ميناء طنجة المتوسط يكسر حاجز 10 ملايين حاوية في سنة واحدة    عامل إقليم الجديدة يستقبل رئيس وأعضاء المجلس الإقليمي للسياحة    ورزازات.. توقيف شخصين متهمين بالنصب والاحتيال على الراغبين في الهجرة    ريال مدريد يُسطر انتصارا كاسحا بخماسية في شباك سالزبورج    شباب الريف الحسيمي يتعاقد رسميا مع المدرب محمد لشهابي    حموشي يؤشر على تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    في الحاجة إلى ثورة ثقافية تقوم على حب الوطن وخدمته    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    رفض تأجيل مناقشة "قانون الإضراب"    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    جهود استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد بإقليم العرائش    "جبهة" تنقل شكر المقاومة الفلسطينية للمغاربة وتدعو لمواصلة الإسناد ومناهضة التطبيع    وزارة الداخلية تكشف عن إحباط أزيد من 78 ألف محاولة للهجرة غير السرية خلال سنة 2024    نحن وترامب: (2) تبادل التاريخ ووثائق اعتماد …المستقبل    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    رغم محاولات الإنقاذ المستمرة.. مصير 3 بحّارة مفقودين قرب الداخلة يظل مجهولًا    رسميا.. مسرح محمد الخامس يحتضن قرعة الكان 2025    توقيع اتفاقية مغربية-يابانية لتطوير قرية الصيادين بالصويرية القديمة    دولة بنما تقدم شكوى للأمم المتحدة بشأن تهديدات ترامب لها    القضاء يبرء طلبة كلية الطب من التهم المنسوبة اليهم    منتخب "U17" يواجه غينيا بيساو وديا    القضاء الفرنسي يصدر مذكرة توقيف بحق بشار الأسد    هلال يدين تواطؤ الانفصال والإرهاب    الشيخات داخل قبة البرلمان    غموض يكتنف عيد الأضحى وسط تحركات لاستيراد المواشي    اعتقال المؤثرين .. الأزمة بين فرنسا والجزائر تتأجج من جديد    المحكمة الدستورية تجرد بودريقة من مقعده البرلماني    بنعلي: المغرب يرفع نسبة الطاقات المتجددة إلى 45.3% من إجمالي إنتاج الكهرباء    طلبة المعهد الوطني للإحصاء يفضحون ضعف إجراءات السلامة بالإقامة الداخلية    الغموض يلف العثور على جثة رضيعة بتاهلة    وهبي يعرض مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء في مهرجان الطفل    120 وفاة و25 ألف إصابة.. مسؤول: الحصبة في المغرب أصبحت وباء    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    سناء عكرود تشوّق جمهورها بطرح فيديو ترويجي لفيلمها السينمائي الجديد "الوَصايا"    حضور جماهيري مميز وتكريم عدد من الرياضيين ببطولة الناظور للملاكمة    محكمة الحسيمة تدين متهماً بالتشهير بالسجن والغرامة    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    عادل هالا    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقاصد العقدية عند علماء المالكية بالأندلس
نشر في تازا سيتي يوم 10 - 01 - 2011

[COLOR=darkblue]المقاصد العقدية عند علماء المالكية بالأندلس
إعداد : عبد الكريم بناني ، خريج دار الحديث الحسنية ، باحث في الفكر الإسلامي
مشارك في عدد من الدوريات والمجلات : دعوة الحق، الإحياء، التذكرة ، العرائض، الفقه والقانون [/COLOR]
انبرى كثير من الباحثين قديما وحديثا للحديث عن النظر المقاصدي للأحكام العملية وهذا راجع لحاجتهم الملحة إلى ذلك ، حيث إن النوازل الفقهية لا تتناهى وهي في ظهور مستمر مما أوجب على العلماء اللجوء للقياس والمصالح وغيرهما من الأصول التي تعتمد على المقاصد بشكل كبير، أما الأحكام العلمية فلم تحظ بالاهتمام نفسه لأن المستجدات فيها ليست بالقوة التي في أختها( أي الأحكام العملية )، لهذا السبب سأحاول أن أسهم في الحديث عن النظر المقاصدي للمباحث العقدية عند علماء الأندلس المشاركين في التأسيس لهذا المنهج ، ببيان ما تحققه من مصالح وما تدرؤه من مفاسد وبالإشارة إلى ما ينتج عن سوء فهمها مفاسد لايقاس ضررها بما يتنج عن سوء فهم الأحكام الفقهية ، وذلك في عنصرين يتناول الأول التصور الأندلسي لمنهج مالك واعتمادهم عليه في بناء العقيدة وفهمها وفق مقاصدها التي جاءت من أجلها، فيما يستقري الثاني بعض الأمثلة التنزيلية لهذا الفكر.
