السنة: جدل العمل مع رواية المخالف لقد اتفق أهل السنة وتبعهم الشيعة في ذلك على وجود الصحيح والحسن والضعيف والموضوع من الأحاديث1 فينقلان منها في كتبهم ومصنفاتهم، وعند اشتداد النزاع المذهبي عادة ما كان يقام حاجز صلب في وجه احتجاج كل مذهب بما يرويه الآخر، بالرغم من أن التمعن في الضوابط التي يضعانها لقبول الحديث – ومنها رواية المخالف- لا توحي بأن ذلك الحاجز يشكل ضربة لازب، إذ أخذ موضوع الموقف من المخالف للمذهب حيزا كبيرا من المناقشة يقتضي الوقوف عنده. الشيعة ورواية "الموثق" يعرف الشيعة السنة بأنها "ما يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم أو مطلق المعصوم من قول أو فعل أو تقرير غير عادي"2، وعرفوها بأنها "قول من لا يجوز عليه الكذب والخطأ وفعله وتقريره غير قرآن، وما يحكي أحد الثلاثة يسمى خبرا وحديثا"3 ،وبذلك يشمل التعريفان النبي صلى الله عليه وسلم ولأئمة الإثني عشر الذين تعتقد فيهم الشيعة العصمة، وقسموا الحديث إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف، فالصحيح هو "ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة"4، والحسن هو "ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامي ممدوح مدحا مقبولا معتدا به غير معارض بذم من غير نص على عدالته، مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه أو في بعضها بأن كان فيهم واحد إمامي ممدوح غير موثق مع كون الباقي من الطريق من رجال الصحيح، فيوصف بالحسن لأجل ذلك الواحد"5، والموثق "هو ما اتصل سنده إلى المعصوم بمن نص الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته بأن كان من احد الفرق المخالفة للإمامية وإن كان من الشيعة مع تحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح"6، والضعيف هو "ما لم يجتمع فيه شروط أحد الأقسام السابقة وإن اشتمل طرقه على مجروح بالفسق ونحوه، أو مجهول الحال، أو ما دون ذلك كالوضاع"7، وحاصل هذه التعاريف الاعتبار في المقام الأول بما نقل من طريق الإمامي لا من غيره ولو كان شيعيا، لأن الإمامي هو الذي يعتقد بإمامة الإثني عشر وعصمتهم، والشيعي غير الإمامي هو من يعتقد بأحقية علي كرم الله وجهه بالخلافة بلا فصل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.8 لقد استغني في التعريف الأول بذكر العدالة عن قيد الضبط "لأن المغفل المستحق للترك لا يعدله أهل الرجال، وأيضا فالعدالة تستدعي صدق الراوي وعدم غفلته وعدم تساهله عند التحمل والأداء"9، وأجيب عن سبب الاستغناء عن قيدي الشذوذ والعلم بأن اشتراط الصحة "بالنظر إلى حال الرواة والشذوذ أمر آخر مسقط للخبر عن الحجية، والعلة غالبا ما تصل إلى حد القطع... فقيد الاتصال والعدالة يحترز بهما عنهما"10. ولقد اختلفت عبارات الشيعة في تعديل أو تجريح المخالفين ،ووردت لدى علماء الرجال منهم ألفاظ مختلفة للتنبيه على الصفة الاعتقادية للمخالفين منها: عامي/ ملعون/ بتري/ واقفي/ غالي/ غالي ملعون/ يرمى بالغلو/ كيساني/ زيدي/ جارودي/ مخمس/ من الطيارة/ مضطرب المذهب/ ضعيف في مذهبه/ فاسد المذهب 11،وإن من شأن إقرار قسم الموثق أن يرسي جسور التواصل والتقارب بين الشيعة وأهل السنة في عناوين الدرس الحديثي الذي يمهد الطريق للاجتهاد، فمن علماء الرجال الشيعة من لم يقيد العدالة بالشرط الإمامي كالشيخ علي الخاقاني الذي يقول: "لا يلزم من كون الوثاقة بالمعنى الأخص، أعني العدل الإمامي بل الأعم الذي هو الثقة في دينه