة فأمر الجميع بالإفطار.
هكذا جميع الأمور في الإسلام، فلا مشقة ولا حرج ولا إصر ولا أغلال لا في ميدان العبادات ولا في الميدان الحيوي، وملاك ذلك كله أن تخالط بشاشة الإيمان القلوب حتى يستحلي المؤمن كل ما يقربه إلى ربه، ويرفع شأن أمته، فاولئك الصحابة الذين تربوا بهذا الإيمان هم الذين رفعوا راية الإسلام ما بين البحر الأطلسي عندنا هنا وبين أندونيسية والفلبين شرقا وغربا، ومابين رأس الرجاء الصالح جنوبا وشمالا. وما فتحوا البلدان بل فتحوا القلوب، فكم قطر يرفرف فيه الآن علم إسلامي، فأندونيسية وجنوب إفريقية لم يمتشق فيها سيف ولا جال فيها جيش، بل فتحه التجار المسلمون بحسن المعاملات صرفا ووفاء وبنكران الذات ومكارم الأخلاق عليها.
وإيمان المسلم لا يظهر في مطلق صلاته وصيامه وحجه، بل في معاملاته، والصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ليست بصلاة، والصوم الذي لا ينكف صاحبه عن الكذب وقول الزور ولغو الحديث ليس بصوم، والحج الذي لم يتجرد فيه الحاج من الأخلاق المسفة كما تجرد من المخيط والمحيط ليس بحج. ولذلك كانت آية المؤمن تظهر في معاملاته، فالإسلام كان ثابتا قبل أن تفرض الصلاة والصوم والحج بسنين كثيرة. فلم تفرض هذه إلا ليتقوى بها روح الإسلام. فالتاجر الذي يصدق ويحافظ على الأمانة وهو سهل إذا اقتضى إلا تنفتح له القلوب.
فالإسلام ياعباد الله سهل يسر لمن عمرت عظمة الله قلبه، واستشعر بعبوديته له، وعرف أن هناك حياتا دائمة لا بد لكل واحد أن يسير إليها يوما ما راضيا أو رغم أنفه، إما فوق النعش وأهله يشيعونه إلى رمسه، وإما تحت زلزال كزلزال أكادير الذي يأتي بغتة فإذا به وحده تحت الأنقاض، حيث لا تنفعه لا مبادئ فولتير ولا إلحاد ماركس.
والسلام عليكم ورحمة الله.
ويكتب مؤكدا على: لنكن مسلمين أولا
إننا اليوم ننعم بهذا الاستقلال الذي هيأه الله لنا بفضله ، ثم بجهود الذين ضحوا بأنفسهم وبنفائسهم ، وجعلوا أمام أعينهم : إما الحياة الحرة التي ترفع صاحبها إلى الثريا ، وإما شهادة ترفع صاحبها إلى عليين ، في جنة عرضها السماوات والأرض .
حقا، ها نحن أولاء مستقلون، وها هي ذي حكومتنا الفتية تسير بالأمة سيرا طبيعيا إلى الأمام، وهاهو ذا الشعب على اختلاف مشاربه حولها ويرى فيها رمز الحياة والتقدم، ومشعل ارتكاز في المكان الذي يستحقه بين شعوب اليوم، شعب امتزجت الحرية والاستقلال بدماء شرايينه منذ اثني عشر قرنا.