[COLOR=darkblue]العنصر الأول :
اعتماد علماء الأندلس منهج مالك العقدي في إيقاف الشذوذ في التصور:
مذهب مالك حلقة من حلقات أهل المدينة:[/COLOR]
إن مذهب الإمام مالك مذهب سني موروث يضرب بجذوره إلى أقضية الصحابة وفتاويهم واجتهاداتهم التي نشأت على أساس النظر السليم في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فهو مذهب تأسس مع كبار الصحابة الذين أثروا بأقضيتهم وفتاويهم ثم انتقل إلى التابعين ومنهم إلى أتباع التايعين إلى أن جاء الإمام مالك رضي الله عنه وهو من أتباع التابعين، فورث عن أهل المدينة هذا المذهب وآل إليه أصولا وفروعا وتطبيقا، فالإمام مالك وارث لهذا المذهب عن أهل المدينة الذين توارثوه خلفا عن سلف.
إلا أنه من الأخطاء العلمية التي يقع فيها كثير من دارسي المذهب المالكي تشطيرهم له وحصرهم إياه في المباحث الشرعية العملية التي تنتظم العبادات والمعاملات والأقضية والجنايات، وهي المباحث التي أصبحت تشكل مضمون الفقه على اعتبار أن الفقه هو الأحكام الشرعية العملية أو الفرعية. ومعلوم أن اعتبار الأحكام الفرعية أو العملية يخرج الأحكام العقدية أو الأحكام الأصلية التي يتناولها علم خاص، يسمى علم العقيدة أو علم التوحيد، وهي الأحكام التي جمع بعضها أبو حنيفة تحت تسمية الفقه الأكبر . وبصرف النظر عن محاولة بعض المعتزلة نفي تصنيف أبي حنيفة لكتاب الفقه الأكبر، فإن عامة علماء الحنفية قد حفظوا مواقفه العقدية.
ولا شك أن أعلام الفقه المالكي كانوا على وعي تام باشتمال المذهب على مباحث العقيدة، كما تحدث عنها مالك رحمه الله تعالى، وقد تكون رسالة ابن أبي زيد القيرواني وما صدّرت به من قضايا عقدية من أبرز الشواهد على تناول المذهب للعقيدة، وتظل المصادر الفقهية المالكية المطولة أكثر استقطابا وتصويرا لقضايا العقيدة المالكية، ويمكن أن نأخذ مثالا على هذا، كتاب الذخيرة للقرافي، فقد أفرد العقيدة بكتاب خاص هو كتاب الجامع، الذي قال فيه: "هذا الكتاب يختص بمذهب مالك، لا يوجد في تصانيف غيره من المذاهب" . وقد قسّم القرافي كتاب الجامع إلى فروع تلتها تنبيهات.
وقد كانت عقيدة مالك، عقيدة من أدركهم من السلف الصالح لا يحيد عنها، ومن ذلك أنه كان شديد النأي بنفسه عن البدع العقدية قبل العملية، وهو الذي طالما ردد قول الشاعر:
وَخَيْرُ أُمُورِ النَّاِس مَا كَانَ سُنَّةً وَشَرُّ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَاتُ الْبَدَائِعُ.