وهو كاف إذ لا يعتبر في قبول الخبر أزيد من ذلك، كما هو المتحصل من أدلة حجية الخبر الواحد في آية النبأ12 على الاستدلال بها بل وغيرها مما عساه يظهر منه اعتبار العدالة إذ لا خصوصية لها في قبول الخبر إلا من جهة العصمة عن الكذب الضار بقبول الخبر، بل الظاهر من تلك الأدلة كفاية مطلق التحرز عن الكذب وإن كان فاسقا بجوارحه وهذا هو الحق وإليه أذهب"13، ومن توابع هذه القاعدة قاعدة مراعاة العدالة بالمعنى الأعم المرتبط بالثقة في الدين، فيذهب الشيخ الخاقاني إلى أن الرمي بما يتضمن عيبا فضلا عن فساد العقيدة "مما لا ينبغي الأخذ به والتعويل عليه بمجرده بل لا يجوز"14، ويذكر من أسباب عدم الجواز:15 1- احتمال أن يكون الرامي قد اشتبه في اجتهاده. 2- أن يكون الرامي قد وجد في كتابه أخبارا تدل على ما رمى به والمرمي برئ منه ولا يقول به. 3- ادعاء بعض أهل المذاهب الفاسدة انتماء المرمي إليهم وهو من تلك النسبة براء. وذكر الشيخ احتمال اشتباه المعدِّل أو المجرح في اجتهاده بناء على رأيه في أن التعديل أو التجريح ليس من باب الشهادة ولا من باب الخبر بل هما من باب الظنون الاجتهادية التي تحتمل الخطأ والصواب بل إن كثيرا من المُعدِّلين أو المُجرِّحين كانوا فاسدي العقيدة 16 - حسب تصور الإمامية للعقيدة الصحيحة- كما أن كثيرا من شيوخ الإجازة كانوا معروفين بفساد العقيدة 17 ،إذن فما وجه ما ذكره الشيخ عبد الله المامقاني 18 من ضرورة أن يكون الموثِّق من الإمامية بقوله "من نص الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته"19 ،الوجه في ذلك في اعتقاده هو التحرز من توثيق غير الإمامية لأن ما يرويه المخالفون في كتبهم "ملحق بالضعيف"20، وللشيخ الخاقاني تفصيل في المسألة إذ يُفرِّق بين التجريح والتعديل "فجرح غير الإمامي لا عبرة به وإن كان الجارح ثقة، أما تعديل غير الإمامي -إذا كان ثقة- لمن هو إمامي المذهب فحقيق بالاعتماد والاعتبار فإن الفضل ما ما شهدت به الأعداء"21 ،ولا يرى الشيخ مرتضى العسكري إلحاق كل مرويات أهل السنة بالضعيف فأفاد أن أهل السنة "قد أوردوا في كتبهم الكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سيرة وحديثا مما نعتمدها ونرويها عنهم"22، وذهب الراحل الشيخ مهدي شمس الدين إلى حد تقدير نسبة التوافق مُمثِّلا لذلك بصحيح البخاري وصحيح مسلم فقال: "أنا أوشك أن أنجز قراءة كتابي البخاري ومسلم كليهما وقد اكتشفت من قراءتي لهذين الكتابين عن نسبة التوافق بين السنة المروية في هذين الكتابين وبين السنة المروية عن أئمة أهل البيت، التوافق كبير جدا ولكن بالتأكيد نسبة التوافق تتجاوز السبعين في المائة".23 هذا فيما يتعلق بالروايات المشتركة، أما فيما يتعلق بالرواة المشتركين فالمتفق على توثيقه من الجانبين موجود أيضا، وفي هذا الباب أورد الشيخ عبد الحسين شرف الدين24 في "مراجعاته" أسماء مائة من رجال الشيعة في أسانيد أهل السنة،25 وذكر جملة صالحة منهم أيضا الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الرجال،26 إلا أن مما يستشكل ويفتل في حبل التعصب ذم الشيعة للراوي بمجرد موافقته "للعامة" والإكثار من الرواية عنهم، وجعل المخالفة لهم من المرجحات إذا استوت الروايات عن الأئمة في درجة الثقة والشهرة والعلم، فيروي محمد بن بابويه القمي أن رجلا سأل أحد الأئمة: "إن كان الخبر منكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال الإمام: ينظر فما وافق حكمه كتاب الله والسنة وخالف