من قواعد التقريب: عدم مؤاخذة المذهب بالرأي الشاذ أو النادر، بل بما يعتبره أهل المذهب قولهم ومعتمدهم. وفي هذا يقول السيد المهري، وهو من علماء الإمامية اليوم: يجب «أن نحكم على آراء وعقائد وفقه وتفسير كل مذهب بما يراه ذلك المذهب، لا أن نتقوَّل عليهم وننسب إليهم أمورا لا يرضاها ولا يتبناها أصحاب ذلك المذهب». لذلك يضيف الشيخ لا ينبغي «استغلال الآراء والأفكار والفتاوى الشاذة والمنقولة في بعض الكتب في باب النوادر عند هذا المذهب أو ذاك، ثم الحكم عليه بأنه يتبنى هذا الرأي، كما فعل بعض من كان هدفه تمزيق وحدة المسلمين وضرب بعضهم بالآخر. وكذلك ينبغي أن يُعلم أن هناك أفرادا في كل مذهب يقومون بأعمال ومواقف تنافي الخلق الإسلامي والمبادئ الإسلامية، ولا تحترم الرأي المقابل وعقائده.. فهؤلاء لا نحسبهم على المذهب مطلقا». ويقول حيدر حب الله في السياق نفسه: «إنّ علماء المذهب الإمامي مختلفون في ما بينهم في بعض القضايا العقدية الفرعية، أو الفقهية، أو.. وهذا أمرٌ طبيعي نجده عند أيّ مذهب، مما يعني أنّه لا يجدر أخذ رأي واحدٍ عند الإمامية، واعتباره رأي الإمامية كلّها. فإذا قال المحدّث النوري (1320ه) بتحريف القرآن، فلا يعني ذلك قول جميع الشيعة به. كما أنّه ليست كل رواية في مصادر الشيعة تعني أخذ الشيعة بها، فقد ناقش علماء الشيعة إلا ما قلّ في الكتب الأربعة، بما فيها الكافي. وعليه يجب تحصيل رؤية موحّدة ومكتملة حول التفكير الشيعي للحكم عليه، تماما كما هو الحال في الموقف السنّي، فنحن لا نرضى أن يتّهم السنّة ويؤخذوا برأي عالمٍ منهم، ولا يدانوا بأيّ روايةٍ في أحد كتبهم، بل نطالب الشيعة بالمزيد من الدقة والأمانة في هذا المجال». لكن، ليسمح لي إخواننا الشيعة أن أهمس في آذانهم بشيء إخاله معقولا، وهو: كثيرا ما يحدد بعض الإمامية المذهبَ المعتمد عندهم في بعض المسائل الخلافية، فيأتي بعض «المخالفين» ويقرأ في كتبهم وعند بعض علمائهم آراء أخرى ومواقف مناقضة للموقف المعلن.. وهنا يثور بعض الإمامية، ويقولون: إن ذلك ليس هو موقف المذهب، وإن هؤلاء يتتبعون بعض السقطات فيشهرونها، وهي لا تلزمنا.. وإن عليهم أن يسمعوا ما نقوله لهم نحن لا غير. إن هذا الموقف لا يمكن قبوله كلّه، وحتى لو قبله بعضنا فلن ينجح ولن تكتب له الحياة، ذلك لأن تحديد المذهب بالضبط ليس أمرا يكون بالتشهي والتحكم الصِّرف، بل بالرأي والاجتهاد.. ولهذا أسس وأعراف وقواعد. والمخالف يعرف بعض هذه الأسس، وبإمكانه حتى لو لم يكن من أنصار المذهب أن يقول: هذا يجري على أصول المذهب وقواعده، وهذا لا يجري. ولو كانت القضية داخلية، أعني أنها تتعلق بالمذهب وأهله، ربما جاز أن تقول للناس: هذا هو المذهب لا غيره، وينتهي الأمر. لكننا في التقريب، وفي حوار بين فرق مختلفة حول قضايا مشكلة وخطيرة الشأن.. فلا بد من الإقناع والاقتناع. واعتبِر في هذه المسألة بقضية تحريف القرآن. يقول أكثر الإمامية في عصرنا: إن المذهب هو أن الكتاب الكريم محفوظ، لا زيادة فيه ولا نقصان. وأنا شخصيا أصدقهم، كما يصدقهم في ذلك أكثر أهل العلم من أهل السنة اليوم.. لكن بعض الباحثين من السنة يقرؤون في كتب إمامية، فيجدون عشرات الروايات والآراء التي تثبت التحريف.. فماذا يكون موقفهم منها؟ إنهم يتساءلون: ما موقفكم من هذه الروايات والآراء، كيف تكذبونها إن فعلتم وفيها من الرواة فلان وفلان، وهم عندكم ثقات، وهل تردون سائر رواياتهم، وكيف تردون آراء التحريف، وقد قال بها فلان وفلان من الأكابر..؟ فمهما لم تبيِّن منهجك في هذه القضايا وأمثالها.. رماك بعض المخالفين بأشياء كثيرة... بالتقية مثلا، وإخفاء ما تعتقده في الباطن.. وهكذا تكون الحلقة المفرغة: لا تنتهي إلى نقطة حتى تعود إليها. والغرض هنا التمثيل بالمسألة لا غير، والتنبيه إلى وجود بعض الاضطراب عند الإمامية في تقرير قواعد مذهبهم، وتمييز الصحيح المعتمد من الشاذ المرفوض، وهنا يجدر بالقارئ الفاضل أن يعلم بأن للطائفة مشكلات حقيقية في هذا المجال، وهي ليست بسيطة ولا هيّنة، وقد لاحظت أن كثيرا من أهل السنة لم ينتبهوا إليها، لذلك لا يفهمون جيدا «مأزق» الطائفة. ولو كانت الظروف تسمح لألّفتُ في هذا الباب، لكن العين بصيرة واليد قصيرة. وفي جميع الأحوال، علينا مراعاة العدل والإنصاف والتزام الموضوعية مع الذين نختلف معهم. وهذه قاعدة إسلامية عظيمة، فإن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط. ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. إعدلوا هو أقرب للتقوى. ولذلك كان الإنصاف والصدق أصلا من أصول أهل السنة في معاملة المخالفين. وهذا إمامهم الأكبر يقول في التقديم لكتابه العظيم: «مقالات الإسلاميين واختلافات المصلين»: «لا بد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات، ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنفون في النحل والديانات، ِمن بين مقصِّر في ما يحكيه، وغالط في ما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين مُعتمد للكذب في الحكاية إرادةَ التشنيع على من يخالفه، ومن بين تارك للتقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به. وليس هذا سبيل الربانيين، ولا سبيل الفطناء المميزين. فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما التمستَ شرحَه من أمر المقالات واختصار ذلك..»، ولله در أبي الحسن رحمه الله، فقد جمع في هذه المقدمة المختصرة قواعد مهمة في معاملة الفرق. وكذلك قال ابن حزم في التمهيد للحديث عن الفرق: «ليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما لم يقله نصا، وإن آل قوله إليه، إذ قد لا يلزم ما ينتجه قوله فيتناقض. فاعلموا أن تقويل القائل كافرا كان أو مبتدعا أو مخطئا ما لا يقوله نصا كذب عليه، ولا يحل الكذب على أحد».. ولا يكون تحقيق العدل والإنصاف أمرا سهلا على الدوام، لذلك كان القاضي عبد الجبار المعتزلي يقول لتلامذته: لا تراجعوا الشريف في مسألتين، فإنه لا ينصف فيهما: مسألة الإمامة، ومسألة الخمس. وليس المطلوب فقط الصدق وتجنب الكذب، فإن تعمد المبالغة والتهويل في الوقائع أو الحوادث هو أيضا نوع من الكذب. والقاعدة الشرعية هنا هي: اجتناب الهوى. لذلك اعتبر الشاطبي اتباع الهوى من أشد أسباب التفريق بين المسلمين. يتبع...