المؤسسات التعليمية الإسلامية كانت منارات الهداية، ومراكز إشعاع علمي حضاري منذ وجدت هذه المؤسسات، وإذا كانت كل الحواضر الإسلامية القديمة تتوفر على كثير من هذه المؤسسات التي تولت طيلة قرون تزويد المجتمعات الإسلامية شرقا وغربا، بما كانت في حاجة إليه، من الأطر في مختلف القطاعات العلمية والإدارية والقضائية والتشريعية فنبغ من بين أساطين هذه المؤسسات وفي رحابها علماء أعلام في كل فروع المعرفة المتداولة في حينها، ولم يكن أولئك العلماء والطلاب يجدون غضاضة في دراسة العلوم التي تبعد عن مجال العبادات والتبتل داخل المساجد وفي أبهائها، كما لم يكن هناك ما يمنع الأساتذة باختلاف توجهاتهم من الوجود في نفس الرحاب وبين الجدران التي تجمع الجميع لأن الحرية شعار الجميع ولان العلوم كلها إنما هي فروض كفاية على الجميع ان يسد ثغرة من ثغور المعرفة ويجب أن لا يوتي العلم من الثغرة التي يوجد عليها اما الاختلاف في الرأي وفي المنحى الفكري فأمر لا يمكنه ان يحول دون صاحب رأي من إبداء رأيه والدفاع عنه بالجدال في الدرس وبالتأليف والكتابة على اختلاف فنونها، فالنثر والشعر والقصة والمقامات والمقالة والمحاورة والمناظرة كلها أدوات للأخذ والعطاء وللنقد وللدفاع ويبقى بعد ذلك للناس أن يحكموا والبقاء للأفيد والأصلح. ومن خلال هذا عرفت الثقافة الإسلامية التنوع الخلاق، وعرفت الغنى وعرفت التعدد، بل ان عالما أو فقيها قد يجمع بين الكثير من أنواع الفنون والعلوم فيكون مشاركا، وهذا هو الغالب الأعم في عهد الازدهار العلمي والفكري. لقد كان هذا الازدهار أمرا غير قابل للشك أو التردد في الاعتراف والإقرار به كما لا يمكن إنكار دور ما أصبح يعرف اليوم بالجامعات الإسلامية العتيقة التي لا يزال بعضها قائما وشامخا. فهو يواصل مسيرته ودوره القديم الجديد في ميدان المعرفة وتكوين الأجيال نعم، هذه المؤسسات الجامعية أصابها ما أصاب المجتمعات الإسلامية من التخلف وضيق الأفق والجمود العلمي والفكري وفي العصور المختلفة وما أفضى إلى ابتلاء الأمة الإسلامية بالحكم الأجنبي في الفترة الاستعمارية البغيضة. وإذ كانت هذه المؤسسات العلمية الجامعية قائمة على ما بقي من الثقافة الإسلامية التي ترى الجهاد فرض عين بمداهمة العدو وهجومه على أرض الإسلام فإن هذه المؤسسات تصدت لهجمة الاستعمار وكانت وكان أغلب علمائها وطلبتها في مقدمة الجهاد والمجاهدين، لذلك فإن الاستعمار بعد تمكنه كان أول ما توجه إليه هو هذه المعاهد الجامعية لتصفية الحساب معها وبقيت الحرب سجالا بين الاثنين، وإذ تمكنت المؤسسات من تجنيد الشعب والانتصار في المعركة المادية فإن ما يملكه الاستعمار من وسائل الدس والكيد مكنه من وضع أسس ولبنات إنهاء دور هذه المؤسسات في الأمة عن طريق وضع و فرض مناهجه ولغته ومحاولة تغريب الأمة ثقافة وعلما وحضارة ولو من حيث الشكل أما العمق فنحن نرى ونشاهد ما يشن من حرب ضروس حتى لا تمتلك الأمة الإسلامية التكنولوجية الحديثة. وقد كانت المؤسسات البارزة في العالم الإسلامي السني مؤسسات ثلاث أقدمها جامعة القرويين بفاس وكلية الزيتونة بتونس، والأزهر بالقاهرة، وهي المؤسسات التي حاولت بعد التحرير أن تنهض بدورها وكان معها في هذه المحاولة الكثير من المخلصين من أبنائها وغيرهم، ولكنها لم تكد تفلح في هذا الدور وبقيت بين مد وجزر بين الموت والحياة على تفاوت في ذلك ونعني بالحياة هنا حياة الدور والفاعلية، دور هذه الجامعات وفاعليتها داخل المجتمع وهو ما لم تتمكن من القيام به حتى الآن إذ صادفتها عراقيل قوية ومنبطات كثيرة حالت دونها واستعادة الدور الذي كانت تقوم به. وإذا كانت هذه المؤسسات لا يزال أمرها قائما من حيث الشكل فإنما يرجع ذلك إلى خوف المسؤولين من ردود الفعل الشعبية إذا تم الإجهاز عليها بصفة