العامة أخذ به، قلت: جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهما بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: بما خالف العامة فإن فيه الرشاد"،27 وعندما يعدد الوحيد البهبهاني28 أسباب ذم الراوي يقول: "ومنها أن يكون رأيه أو روايته في الغالب موافقا للعامة"،29 وذكر النجاشي (ت 450 ه) مصداق هذا الاعتبار تطبيقا فقال عن: 1- أحمد بن عبد الله الدوري: "كان من أصحابنا ثقة في حديثه مسكونا إلى روايته وما يتحقق بأمرنا مع اختلاطه بالعامة وروايته عنهم وروايتهم عنه".30 2- حبيش بن مبشر: "كان من أصحابنا وروى من أحاديث العامة فأكثر".31 3- حرب بن الحسن الطحان: "كوفي قريب الأمر في الحديث له كتاب عامي الرواية".32 إلا أن الشيخ محمد تقي الحكيم قد آل بمصطلح العامة إلى مفهوم يضيق شقة الخلاف ويوسع مساحة التفاهم حول الروايات والرواة فيقول: "المراد بالعامة أولئك الرعاع وقادتهم من الفقهاء الذين كانوا يسيرون بركاب الحكام، ويبررون لهم جملة تصرفاتهم، وليس المراد بالعامة أولئك الأئمة الذين عرفوا بأئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم".33 ومما يتصل برواية المخالف موقف الشيعة الإمامية من المرويات بطرق الصحابة – رضي الله عنهم- فالشيخ مرتضى العسكري يستهل بحوثه عن الصحبة والصحابة بذكر تعريف ابن حجر العسقلاني للصحابي إذ يقول: "هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام"،34 وقد احترز ابن حجر بهذا التعريف من رواية المنافقين والأفاكين الذين لقوا ورأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تثبت لهم صفة الصحبة، أو أسلموا ظاهرا وأبطنوا الكفر أو ارتدوا عن الإسلام، إلا أن الشيخ العسكري يضرب صفحا عن هذه الضوابط المستفادة من التعريف ليقول: "إن في الصحابة مؤمنين ومنافقين (!) ومن أخبر الله عنهم بالإفك، وفيهم من قصد اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن التشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ليس أكثر امتيازا من التشرف بالزواج بالنبي فإن مصاحبتهن له كانت من أعلى درجات الصحبة"،35 وهكذا أنزل الصحابة منزلة غيرهم في التفتيش عن العدالة،36 وكأن بعض الإمامية يعتقدون أن أهل السنة يسوون بين العدالة والعصمة التي أثبتوها هم لأئمتهم بينما الأمر غير ذلك فشتان بين العصمة والعدالة، فمع الأولى ينتفي احتمال الخطأ، ومع الثانية يرد احتمال الخطأ ولم يمنع وجود الصحابي في طرق الحديث أهل السنة من الحكم على الكثير من الروايات بالوضع،37 ومن ثم يكون اقتراح الشيخ العسكري غير ذي موضوع ما دامت العدالة لا تعني العصمة إذ قال: "لا ينبغي لنا أن نجعل إنسانا من علماء الحديث كرسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما عن الخطأ والزلل والنسيان، ولا نجعل كتابا من كتب الحديث نظير كتاب الله معصوما عن السهو والنسيان والزلل، فإن كتاب الله هو وحده الذي لا يأتيه الباطل، وبناء على ذلك يجب أن يجري البحث العلمي النزيه لمعرفة سند الحديث ومتنه، أي حديث كان وفي أي كتاب كان، هذا هو السبيل إلى توحيد كلمة المسلمين"38 ومما تذكره الشيعة في مقام الاحتجاج للسنة الواردة من طرق آل البيت حديث الثقلين: عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"39 وفي رواية أخرى بزيادة: "فانظروا كيف تخلفوني فيهما"40 وجاءت روايات أخرى ذكر فيها بدل عترتي سنتي من ذلك ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما – أو