كان رحمه الله تعالى يبغض الابتداع والمبتدعين، وقد سئل عن الصلاة خلف أهل البدع القدرية وغيرهم، فقال: لا أرى أن يصلي خلفهم، قيل فالجمعة؟ قال: إن الجمعة فريضة، وقد يذكر عن الرجل الشيء وليس هو عليه، فقيل: أرأيت إن استيقنت أو بلغني من أثق به أليس لا أصلي الجمعة خلفه؟ قال: إن استيقنت" . وكان إذا سئل عن أهل الأهواء، قال عنهم: بئس القوم لا تسلم عليهم، واعتزالهم أحب إلي" .
وورث المالكية عن إمامهم كراهية أهل البدع العقدية، فوقفوا بذلك حائلا دون تفشي كثير من الضلالات، التي عانت منها جهات كثيرة من البلاد الإسلامية، يروي القاضي عياض، أن ثلاثة من أعلام المذهب القيرواني ممن اتصلوا بمالك، وهم عبد الله بن غانم، وعبد الله بن فروخ الفارسي، والبهلول بن راشد، صلوا على رجل من المسلمين، ثم قدم لهم ابن صخر المعتزلي فامتنعوا من الصلاة عليه" .
إن من أبرز معالم معتقد مالك كما صورها القرافي وغيره أنه كان يعتقد في الله تعالى أنه واجب الوجود، حي بحياة، قادر بقدرة، مريد بإرادة، عالم بعلم، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، وأن صفاته واجبة الوجود، أزلية أبدية تامة التعلق، فيتعلق علمه بجميع الجزئيات والكليات الواجبة والممكنة، وإرادته متعلقة بجميع الممكنات، وعلمه متعلق بجميع المعلومات، وبصره متعلق بجميع الموجودات، وسمعه سبحانه متعلق بجميع الأصوات والكلام النفساني (...) وأن قدرة الله تعالى عامة التعلق بجميع الممكنات الموجودة في العالم من الحيوان وغيرهم: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . له أن يفعل الأصلح، وله ألا يفعل ذلك: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) .
أما عقيدة مالك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتمثل في معرفة أحواله وصفاته وفي تبليغه وفي وجوب طاعته، وقد ضرب مالك أروع الأمثلة في توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأدب معه، وقد كان يعبر عن ذلك بشديد التوقير لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يؤديه إلا على طهارة ومع تجمل خاص. وقد ذكر أكثر من واحد أن مالكا كان إذا أراد أن يخرج للحديث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوة ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقر به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان مالك يعتقد أن التقليد في العقيدة لا يجزئ ، وكان يثبت رؤية الله تعالى في الآخرة ، وكان يرى أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وبعضه أفضل من بعض .
ولئن كان من غير الممكن تتبع كل ما نقل عن مالك في قضايا العقيدة، بما أن ذلك يستدعي إفراده بكتابة خاصة، فإن المراد الإشارة إلى أن الأخذ بالمذهب المالكي كلاّ كان يعني فيما يعني الأخذ بكل تلك الحقائق العقدية، وهو ما كان يشكل قاعدة عقدية تمنع فشوّ الانحرافات والضلالات العقدية التي تؤدي إلى تمزق المجتمع وتضارب فئاته.
لقد أصبح علماء المذهب المالكي أمناء على استمرار العقيدة السنية في الغرب الإسلامي، بما كانوا يبدونه من نفور من الابتداع، وما كانوا يعاملون به مظهري البدع ودعاتها من كراهية وإقصاء، وقد أوذوا في سبيل ذلك في أموالهم وأبدانهم أدوا في سبيل ذلك الثمن من سلامتهم ومن حياتهم في كل الفترات التي كان يتغلب فيها المد الشيعي أو الخارجي.