لكن ، أيكفي أن نقول إننا مستقلون اليوم من غير أن نراجع قائمة مقوماتنا التي كنا بها أمة عظيمة امتدت أجنحتها حتى حلقت على إسبانيا المسلمة وعلى الجزائر وتونس وليبية ؟ فبأي شيء استطاع ابن تاشفين المرابطي وعبد المؤمن الموحدي أن يضما هذه الأطراف إلى مراكش ، وأن يمزجا بينها حتى صار الجميع قطرا واحدا، تتجاوب أرواح كل سكانه تجاوبا لا يزال دويه يطن في آذان التاريخ إلى الآن ، كلما ذكرت الزلاقة والأرك ، أو كلما قرئت أنباء تطهير تونس من أساطيل أهل صقلية ، ونظراءِ أهل صقلية ممن كادوا إذ ذاك يلتهمون شمال إفريقية ، كما الْتُهِمَتْ صقليةُ نفسها قبل ذلك التهاما ضاع به هناك الإسلام ؟
إن سكان شمال افريقية اليوم ونحن في أواخر القرن الرابع عشر لا يزالون مستعدين أتم الاستعداد لهذا التجاوب على لسان اللغة والدين والدم ، فهل نجد منا ما كان وجده ابن تاشفين وعبد المؤمن من فورة غيرة دينية ولغوية ودموية ، تتجاذب بها القلوب من كل شمال افريقية ، إذ بما كان أَمْسِ من تلك العظمة التي تجلت من المرابطين والموحدين تعود اليوم بأعلى وأجلى مما كانت عليه إذ ذاك ؟
ما من مغربي أو جزائري أو تونسي أو ليبي ، إلا ويحس الآن من أعماق قلبه أن مغناطيس هذا الانجذاب هو دين الإسلام الذي حاول الاستعمار منذ ألقى كلكله على آبائنا أن تَضْعُفَ من بيئتهم قوَّتُه وسطوتُه ، وأن تكسف تلك الروعة التي متى استولت على الأفئدة تصهرها، فإذا بها كتلة واحدة ذات إحساس واحد ، ومتجه واحد ، ومبدإ واحد ، وغاية واحدة ، استمدادا من دين له قبلة واحدة ورب واحد، ورسول زرع الوحدة بين كل من يحمل اسم الإنسانية .
فتح الاستعمار مغاليق شتى عن أصناف شتى من مكايده ، ثم حاول بكل ما يملكه من لباقة وخلابة وزخرفة وتمويه أن ينفث سمومه في الروح التي يرثها الابن المسلم عن آبائه، فما ترك من تعاليم الإلحاد ولا من التشكيك في مبادئ الإسلام ، ولا من مفسدات الأخلاق، إلا عرضها عرضا أمام النشء بكل مصابرة ومثابرة، فلم يترك لا مدرسة ولا مسرحا ولا زاوية من زوايا الحياة التي لابد أن يلم بها النشء إلا زرع فيها ما يمكن أن يجتث جذور تعاليم الإسلام السامية من العقول .
لكن هل نجح الاستعمار كل النجاح في محاولته هذه ؟ وهل استطاع أن يغطي تلك الشمس الوهاجة من عليائها عن أبصار كل من مروا بين مدارسه أو مسارحه؟
الحمد لله، فقد ملأ كل الصدور بهجة واغتباطا وحبورا ، أن شاهدنا هذه المحاولات قد خابت كلها خيبة صارت مثل القنبلة الهيدروجينية في قلوب الذين شاهدوا ولمسوا وعاينوا بأعين محملقة انتساف دسائسهم من غالب أولئك النشء الذين ربوهم ، حين كانوا هم الرافعين لراية الإسلام اليوم ، والمقدمة من طلائع المكافحين الآن عن العروبة ودين العروبة وأقطار العروبة .
وبعد، فإن الاستعمار أصناف ، فأدناها استعمار الأرض ، وأشدها استعمار العقول والأفكار ، فقد وفقنا إلى زحزحة استعمار الأرض السهل ، وبقي أن نزحزح استعمار العقول والأفكار عن ثلة قليلة من أبنائنا ، فيجب أن نعرض أمامهم ما جهلوه عن دين الإسلام وعن مبادئه السامية ، وعن مغازيه في الحياة ، فإن بعض من تأثروا بما دس إليهم نيتهم حسنة ، ويدركون بسرعة ، وأرى أن هذا من أوجب الواجبات على نخبة من شبابنا جمعوا بين الثقافتين ودرسوا الإسلام حق الدراسة ، فهم وحدهم الذين يمكن لهم أن يأخذوا بأيدي أولادنا هؤلاء بملاطفة ، حتى إذا أدركوا وفهموا سارت الأمة كلها في صف واحد في تفكيرها وفي مثلها العليا.