نهائية. وكما قلت فإن بقاء هذه المؤسسات وتحركها يتفاوت وهو نسبي في جميع الحالات. وحسب الشخصية التي توكل إليها مهمة القيام على هذه المؤسسة أو تلك.. ومما لاشك فيه إن المؤسسة التي لا تزال تقوم بدور ملحوظ ومغبوط الآن هي الأزهر، أما القرويين والزيتونة فأمرهما لا يكاد يذكر في دنيا الناس اليوم فالدور بالنسبة اليها باهت أو منعدم. ولذلك يتوجه الناس اليوم ليس في العالم الإسلامي فقط ولكن خارج هذا العالم كذلك إلى لأزهر والى مشيخة الأزهر وعن دور هذه المشيخة يتحدث الناس هذه الأيام فيما يجد من قضايا ومشاكل ولنترك ما يجري فقد نعود إليه في وقت آخر ونغتنم هذه الفرصة للحديث عن شيخ من شيوخ الأزهر وعالم رباني من علماء الإسلام والمسلمين. لقد كان يوم الخامس عشر من ذي القعدة 1397 السابع عشر من أكتوبر 1978 اليوم الذي أسلم فيه هذا العالم الروح إلى بارئها وبين هذا التاريخ وميلاد الرجل عام 1910 ثمانية وستون عاما، مرحلة عامرة بالأعمال زاخرة بالأحداث الجسام على مستوى العالم الإسلامي ولعب الرجل دورا مهما في الحياة الثقافية والعلمية على مستوى العالم الإسلامي والثقافة الإنسانية بصفة عامة. وبحكم ارتباطاته العلمية والسلوكية فقد كان شخصية ملحوظة وفاعلة في الحياة الثقافية والفكرية. إذ برز في مجال التدريس والتأليف والمناظرة والمحاضرة وكان إنسانا ذا مواقف واضحة، ومبادئ ثابتة غير قابلة المساومة، ولا يزال الناس إلى اليوم يقارنون بين مواقفه ومواقف غيره من المشايخ والعلماء لقد كان واحدا من أولئك العلماء الذين يستطيعون ان يقولوا رأيهم بصراحة ووضوح للمسؤولين دون ان يكون ذلك ناتجا عن رغبة في الحكم أو السلطة أو المعارضة للمعارضة أو المواجهة للمواجهة ولكنه كان يرى رأيه الذي يعرضه على ميزان الحق حسب قناعته ثم يتخذ القرار بناءا على ما يترجح لديه سواء في مجالي الفكر والفلسفة التي اشتغل بها تأليفا وترجمة وتدريسا أو في مجال التصوف وهو ما خصص له الجزء الأكبر من حياته العلمية والعملية أو في المجال الفقهي الذي كتب فيه بأسلوب خاص وطريقة خاصة. وهو قد أسندت إليه مهام إدارية وسياسية في المجال التدريسي والديني فكان أمينا عاما لمجمع البحوث الإسلامية وعميد للكلية كما أسندت إليه مهمة وزارة الأوقاف وتولى مشيخة الأزهر من مارس 1973 إلى حين وفاته. ولقد كان لمقالاته الافتتاحية ولأبحاثه في مجلة الأزهر وغيرها دور فاعل في تنشيط الصحوة الإسلامية في السبعينيات من القرن الماضي فهو الذي تزعم عملية وضع وتقنين مشروع دستور إسلامي وقانون مدني مستمد من الفقه الإسلامي وتقدم بذلك للمسؤولين في مصر، كما دافع باستمرار عن قضايا الإسلام والمسلمين ونذكر له هنا موقفا مهما اتخذه مع بداية المواجهة التي فتحها الإخوان الجزائريون على المغرب أثناء استعادته لأقاليمه الجنوبية فقد بادر إلى بعث برقية إلى الرئيس السادات حينذاك طلب منه فيها التدخل لإصلاح ذات البين كما ابرق إلى كل من جلالة الملك الحسن الثاني والى الرئيس الجزائري هواري بمدين يطلب فيها منهما حقن الدماء ودرء الشقاق وأسبابه. وبقدر ما كان يغار على قضايا الإسلام والمسلمين ويسعى جهده بحكم مسؤوليته القيادية في مؤسسة إسلامية وكان كذلك لا يقبل النيل أو المس بالمكانة العلمية والتاريخية للأزهر ورجاله، فقد ذكر مؤرخو حياة الشيخ حادثة طريفة ومهمة مكنتني شخصيا من الإجابة على سؤال كان لدي ذلك أن الرجل رأيته في بعض الصور في الخمسينيات من القرن الماضي وبداية الستينات وهو حليق الوجه وبلباس «إفرنجي» كما يقال فإذا بي أجده مرة أخرى بلباس الأزهري ولحيته وسمة الأزهري الواضح ولهذا الأمر قصة يرويها مؤرخو حياته كما قلت ذلك ان الرجل سمع خطبة للرئيس جمال عبد الناصر يتهكم فيها على الأزهر وعلمائه بقوله »إنهم يفتون الفتوى من أجل ديك