روى عبد الله بن محمد المالكي في رياض النفوس، أن جبلة بن حمود، جاءه موفد الأمير وقال له: يقول لك الأمير كرّر الإقامة وسلم اثنتين ولا تقنت في الصبح فانتهره جبلة، وقال له: الأمير لا يعلمنا أمر ديننا .
لقد كان الفقهاء المالكية عند مستوى الذود عن العقيدة الإسلامية، وقد أدوا ثمنا باهظا تمثل في الأذى الذي تحملوه، وقد بلغ بعضهم درجة الموت، فقد امتحن ابن أبي زيد القيرواني، والقابسي، وأبو عمران الفاسي، وقد قتل أبو عبد الله الشيعي إسحاق بن البرذون ، وأبا بكر بن هذيل . وقد روى عياض تفاصيل الحكم عليهما بالموت، وذكر أن الشيعة بالقيروان، كانوا يميلون إلى مذهب أهل العراق أي الحنفية لموافقتهم إياهم في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم، ورفعوا الأمر إلى أبي عبد الله الشيعي، حيث استدل أبو إسحاق البرذون على صحة إمامة أبي بكر الصديق بأن عليا كان يقيم الحدود بين يديه، فلولا أنه كان إمام هدى مستحقا للتقديم لما حلت له معونته، وقد أمر أبو عبد الله الشيعي بحبس ابن البرذون وابن هذيل ثم قتلهما، ولما قدم ابن البرذون للموت طلب منه أن يرجع فقال أعن الإسلام تستتيبني؟ ثم قتل الرجلان وربطا بالحبال وجرتهما البغال في الشوارع ثم صلبا ثلاثة أيام . وقد كاد أحمد بن عبد الله بن أبي الأحوص أن يلاقي ذات المصير، لولا أن إبراهيم بن أحمد الشيعي تخوف من أثر ذلك .
ونفس الأمر يصدق على بلاد الأندلس، حيث استطاع مذهب مالك أن يرسخ عقيدة تقوم على أساس سليم، شكلت معالمها ركائز قام عليها الفقهاء والأمناء من بعد، تكونت من مجموع تناولاتهم لها قواعد يبنى عليها هذا الفن.
[COLOR=darkblue]العنصر الثاني :
أمثلة تنزيلية:
اعتقاد القلب داخل في النية والقصد: [/COLOR]
تحدث علماء الأندلس عن المقاصد الراجعة إلى قصد المكلف، بوصفها طرفا مقابلا لقصد الشارع، من وضع هذه الشريعة المباركة، وخصوها بالحديث عن المقاصد الراجعة إلى المكلف، فقد تحدث عنها الشاطبي في اثنتي عشرة مسألة، دارت موضوعاتها حول ضرورة اعتبار قصد المكلف في مختلِف تصرفاته انطلاقا من أن الأعمال بالنيات، وأن المقاصد معتبرة بقصد المكلف إلى الامتثال لمقتضيات الأحكام. وهو الشيء الذي يبنى عليه أن الاعتقاد بالقلب، يدخل في النية والقصد. مع الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين النية والقصد عند الفقهاء في كلامهم في كتبهم والتي يتم بها تميز العبادات بعضها عن بعض وعند العارفين في كلامهم في كتبهم والتي يعبرون بها عن الإخلاص وتوابعه.
لقد استطاع علماء الأندلس أن يؤسسوا لمفاهيم عقدية، انطلاقا من التصورات المقاصدية التي ترشدهم إلى فهم العقيدة فهما صحيحا سليما من كل شائبة أو غبش، وقد غزر علم هؤلاء الفقهاء في هذا المجال، حتى أصبحت الرحال تشد إليهم من كل البقاع، مما يمكن أن يعتبر تأكيدا على ممَيِّزَاتِ فكرهم المقاصدي. وتعد العقيدة ركنا مفصليا في المباحث التي اهتم بها علماء الأندلس:
[COLOR=darkblue]* المثال الأول: تنزيل أبي الحسن بن بطال:[/COLOR]
فعقيدة التوحيد كلها مقاصد صافية نقية تبعث على أن ينسب لله سبحانه كل صفات الجلال والخلق كصفة الخالق المصور البارئ.
