رأينا ما الذي يعنيه التقريب الفقهي، ولعل فتوى الشيخ شلتوت أبرز نجاحاته. ومحمود شلتوت عالم، وتولى مشيخة الجامع الأزهر في أواخر الخمسينيات. وكان أحد أكبر الداعمين لدار التقريب، فحضر كثيرا من اجتماعاتها، وكتب في مجلتها، وشارك في صياغة بياناتها.. قبل أن يتولى المشيخة، وبعدها أيضا. قصة الفتوى ونصها كان من المقرر أن تصدر هذه الفتوى في عام 1950، أو الذي بعده، حين كان عبد المجيد سليم شيخا للأزهر، واتفق على عقد جلسة خاصة للتعاون على وضع صيغة الفتوى. لكن حدث قبل الاجتماع بقليل أن تلقى الأعضاء السنّة من اللجنة طرودا بريدية من مجهول، لكل واحد طرد، تضمنت كتبا إمامية، وفيها من الطعن والسب في الصحابة ما كان كافيا لغضب الأعضاء السنة وانصرافهم عن الفكرة. وحاول الشيخ سليم تلطيف الأجواء، وكان من المتحمسين لمشروع التقريب، لكن الضرر كان قد وقع. ولما تولى شلتوت المشيخة أصدر فتواه في سنة 1960، واعتُبر ذلك أبرز إنجاز لدار التقريب. وفيها جواز التعبد على الفقه الإمامي مطلقا، أي بالنسبة إلى جميع المسلمين. وقد جاءت الفتوى جوابا عن هذا السؤال: إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، مثلا؟ الجواب: -1 إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معين، بل نقول: إن لكل مسلم الحق في أن يقلد، بادئ ذي بدء، أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره -أي مذهب كان- ولا حرج عليه في شيء من ذلك. -2 إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. انتهى. وقد سارع القمي، رحمه الله، إلى حمل الفتوى إلى بلاده، وأراد شاه إيران آنذاك محمد رضا أن تعلن من المذياع، لكن القمي أصر على إعلانها بمدينة مشهد المقدسة، وبحضور كبار العلماء كآية الله محمد هادي الميلاني، وأودعها أخيرا بمشهد الرضا رحمه الله. إن الذي أعطى للفتوى قيمة استثنائية هو أنها صدرت عن شلتوت باعتباره شيخا للأزهر، فكأنها رأي الجامع. وقد فرح الكثيرون بهذه الفتوى، وعدّوها فتحا جديدا في تاريخ العلاقة بين الفرقتين. واعتبرها الشيعة بالخصوص بمثابة اعتراف من العالم السني بالتشيع الإمامي، اعتراف صدر عن أعلى هيئة دينية علمية في هذا العالم. غير أنه لا بد من تقييد هذه الفتوى ببعض القيود، كما عليّ أن أنبه إلى وجود مجموعة أمور شوّشت على هذا الإنجاز، وأوجز هذا كله في الملاحظات التالية: مسألة الانفراد بالفتوى إن هذه الفتوى لم تحظ بإجماع من علماء أهل السنة، ولم تسبقها مشاورات لا واسعة ولا ضيقة، اللهم استشارة بعض علماء مصر، خاصة بالأزهر، والذين كانوا على صلة بدار التقريب. لذلك رفض الكثيرون فتوى شلتوت، بل حين تولى الدكتور الفحّام المشيخة طلب منه بعض أهل العلم إصدار فتوى تنقض الفتوى الأولى. ولئن رفض الشيخ الفحام ذلك وتمسك بفتوى شلتوت، فإن هذا معناه أن قطاعات واسعة من أهل العلم لم تكن مستعدة لتقبل هذه الفتوى وأمثالها. ويبدو أن دار التقريب، أو الشيخ شلتوت، لم يبذلوا جهودا مهمة في سبيل الاتصال بعلماء الدول الإسلامية الأخرى، وإشراكهم في الموضوع.. ولست هنا أعتب عليهم في شيء، إذ لا شك أن جهود هذه الجماعة من العلماء كانت جهودا جبارة، ولم تكن وراءهم دول داعمة ولا مؤسسات حكومية. لكنني هنا بصدد تقويم