عملتم بهما- كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض"،41 والحديث مما استدركه الحاكم على الشيخين،42 ولا وجه لإقامة التعارض بين العترة والسنة، وذهب إلى الجمع الشيخ محمد تقي الحكيم فقال: "لأن رواية وسنتي لا تعارض رواية العترة، واعتبار الصادر شيئا واحدا، على أن التعارض لا يلجأ إليه إلا مع تحكم المعارضة ومع إمكان الجمع بينهما لا معارضة أصلا".43 وبذلك تأتي السنة في المقام الثاني من الحجية – بعد القرآن- بقسميها النبوية والإمامية لاعتقاد الشيعة أن قول الإمام هو نفس قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيروون عن جعفر الصادق أنه قال: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (ع)، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل".44 إن اختلاف المرويات موجود داخل المذهب الواحد، وقد نبه الإمام علي كرم الله وجهه على اختلاط السنة الصحيحة الجامعة غير المفرقة بالأخرى الضعيفة أو المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبا فقال: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان متصنع للإسلام لا يتأثم ولا يتحرج يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله... ورجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبا فهو في يديه ويرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو علم المسلمون انه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه منسوخ لرفضه، ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه، وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه".45 ومدار كلام الإمام علي كرم الله وجهه على تحقق شرطي العدالة والضبط حين تحمل الحديث وحين أدائه دون النظر إلى ما وراء ذلك من المذاهب والانتماءات. أهل السنة ورواية "المبتدع" لقد مثلت الفتنة الكبرى التي انتهت بمقتل الخليفة الراشد الشهيد عثمان رضي الله عنه انعطافه كبرى في تاريخ الإسلام بشكل عام وفي تاريخ تدوين الحديث النبوي بشكل خاص، إذ غدا التثبت من عدالة الراوي وضبطه الشغل الشاغل لعلماء الحديث وجامعيه، وقد عبر عن هذه الحقيقة التابعي الجليل محمد بن سيرين46 بالقول: "كان الناس في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد"47 فحدث حينئذ الانكباب على النقد الخارجي للحديث قبل المرور إلى النقد الداخلي المتصل بألفاظ الحديث ومعانيه، ولم يستبعد الصحابة ولا التابعون ولا من أتى بعدهم انتشار الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم برغم التحذيرات النبوية الشديدة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"،48 ونبه صلى الله عليه وسلم في مقابل ذلك على ظهور العلماء الراسخين الذين يدفعون عن السنة والعلم التحريفات والأكاذيب والتأويلات المتعسفة، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين"،49 وكان من تداعيات الفتنة أيضا ظهور الأحزاب والمذاهب والفرق الإسلامية وقد أطلق على المخالفين منهم لأهل السنة والجماعة اسم "أهل الأهواء"،50 وناقش علماء الحديث والأصوليون من أهل السنة رواية المبتدع51، وقد ارتأيت تقسيم مناقشتهم إلى عامة تعرض لروايات أهل الأهواء، وإلى خاصة تعرض لروايات المجروحين بالتشبع أو الرفض. أولا: المناقشة العامة رواية "أهل الأهواء" عند مناقشة ابن حزم لهذه المسألة ذكر عدة أمور منها: 1- بدأ بذكر ضابط وقانون عام مؤداه أن "من يشهد بقلبه ولسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه برئ من كل دين غير دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو المؤمن المسلم، ونقله واجب قبوله إذا حفظ ما ينقل ما لم يمل إيمانه إلى كفر أو فسق"،52 وينبه حاصل كلامه على ضرورة حيازة الراوي لشرطي الضبط والعدالة ليس إلا. 2- أما أهل الأهواء الذين لم تَمِل بهم المخالفة إلى الكفر البواح فهم "مسلمون أخطأوا ما لم تقم عليهم الحجة فلا يقدح شيء من هذا في إيمانهم وعدالتهم بل هم مأجورون على ما دانوا به من ذلك وعملوا به أجرا واحدا إذا قصدوا به الخير ولا إثم عليهم في الخطأ".53 3- ويبنى على هذا الحكم صحة النقل عنهم وقبول شهادتهم ما لم تقم عليهم الحجة بخطأ ما ذهبوا إليه "فإذا قامت على أحد منهم الحجة من نص القرآن أو سنة ما لم تخص أو نسخت فأيما تمادى على التدين بخلاف الله عز وجل أو خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نطق بذلك فهو كافر مرتد... وإن لم يدن لذلك بقلبه ولا نطق به لسانه لكن تمادى على العمل بخلاف القرآن والسنة فهو فاسق بعمله".54 وانتقل ابن حزم إلى مناقشة تقييد قبول رواية المبتدع بكونه غير داعية، فاعتبر هذا القيد خطأ فاحشا وقولا بلا برهان،55 وجعل الحكم على رواية المبتدع بالقبول أو الرد يدور على علة قيام الحجة أو عدم قيامها، لا على الدعوة أو عدم الدعوة، فما لم تقم الحجة كان المبتدع معذورا سواء دعا أو لم يدع، وإن قامت عليه الحجة لم يكن معذورا سواء دعا أو لم يدع،56 وحكى ابن الصلاح الشهرزوري اختلاف العلماء في قبول رواية المبتدع فذكر لهم قولين في المسألة: 1- الرد المطلق: لأن المبتدع قد صار ببدعته فاسقا "وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول".57 2- القبول بشروط منها: أ- ألا يكون المبتدع "ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه ولأهل مذهبه سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن".58 ب- ألا يكون المبتدع داعية إلى مذهبه، قال ابن الصلاح: "وهذا المذهب أعدلهما وأولاها"59 لأن كتب أهل السنة "طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة، وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول".60 وأبطل الشيخ العلامة أحمد بن الصديق الطنجي المغربي قيد "عدم الدعوة" لأن الداعية "لا يخلو أن يكون دينا ورعا أو فاسقا فاجرا، فأما الأول فدينه وورعه يمنعانه من الإقدام على الكذب، وإن كان الثاني فخبره مرود وفجوره لا لدعوته فبطل هذا الشرط من أصله"،61 ومن مشمولات قيد عدم الدعوة قيد عدم رواية المبتدع لما يؤيد بدعته،62 واعتبر الشيخ أن هذا القيد هو "من دسائس النواصب التي دسوها بين أهل الحديث ليتوصلوا بها إلى إبطال كل ما ورد في فضل علي عليه السلام"،63 وأفاد أن أول من صرح بهذا القيد هو إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني الذي قال عنه الشيخ: "كان من غلاة النواصب"،64 وتأيد حكمه هذا بما ذكره الذهبي من أقوال بعض العلماء في الجوزجاني قال: "كان يتحامل على علي – رضي الله عنه- وقال الدار قطني: كان من الحفاظ الثقات المُصنِّفين وفيه انحراف عن علي".65 يظهر من مطاوي هذا المطلب أن القول في رواية المبتدع وأهل الأهواء يتعدد إلى: 1- الرد مطلقا. 2- قبول رواية المبتدع غير الداعية ورد رواية الداعية. 3- معيار قبول رواية المبتدع ليس الدعوة أو عدم الدعوة بل الدين والورع. 