الكلام فيما تحته عمل: من مميزات المذهب المالكي في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي، أنه مذهب يهتم بالعمل أكثر من اهتمامه بالقضايا النظرية، والأبحاث التجريدية العقدية التي لا تفضي بالمكلف إلى عمل، فقد تأسس هذه المذهب السني الجماعي في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي على قاعدة كلامية، هي أن الإيمان بالاستواء واجب والسؤال عنه بدعة، وهذه القاعدة الكلامية ستصبح من القواعد الذهبية في المذهب، إذ يمكن إجراؤها على سائر الصفات السمعية. كان الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه يعيش في بيئة إسلامية خالصة، لا زالت تشع بالأنوار المحمدية، ولا زلات تربتها الطيبة تنبت الإيمان الفطري، الذي غرسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنى ثماره صحابته الكرام، ومن جاء بعدهم من التابعين وأتباعهم، باتباع سنته وهديه، ولذلك لما رأى الإمام مالك بعض الأجسام الغريب تتسرب إلى المسلمين وتحاول إفساد تلك الفطرة السليمة التي نشأت على عقيدة صحيحة، في فترة هي من خير القرون، لم يقو على تقبلها ولم يقبل بتلويث تلك التربة الطيبة التي لا مكان فيها سوى للوحي المنزل المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة التي آلت إلى أهل المدينة. لقد رفض الإمام مالك رضي الله عنه الكلام جملة وتفصيلا، لأن من أصول مذهبه الأخذَ بعمل أهل المدينة، لأنه أقوى في الاستدلال وأقوم، إذ هو بمنزلة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إلى الحديث المتواتر أقرب، خصوصا إذا كان هذا الأمر مجمعا عليه لا يخالفهم فيه غيرُهم، ولما كانت مسائل الكلام من الأمور المحدثة في الدين ولم يخض فيها علماء المدينة كبر على الإمام مالك الخوض فيها أيضا. فقد روي عن مالك رضي الله عنه أنه قال: الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، ولا أحب الكلام إلا فيما كان تحته عمل. (1) كما رفض الإمام مالك رواية أحاديث الصفات التي يروج لها المبتدعة والمجسمة لكونها من الأسباب التي أسهمت في تعميق الخلاف بين الفرق الإسلامية، وجعلت كثيرا منها - في هذا الموضع الشائك - تبتعد عن جوهر التوحيد الإسلامي، القائم على الإثبات مع التفويض، كما هو مذهب السلف الصالح. (2) لقد رفض الإمام مالك رحمه الله علم الكلام في بداية الأمر، لكون بناته الأوائل تكلموا حيث سكت السلف الصالح، وخاضوا في أمور ليس لهم فيها سلف. بل عمد بعضهم فيما بعد إلى الخلط بين مباحث هذا العلم ومناهج الفلسفة اليونانية، فانتهوا إلى إقرار مقالات عقدية شنيعة مبنية على أسلوب السلب لينتهي بهم الأمر إلى العدم، كما هو الشأن بالنسبة للتيار الاعتزالي. (3) وقد بلغ الأمر بالإمام مالك رحمه الله أن حذر من مجالسة القدرية وهم من جملة المبتدعة، أو أخذ الحديث عنهم، غير أنه لم يكفرهم بمآل قولهم الذي يعتقدونه ويدينون بل هم قوم سوء. (4) لقد أصبح التحذير من المراء والجدال في الدين باعتباره مدخلا لعلم الكلام البدعي من أساسيات عقائد أهل السنة والجماعة الذين يرون مجانبة أهل البدع والأهواء. يقول ابن أبي زيد القيرواني:" ... وترك المراء والجدال في الدين" قال القاضي عبد الوهاب في شرح هذا المبدأ السني الهام: اعلم أن مراده في هذا الفصل كراهة مناظرة أهل الأهواء ومجادلتهم، والندب إلى ترك ذلك، وذلك مكروه لما فيه من مخالطتهم والاعتداد بهم، وتأنيسهم إلى إظهار بدعتهم والإعلان بضلالهم، وهي غايتهم، بخلاف ما يجب من منابذتهم وتجاهلهم ومعاقبتهم على ذلك بترك السلام عليكم ومواصلتهم، ومنها أنهم يدأبون على مقابلتنا والقدح في السلف من حيث لا نملك منعهم مما يوردون من شبه وطعون، لأن المناظرة تقتضي السماح للخصم في ذكر حجته وما يدعو إليه من ترويج بدعته، ومنها أنه يخاف على الولدان ومن يضعف قلبه، ويقصر فهمه أن يعلَق به شيء مما يسمعه منهم فربما صار أن يعتقد بدعهم وينشأ على ذلك فيُعوز تلافيه ويعجز، وقد ينتقل من اعتقاد صحيح إلى شبهة يسمعها، ولذلك يقال: لا تمكن زائغ القلب من أذنيك حراسة للقلب أن يطرقه من ذلك ما يخاف أن يعلق به. (5) لقد انبثق من رفض الإمام مالك لعلم الكلام الذي كان يحيل في زمانه على آراء المبتدعة ومقالاتهم الشنيعة التي خالفوا فيها طريقة السلف الصالح، مذهب كلامي سني يجعل من بين مقاصده العظيمة الدفاع عن العقائد الإيمانية والرد على المبتدعة بمنهج كلامي سني يجمع بين النقل والعقل. وتشير كتب التراجم إلى أن الإمام مالكا رحمه الله ألف كتابا هو عبارة عن رسالة إلى ابن وهب في القدر، يرد فيه على القدرية، وهذه الرسالة كما يقول عنها القاضي عياض من خيار الكتب في هذا الباب، الدال على سعة علم الإمام مالك بهذا الشأن. (6) ولعل الإمام أبا عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي المصري(ت 157 ه) ضمن جزءا يسيرا من رسالة الإمام مالك في كتابه: القدر وما ورد في ذلك من الآثار. (7) لقد ظهرت في زمان الإمام مالك بعضُ البدع العقدية التي خالف فيها أصحابها الأمة بأسرها، مثل الموقف من مرتكب الكبائر من أمة الإسلام، هل هو مؤمن أو كافر؟ فقد ذهب علماء التابعين إلى أنه مؤمن لما معه من معرفة بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى، ولمعرفته أن كل ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام، (9) مخالفين بذلك مذهب الخوارج الذين حكموا بتكفير مرتكب الكبيرة مطلقا، والمعتزلة الذين اعتبروه في منزلة بين المنزلين، أو الحكم بين الحكمين، أي لا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث ... فإن صاحب الكبيرة كما يقول القاضي عبد الجبار:" له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن بل منزلة بينهما. (10) وقد وقف الإمام الأشعري في هذا الموضع يقرر أن مذهب المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين خلاف الإجماع، وذلك أنه قبل حدوث واصل بن عطاء كانوا على مقالتين في مرتكب الكبيرة من أهل القبلة، فمن قائل يقول: إنه كافر، ومن قائل يقول: إنه مؤمن فاسق، ولم يبق أحد لا كافر ولا مؤمن، فخرق واصل بن عطاء إجماع الأمة، وقال: إن مرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن. (11)