التجربة، ومحاولة الكشف عن قصورها للاستفادة منه مستقبلا. ومن هذه الثغرات أن الشيخ شلتوت لم يستشر علماء المغرب مثلا، ولا علماء الجزيرة العربية، ولا علماء الشام، ولا علماء القارة الهندية.. ونحن نعرف أن العلم غير محصور في مصر فقط، وأن فضل الله سبحانه شمل بلاد النيل وغير بلاد النيل، وأنه لم يُعط أحد من الأقدمين ولا المحدثين تفويضا لعلماء مصر -مهما بلغ شأو بعضهم في العلم أو العمل- بالتحدث والتصرف نيابة عن سائر المسلمين. وهذا حدّ من نفوذ الفتوى، ومن قدرتها على إقناع المسلمين. هل تسرع الشيخ في فتواه؟ اعتبر بعض أهل العلم أن شلتوتا، رحمه الله، تسرع في فتواه، بل قيل له: إن القمي خدعك. وربما قالوا: إنه ندم على فتواه. وقال غيرهم: إن الشيخ لم يكن على اطلاع كاف على المذهب الإمامي، فلم يكن على علم بكثرة مخالفتهم لأهل السنة، ولا ببعد عقائدهم عن عقائدنا.. وهذا كله عندي لا يصحّ. فأما الرجل فعالم، وشيخ للأزهر، وصلته بدار التقريب قديمة، إذ حضر بعض اجتماعاتها، وخاض في بعض نقاشاتها.. وليس المذهب الإمامي مجهولا لعوام أهل العلم، فضلا عن العلماء، حتى نعتبر أن الشيخ لم يكن يعرف حقيقة المذهب. نعم، قد لا يعرف كثيرا من تفاصيله وأسسه وتاريخه ورجاله.. لكن الأصول الكبرى وما به تميزوا عن سائر الأمة.. هذا معلوم، ولمن لا يعرفه أمر يسير، يكفي فيه اطلاع قليل. كذلك قصة الندم لا تقوم، فقد ظل الشيخ -كما يقول رجب البنا- سنين بعد صدور الفتوى يشرحها ويبين أسسها، ويرد على المعترضين عليها، في مقالات وأحاديث إذاعية وبيانات.. لذلك فإن الأزهر إلى اليوم لم يصدر أي شيء يتراجع به عن هذه الفتوى، على العكس من ذلك، تظهر تصريحات، بين الفينة والأخرى، لبعض علمائه أو مسؤوليه فيها ما يدعم فتوى شلتوت. ويرى بعض الكتاب أن فتوى شلتوت نوع من إحياء مشروع نادر شاه بِعدّ المذهب الإمامي خامس المذاهب. مجال الفتوى هو الفقه فقط إذ حاول بعض الناس تصوير فتوى شلتوت، رحمه الله، على أنها اعتراف بالمذهب الإمامي كاملا، أعني بعقائده وفقهه وحديثه وأخباره.. أي بمجموعه. وهذا خطأ، وربما كان تلبيسا مقصودا من بعضهم. والشيخ عالم كان يعرف ما يقوله، ونص جوابه يتعلق بالتعبد على الفقه الإمامي، لا أقل ولا أكثر. يقول القرضاوي: «فتوى شلتوت لم تتدخل في قضايا العقائد والأصول، التي فيها الخلاف الحقيقي بين السنة والشيعة، مثل قضية الإمامة والأئمة ومنزلتهم وعصمتهم وعلمهم بالغيب، ومنزلتهم التي لم يصل إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل، ومثل عقيدتهم في الصحابة، وغير ذلك مما يعتقدونه من أصل دينهم، وقد يُكفرون -أو على الأقل يكفِّر بعضهم- من لم يؤمن به». هل توجد فتوى شيعية مقابلة لفتوى شلتوت؟ مع ذلك، في رأيي هذه الأمور التي سبق ذكرها ليست شديدة الأهمية. وما أظن أن شلتوتا تسرع في فتواه، ولا أن القمي «خدعه»، ولا أن الفتوى خطأ من كل وجه. المشكلة الكبرى في فتوى الشيخ أن الإمامية لم يقابلوها بفتوى مماثلة، ولا بأي شيء. يقول الأستاذ عمارة: «رغم أن هذه الفتوى قد وجدت صدى عظيما وواسعا ومستمرا في الدوائر الشيعية، ورفعت من مقام الشيخ شلتوت في هذه الدوائر، حتى لقد تم الاحتفال به وبآية الله البروجردي في طهران عام 