4- معيار القبول أو الرد قيام الحجة على الرأي أو عدم قيامها، والقولان الأخيران هما مظنة الاقتناع العقلي والاطمئنان القبلي إلى الرواية . ثانيا: المناقشة الخاصة الجرح بالرفض والتشيع لم يكن أهل السنة هم من أطلقوا اسم الرافضة على من يسب كبار الصحابة ويحط على الشيخين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما- بل سماهم بذلك رجل من وجهاء أهل البيت هو زيد بن علي بن الحسين (80-122 ه)66 لما اعتزله فريق من أنصاره لم يعجبهم ترضيه على الشيخين،67 ومن ذلك الحين وقع التمييز بين الرفض والتشيع، واستقر الرفض بدعة يُجرَّح بها كثير من الرواة بوجه حق أحيانا وبغير وجه حق أحيانا أخرى، وإلى ذلك التمييز تنظر أقوال كل من الذهبي وابن حجر، فقال الأول: "البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرق، فهذا كثير في التابعين مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما- فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة"،68 وقال الثاني: "التشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان وأن عليا كان مصيبا في حروبه، وأن مخالفه مخطئ مع تقديم الشيخين وتفضيلهما، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان معتقد ذلك ورعا دينا صادقا مجتهدا فلا ترد روايته بهذا لاسيما إن كان غير داعية، وأما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض فلا تقبل رواية الرافضي الغالي"،69 وحكى الذهبي قولا آخر مفاده رواية الرافضي إن كان صادقا عارفا بما يحدث إذا لم يكن داعية، أما الأقوال الأخرى فمنها المانع مطلقا لروايته، والمترخص إلا فيمن يكذب ويضع،70 وللعلامة أحمد بن الصديق نظرات دقيقة في المسألة يحسن إطالة النفس في عرضها، فهو بداية ينبه على أمر هام وهو أن اشتراط العدالة الكاملة القاضية بالملازمة الشديدة للتقوى واجتناب خوارم المروءة، والتوسع في الأشياء الخارمة قد أدى إلى إدخال ما ليس من هذا الشرط "كالتفرد والركض على البرذون وكثرة الكلام والبول قائما وتولية أموال اليتامى والقراءة بالألحان وسماع آلة الطرب المختلف فيها والاشتغال بالرأي وعلم الكلام والتصوف ورواية الأحاديث الموافقة لهوى المجرح، أو موافقة المخالف له في بعض الفروع، والبدعة والخلاف في المعتقد كالإرجاء والقدر والنصب والتشيع"،71 هذا التوسع كاد – برأي العلامة أحمد بن الصديق- أن "ينسد به باب العدالة وينعدم به مقبول الرواية"،72 لأن تحصيل الموافقة لمعتقد واحد هو أمر عسير، ومصداقه ما عرف من ظهور نحل وبدع كثيرة كالإرجاء والنصب والقدر والاعتزال والرفض "فغالب من جاء بعد الصحابة لم يسلم من التعلق بأذيال نحلة من هذه النحل منهم إلا القليل، غير أنهم كانوا متفاوتين فيها بالتوسط والتغالي والإفراط والاعتدال".73 وقد رد العلامة أحمد بن الصديق الجرح بالتشيع في سياق تصحيحه لحديث "أنا مدينة العلم وعلي بابها" وهو حديث تُكُلِّم فيه لأن في إسناده أبا الصلت عبد السلام بن صالح (ت 236ه) الذي قال عنه الذهبي: "أبو الصلت: الشيخ العالم العابد شيخ الشيعة له فضل وجلالة... قال ابن سيار: ناظرته لأستخرجه فلم أره يغلو ورأيته يقدم أبا بكر ولا يذكر الصحابة إلا بالجميل وقال: هذا مذهبي وديني، قال ابن محرز: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت فقال: ليس ممن يكذب"،74 وقال الذهبي أيضا:وقد ضرب أبو زرعة الرازي على حديث أبي الصلت"، وحد عبارة الحديث عند الحاكم في المستدرك مؤداها: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبد الرحيم الهروي ثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب"،75 قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الصلت ثقة مأمون"،76 وأتى الحديث من طريق آخر ينتهي إلى الصحابي جابر بن عبد الله – رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب".77 أما الأسباب التي رد بها العلامة بن الصديق الجرح بالتشيع - والعبرة بعموم كلامه لا بخصوص حالة أبي الصلت- فذكر منها: 1- إن رد الحديث وجرح الراوي بالتشيع البرئء من الرفض باطل عقلا ونقلا، لأن العمدة في صحة الحديث على الضبط والعدالة دون سواهما.78 2- يرد الخبر لكونه كذبا في نفسه لا لشيء آخر مضاف إلى الكذب، ويقبل لكونه صدقا في نفسه لا لشيء مضاف إلى الصدق "أما اعتقاد الراوي أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان أو أن عليا أفضل من أبي بكر وعمر وأحق بالخلافة منهما أو غير ذلك من المعتقدات فلا يحصل في شيء من ذلك ظن صدق في الخبر ولا عدمه، فاشتراط نفيها في قبول الخبر ظاهر البطلان".79 3- إن المعتقدات التي نسب الراوي بسببها إلى البدعة لا تدخل في مسمى "الفسق" الذي يرد به الخبر، لأن الفسق هو انتهاك محارم الله ومخالفة أوامره "والمبتدع لم يخالف حد الله ولا خرج عن أمره في معتقده حتى يكون فاسقا بل ما حمله على التعلق بمعتقده إلا بامتثال أمر الله وطلب مرضاته... فليس مادة "فسق" هي موجبة لرد الخبر، وإنما الموجب لرد الخبر هو الإقدام على ارتكاب المحرم الذي لا يؤمن معه الإقدام على الكذب لأنه من جملة المحرمات"،80 وإذا كان الكذب كبيرة من الكبائر فإن من الرواة من يعتقد أن ارتكاب الكبيرة كفر، فيتعجب العلامة من نسبتهم إلى البدعة ورد أخبارهم لا لشيء إلا أنهم يقولون بأعلى ما يطلب في صحة الرواية.81 4- إن المبتدعين إما أن يجادلوا في التنزيل، وإما أن يجادلوا في التأويل، فإن جادلوا في التنزيل صاروا إلى الكفر، وإن جادلوا في التأويل "فهم غير مختصين به بل جميع الأمة حالهم مع النصوص كذلك، فما من إمام إلا وقد خالف الكثير منها بتأويل رأى معه جواز تلك المخالفة"،82 وإن حكم على مخالف النصوص بالتأويل بالفسق اطرد هذا الحكم كلما وجدت المخالفة ولا معني لقصره على منتحلي التشيع مما يفضي إلى تفسيق كثير من الأئمة وهو ما يعتبره العلامة باطلا.83 5- إن الزعم بأن الخلاف بين أهل السنة اقتصر على مسائل الفروع بينما عداه (الخلاف) المبتدعة إلى مسائل الأصول زعم باطل في نظر العلامة لأن أهل السنة أنفسهم نقلوا مسائل من الفروع إلى الأصول وحكموا على مخالفها بالابتداع كمسألة المسح على الخفين".84 6- ليس شيوع الكذب مقتصرا على الروافض أو الشيعة "بل وجدنا الكذب شائعا أيضا في أصناف من أهل السنة كالمتعصبين من أهل الجمود والتقليد وكذا القصاص والوعاظ".85 7- يعيب العلامة على المُجرِّحين بالتشيع جعلهم "آية تشيع الراوي وعلامة بدعته هو روايته فضائل علي عليه السلام"،86 ويبين خطر ذلك بالقول: "لعمري إنها لدسيسة إبليسية ومكيدة شيطانية كاد ينسد بها الصحيح من فضل العترة النبوية".87 وبهذه الأسباب مجتمعة رد العلامة ابن الصديق الجرح بالتشيع الذي لا يتضمن معاني سب كبار الصحابة –رضي الله عنهم-(وهو الرفض) داعيا إلى تحري ميزان العدل والإنصاف في التعديل والتجريح، ولعل الإحاطة بضروب أقوال أهل الجرح والتعديل في الراوي المنسوب إلى البدعة لأجل الرفض أو التشيع لا تتأتى إلا بإيراد طرف من تلك الأقوال في جداول تعين على فهم المراد والله المستعان. أنقر هنا لتتمة المقالة