عندنا - ونحمد الله على ذلك- ملك يحبه الشعب لا لكونه ملكا فحسب، بل لكونه أيضا صالحا مؤمنا، عارفا ما يعرفه الطبيب النطاسي من مريضه، كما عندنا شعب متدين لا يريد بدينه ولا بمقوماته بديلا، وهو الذي شايع ملكه في التضحية وشاطره في المحنة، أفمن كان فيهم مثل هذا الملك الصالح وهذا الشعب الصالح، وتهيأ لهم الوقت الصالح للالتفاف حول مبدأ به سدنا أمس وبه التأم شملنا اليوم، فأنى لا يكونون كلهم صالحين، صالحين في كل ميدان، صالحين للنظام، صالحين لأسباب الرقي، صالحين لاقتباس ما لا نهوض إلا به، ومتى ساد الصلاح كل ناحية من نواحي أعمال الأمة فلابد أن تكون في مقدمة الأمم.
إن الذين ضحوا في وقت المحنة تلك التضحية الباهرة ، ما ضحوا إلا ليكون الشعب مسلما ، والإسلام عند عارفيه مثال الإنسانية الكاملة ، بعلمها ونظمها وحياتها الواقعية ، وقوانينها التي تستمد دائما من العدل ومن الحرية الشخصية ومن المصالح العامة ، فبذلك صار الإسلام صالحا لكل زمان ولكل مكان ، ولا تخفى هذه الحقائق إلا عن الذين جهلوا الإسلام ولم يدرسوه ، ولا كلفوا أنفسهم بالالتفات إليه ولو أدنى التفات .
يا قوم ، إننا سمعنا بمئات من الجمعيات من كل ناحية ، فهل سمعنا بجمعية تقويم الأخلاق ؟ وبجمعية دراسة مبادئ ديننا الحنيف ؟ ليستنير بمعرفتها من كان جاهلا بها .
أو ليس من مقدمات ما حاوله الاستعمار هو القضاء على مبادئ ديننا الحنيف ، وجعله دينا همجيا بدائيا؟، فإن شككنا في كل شيء ، فلا ينبغي أن نشك في نوايا الاستعمار لنخالفها اليوم في عهد الاستقلال ، أو ليس أن للمشعوذ والمومس أمس في عهد الاستعمار الحرية الكاملة في التنقلات؟ على حين أن المرشدين بآداب الدين مقيدون محرم عليهم أن يتنقلوا؟، حتى إذا تسرب أحدهم إلى ناحية فإنه يجد نطاقا من العيون حواليه، ثم يستدعى إلى إدارة المراقبة ، ثم يكون أهون ما يلاقيه الإبعاد في الحين ، أو ليس أن الواجب في عهدنا هذا عهد الاستقلال أن تنعكس القضية ، فنقيد من عسى أن يفسدوا أفكار الأمة بالإلحاد وسوء الأخلاق ، ونطلق المرشدين الذين يتلقاهم الشعب بكلتا اليدين ؟
إننا اليوم في فجر نهوضنا ، فيجب علينا أن نتنبه إلى مقوماتنا لنحافظ عليها ، ونسترجع ما كاد الاستعمار يأتي عليه بمحاولاته الشتى .
يا قوم ، لنكن مسلمين أولا ، في عقائدنا وفي أعمالنا ، وفي محاكمنا ، وفي نظمنا ، وفي كل شيء ، لتبقى لنا صبغتنا القومية من كل ناحية ، ولنحرص على أن لا نأخذ من الغرب إلا ما هو نافع ، ثم لنحرص على أن نصبغه بصبغتنا الخاصة ، فإننا إن لم نفعل ذلك ولم نتعرب ولم نتصف بالإسلام العملي ، فسنندم عن قريب ، ونحن متفائلون ما دمنا نقتدي بمحمد الخامس حفظه الله للإسلام والعروبة، وأقره بولي عهده الذي يربيه كما يحب أن يرى كل واحد من شعبه ولده.
دعوة الحق- العدد الثاني-
غشت 1957 / ص .146


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.