2001م.. ولقد ترجم الشيعة فتواه هذه إلى مختلف اللغات، إلا أنه لم تصدر فتوى مناظرة لها من أي مرجع من مراجع الشيعة، ولم يُفت واحد من هؤلاء العلماء الأعلام بجواز تعبد وتعامل المسلم الشيعي وفق فقه المذاهب الفقهية السنية، حتى يكون التقريب متبادلا بين الأطراف المتعددة، وليس من طرف واحد لحساب الطرف الثاني». ويعبر القرضاوي أيضا عن هذا الامتعاض السني من الموقف الإمامي، فيقول: «لم نر من الشيعة من جزى الحسنة بالحسنة، ومن ردّ التحية بأحسن منها أو بمثلها، فلم يصدر مرجع شيعي -في منزلة شلتوت من أهل السنة- في قم أو النجف: فتوى تجيز لأتباعهم التعبد بمذاهب أهل السنة! على أنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك». ويرى العراقي الكاتب أن السبب في عدم صور فتوى مماثلة عن الإمامية، هو «اعتقاد بحرمة الاجتهاد في مقابل أئمة أهل البيت المعصومين الذين يستوحون علمهم من الله».. «لكنني أرى أنه لو كان للقوم إرادة فعلية في هذا المجال لاجتهدوا أيضا في بعض الاعتقادات، أو لاكتشفوا طريقة ما للاعتراف بأهل السنة.. أما عدم فعل أي شيء، ولا تقديم أي شيء، ثم التغني بعد ذلك بالتقريب، والمطالبة بالمزيد المزيد، «حرصا» على الوحدة، و»حبّا» في الدين والأمة.. فهل هذا إلا تقريب السنة إلى الشيعة، كما رأى ذلك الرافضون لفكرة التقريب أصلا؟ وهذه القضية من أكبر العوائق اليوم في طريق التأليف بين الفرق. وقد خبرتُ ذلك، إذ أفكر أحيانا في آراء تقريبية، فتخطر لي أفكار واقتراحات و»تنازلات».. يمكن طرحها على بساط البحث والمناقشة للتوحيد أو التقريب بين الطوائف. ولكنني أعود فأذكر فتوى شلتوت، وكيف لم تقابل بمثلها، ولم نسمع من علماء الشيعة خطوة ما تعبر عن حسن النيّة، وصفاء المودة.. لذلك أحجم عن ذكر ما عندي، وأحتفظ به لنفسي، فلم أضع آرائي جميعا في هذا الكتاب. والذي أرجحه أن القمي كان يتوقع أن تصدر فتوى مماثلة عن المراجع الشيعية، أو بعضها، فتتضمن جواز التعبد بالمذاهب السنية لكل مسلم، حتى لو كان إماميا.. أو أقول: كان القمي ينتظر أي شيء آخر من علماء مذهبه، ولو لم يكن فتوى كفتوى شلتوت، لكن موقفا يحمل بعض الاعتراف بمذهب أهل السنة والجماعة. لكن شيئا من ذلك لم يحدث، لا قليلا ولا كثيرا. ويظهر لي أن هذا أحبط الشيخ القمي كثيرا، ثم جاءت الثورة فتغيّرت المعادلة جذريا، ويبدو أن القمي لم يكن على وفاق تام مع رجال الثورة وعلمائها، وأن اختلافا مّا وقع بينه وبينهم حول منهج التقريب وفلسفته. وغادر القمي القاهرة إلى باريس، وهناك صدمته سيارة -في حادث غامض- فتوفي في صيف سنة 1990 إلى رحمة الله تعالى. وأنا شخصيا أعتقد أن الرجل كان مخلصا في دعوته، وأن الغيرة على الإسلام هي دافعه، فلا تقية ولا خديعة، كما حاول بعض أهل السنة تصوير جهده في التقريب.. وأعتقد في الحساب النهائي أن فتوى الشيخ شلتوت أفادت عملية التآلف بين فرق الأمة، وإن أفادت الإمامية أكثر. وعندي في هذا دافع آخر، أعني في اعتبار عمل الشيخ شلتوت اجتهادا سائغا ونظرا محتملا، خلاصته أنه علينا -نحن أهل السنة- أن نقوم بما نراه صوابا في الموضوع، بغض النظر عن ردود الإمامية، وعن رد التحية بمثلها، أو عدم ردها أصلا. فهذا مبدأ وقضية، لا مسألة حساب ومحاسبة. يتبع...