يأكلونه« فغضب الشيخ الذي يشعر بالمهانة التي لحقت بالأزهر فما كان منه إلا انه خلع البذلة ولبس الزي الأزهري وطالب زملاءه بذلك فاستجابوا تحديا للزعيم ورفع المهانة عن الأزهر وعلمائه ومن يقدر غير الشيخ على تحدي الزعيم وهو من هو في ذلك العهد، ومن هم على نحو شجاعته مثل الشيخ الغزالي والشيخ خالد محمد خالد. وشبيه بهذا الموقف الموقف الذي اتخذه تجاه تعديل قانون الأحوال الشخصية وفق اقتراح زوجة الرئيس السادات وكذلك موقفه من تعديل قانون الأزهر وانتزاع اختصاصات الشيخ الذي قدم استقالته بسببه فبادر المسئولون إلى سحب القرار. كما سحبوا قبل ذلك تعديل قانون الأحوال الشخصية كان الرجل إذن رجل مواقف ورجل مبادئ و قيم فلم يستطع أحد أن يتجرأ على الأزهر أو على الشريعة إذ يعرف أن هناك شيخا من طراز المشايخ الأولين الذين يرون الدفاع عن الحق أهم من المنصب والجاه والمال. لقد كان رحمه الله من العلماء الذين يقدرون رجال العلم والجهاد نلحظ ذلك فيما كتبه عن كثير من العلماء والصوفية والفقهاء، كما نلحظ إلمامه بحياة القادة والزعماء المعاصرين في العالم الإسلامي وهو بحكم زيارته للمغرب وعلاقته مع لزعيم علال الفاسي كتب في الذكرى الأربعين لوفاة الزعيم علال نبذة أحاط فيها بمواقف الزعيم وبالمشاكل التي تصدى لها الزعيم علال رحمه الله وتذكيرا بذلك نورد الفقرات التالية من تلك الكلمة التأبينية قال: ... ولكنه لم يلق سلاحه (يعني الزعيم علال) ولم يأنس إلى الدعة والهدوء، فان الاستقلال لم يكن عنده غاية بل كان وسيلة لنهضة الشعب وتقدمه وازدهاره واستعادة أمجاده، ومشاركته في موكب الحضارة العالمية بنصيب موفور. وأدرك بتفكيره العميق أن الشعب قد تخلص من الاحتلال العسكري ولكنه لم يتخلص من الاحتلال الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، ورآه يتعرض لغزوات متلاحقة من الموجات الإلحادية والانحلالية، ورأى اللغة الفرنسية تحاول أن تقضي على اللغة العربية لنسف العقيدة الإسلامية، والكرامة العربية، والعزة الوطنية، وحينئذ أنشأ عددا كبيرا من المدارس الوطنية، وأعلن معركة التعريب تعريب اللغة والثقافة والعقيدة والتفكير لأن اللغة هي قوام العقيدة وشعار الوطنية ورمز الحضارة، وهي التيار القوي الذي يسرى في كيان الشعب فيربطه ثقافيا واجتماعيا بأوثق الروابط وآمن العلاقات. ولم يكتف بهذا بل أنشأ عدة صحف ومجلات عربية، وعقد المؤتمرات، وألف الجمعيات وأنشأ الندوات، وحشد معه في معركة التعريب كبار العلماء والزعماء والأدباء، فأعاد للعربية مكانتها السامية ومنزلتها العالية، ووقف أمام التيارات الإلحادية موقف السد المنيع، يرد غزواتها ، ويصد موجاتها، ويظهر زيفها، ونجح في هذا إلى حد بعيد؟ ولما ولى وزارة الدولة للشؤون الإسلامية حرص كل الحرص على إحياء التراث الإسلامي المجيد، وأنشأ صحيفة »الحسنى« وهي مجلة أسبوعية إسلامية وأعد لها كل وسائل النجاح، ودعا للكتابة فيها أبرز الكتاب، فأدت رسالتها الإسلامية في جذب الشباب إلى العقيدة الإسلامية الصحيحة وحمايته من الغزوات الإلحادية التي تدفقت موجاتها على البلاد الإسلامية من حيث تدري ولا تدري وما كاد يترك وزارة الشؤون الإسلامية حتى كفت المجلة عن الصدور. ولقد حشدت البهائية ومن وراءها من القوى الخفية والظاهرة حشدت كل قواها لنتخذ من المغرب منطلقا لنشر مبادئها التخريبية فوقف لها هذا الزعيم الكريم بالمرصاد حتى قضى عليها الفضاء الأخير. إننا نلاحظ أن استعراض الشيخ عبد الحليم محمود لجزء من نضال الزعيم علال الفاسي في مرحلة ما بعد الاستقلال يتمحور في ثلاث نقط رئيسية هي: الدفاع عن العقيدة، وعن اللغة، واستعادة المؤسسة العلمية الإسلامية مكانتها، ولعل هذه العناصر لا تزال في حاجة إلى شخصيات في مستوى علال وعبد الحليم محمود رحمهما الله.