فها هو ذا أبو الحسن ابن بطال مثلا قد أعطاها من اهتماماته اهتماما خاصا، بما هي "حاجة كل عالم، ولا شك في أن لها تعلقا بفقه الحديث، بل إن فقهنا الحديث يحتم علينا تناول كل القضايا التي يفيدها، وهو الأمر الذي كان مقررا عند الأوائل، فقد كانوا يطلقون على العقيدة مصطلح الفقه. وقد ألف أبو حنيفة كتابا سماه "الفقه الأكبر" وموضوعه المعتقد" . كما أشرنا في العنصر السابق.
وليس ذلك غريبا بما أن نقطة البداية في الإسلام هي العقيدة، حيث بدأ بها جميع الرسل عليهم السلام دعوتهم، وبها ينبغي أن يبدأ كل داعية دعوته في أي زمان ومكان، ولا شك أن البدء بها شيء طبيعي، لأنها أساس كل عمل جاءت به الشريعة، فهي الأصل، إذ على قدر الإخلاص فيها يكون قَبولُ العمل، وعلى قدر صحتها يكون السير إلى الله تعالى سليما، وعلى قدر قوتها يكون عطاء المسلم في الحياة قويا" . يقول ابن بطال رحمة الله تعالى عليه في شرح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" . "لإجماعهم أنه تسقط عنه مظالم العباد. هذا تأويل أهل السنة. والحديث عندهم على الخصوص، وهو خلاف مذهب الخوارج الذين يقولون بتخليد المؤمنين في النار" . وهنا يتضح الفهم الأصولي المبني على الترجيح، فقد استعمل دلالة الاقتضاء "حرمه الله على الخلود في النار"، إذ إن جانب العقيدة أصل يجب ألا يغفل فرعه المقاصدي، ومن ثم فهي علاقة أصل بفرع. وقد رد رحمه الله تعالى قول الخوارج إذ يرون الخروج على أئمة الجور والقيام عليهم، فذكر في باب السمع والطاعة للإمام حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَّةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَّةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ" . قال: "احتج بهذا الحديث الخوارج ورأوا الخروج على أئمة الجور والقيام عليهم عند ظهور جورهم. والذي عليه جمهور الأمة أنه لا يجب القيام عليهم ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد الإيمان، وتركهم إقامة الصلوات، وأما ما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم، إذا استوطأ أمرهم وأمر الناس معهم، لأن في ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفي القيام عليهم تفرق للكلمة وتشتت للألفة" .
وهذا تصور واضح لمنهج الحفاظ على الكليات في تراتبيتها بدءا بحفظ الدين وجمع الكلمة حفاظا على الأمن الروحي للناس.
[COLOR=darkblue]المثال الثاني: تنزيل الحافظ بن عبد البر:[/COLOR]
وها هو ذا أيضا الحافظ ابن عبد البر كباقي أهل الحديث يرى في مضمار حقيقة الإيمان أنه يتركب من ثلاثة أركان: الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح. ولذا فالإيمان عنده اعتقاد وقول وعمل. فأما الاعتقاد هو أن تؤمن وتصدق بوجود الله تعالى وصفاته وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله تعالى يبعث من في القبور. وأما الإقرار باللسان والاعتقاد بالقلب، فقال الفقهاء فيها: إن "الإيمان هو الشهادة باللسان، والإقرار بالقلب، بأن الله تعالى وحده لا شريك له ولا شبيه له ولا مثل، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا اَحد، خالق كل شيء، وإليه مرجع كل شيء، وهو المحيي المميت، والحي الذي لا يموت. والشهادة بأن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخاتم أنبيائه حق، وأن البعث بعد الموت للمجازاة على الأعمال، وأن الخلود في الآخرة لأهل السعادة، ولأهل الإيمان والطاعات الجنة، ولأهل الشقاوة والكفر والجحود السعير" .
ويرى ابن عبد البر رحمه الله تعالى أن "الإيمان مراتب بعضها فوق بعض، فليس الناقص فيها كالكامل، حيث يزيد بعضها على بعض بالثواب والأجر واليقين، لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُومِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمُ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، أي إنما المؤمن حق الإيمان من كانت صفته هذه، لقوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُومِنُونَ حَقّاً)" . "كما أن من مراتب الإيمان عدم إذاية الناس وإلحاق الضرر بهم، سواء باللسان أم باليد، وكذلك التخلق بالأخلاق الحسنة والحب في الله والبغض في الله، والصلاة والأمانة وذكر الله تبارك وتعالى، فهذه كلها من مراتب الإيمان" .
وهو الأمر المجلي أن الفكر المقاصدي حاضر في حديثه عن مراتب الإيمان، من حيث إن العقيدة ذات صلة وثيقة بقصد المؤمن ونيته، وما يترتب عليها من أحكام، وما يفضي إليه عمله، وما يحققه من مصلحة أو مفسدة.
ويقول رحمة الله تعالى عليه في مرتكب الكبيرة: "إن من أحصن فرجه من الزنى، ومنع لسانه من كل سوء، ولم يتق ما سوى ذلك من القتل والظلم، أنه لا يضمن له الجنة، وهو إن مات عندنا في مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه، إذا مات مسلما" . فهو بهذا الفكر يقف موقف المعتدل القائم على منهجية وسط تحفظ من الزلل والزيغ، خلافا للمعتزلة وعلى رأسهم واصل بن عطاء الذي عاصر مالكا، حيث يرون أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، إلا أن يتوب توبة نصوحا، فيتوب الله عليه ويسمّونه مسلما فاسقا" . وقد ركز ابن عبد البر في بيانه لمفهوم الكفر على هذا الأمر، حيث يرى أن "الكفر ينقسم إلى قسمين، يعنينا هنا القسم الذي ينقل صاحبه عن الملة وعن الدين الإسلامي، وهو كفر العقيدة وجحود الله تعالى وصفاته، وإنكاره أركان الإيمان عن علم وعناد واستكبار" .
وقد استمات ابن عبد البر ضدا على الخصوم في الدفاع عن عقيدة استواء الله تعالى على العرش، وفي دفاعه على أنها علوه وارتفاعه سبحانه وتعالى، فإضافة إلى الآيات واللغة التي تؤكد هذا المعنى، ساق أدلة عقلية، فدعم وجهته، منها قوله رحمه الله تعالى: "ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش، فوق السموات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كَرَبَهُمْ أمر أو نزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء، ليستغيثوا ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة، من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكاية، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم" .
وقال رحمه الله تعالى في التمهيد بعد ذكر حديث النزول: "وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على عرشه من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش. ثم ذكر الأدلة على ذلك ومنها قوله: "ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل فوق السماوات السبع أن أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة والحمد لله. ومما احتج به أيضا حديث الجارية، كما فصل الجواب في الاستواء .
من هنا يتبين كيف أن تنزيل الفكر المقاصدي على الجانب العقائدي يدخل ضمن سياق حفظ الدين، فالتصديق التام والإيمان التام بالقضاء والقدر والجن والأمور الاعتقادية التي لا تدرك بعقل ولا قياس، أمور يجب الإيمان بها كما وردت في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم" . وهو الأمر الذي يدخل في حفظ الدين من جانب الوجود في التصديق والإيمان بالعقائد الإسلامية.
وهذا يؤكد حقيقة السبق في وضع مناهج علمية والتنظير لعلم المقاصد من طرف الاحلقات الأولى أو السلسلة الأولى لعلماء الأندلس ، الذين اختاروا المذهب المالكي نبراسا يقتدون به ويسيرون على نهجه في فهم أحكام الشريعة وتنزيلها على الوقائع والقرائن .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.