قد وضعت آلية مهمة من آليات تفعيل القانون المذكور وترجمت ما ورد فيه إلى حيز الواقع وإعطاء مزيد من الاعتبار لهذا التعليم الذي ظل قائما في أغلب الأحيان على المبادرات الأهلية، و ظل خريجوه يجدون صعوبة في الاندماج في الحياة العامة. وتعرض الورقة الآتية لاختصاصات هذا التعليم ومساره التاريخي، ومقترحات تروم سبل تفعيله بما يعيد له دوره في النسيج الثقافي المغربي. ماذا نعني بالتعليم العتيق؟ يمتد وجود التعليم العتيق بالمغرب لأزيد من اثني عشر قرنا من الزمن وظل طيلة هذه المدة الزمنية ضامنا لوحدته الاجتماعية والثقافية، وركيزة لاستمرار وجوده العلمي والحضاري، إلى أن جاءت الحماية، التي ستجد فيه جدارا عازلا أمام طموحاتها الاستعمارية، فسعت إلى تحجيمه ووضعه في الكراسي الخلفية. ورغم ذلك حفظت مدارس التعليم العتيق ومنهاالكتاتيب القرآنية هوية المغرب الإسلامية، وتخرج علماء وطنيون وهبوا أنفسهم فداء للوطن، ولكن الإدارة الاستعمارية خططت لتهميشه وإقصاء خريجيه من مراكز القرار. وما تزال سير ذاتية لمفكرين معاصرين تحتفظ بدور هذا التعليم في ترسيخ مبادئ الإسلام في نفوسهم (عبد الله العروي في رواية أوراق، عابد الجابري..)، هذا بغض النظر عن رواد المدرسة الوطنية الأولى التي يمثلها الشيوخ: محمد بن داود، علال الفاسي، المختار السوسي، العربي العلوي، تقي الدين الهلالي... كما أن أساتذة جامعيين بالمغرب وأطرا عليا هم خريجو جامعة القرويين وابن يوسف ومعهد تارودانت. وتظل بصمات هذا التعليم لاصقة في مراحل طفولتهم الأولى، تطبع حياتهم اليوم، كما تطبع ما خلفوه من آثار، وكثيرا ما يجد المطلع على سير بعضهم: أنه حفظ القرآن وعمره لا يتجاوز العشرين. ولقد كان التدريس في هذا التعليم يتم في المدارس العتيقة، والكتاتيب القرآنية بالمساجد وعلى الحصير... وهو خلاف التعليم الأصيل الذي يعد فرعا من التعليم العمومي العصري، والذي قدر له أن يظل في فترات طويلة مجرد وسيلة لاستيعاب ما سماه الأستاذ محمد يتيم بمخلفات الهدر المدرسي للتعليم العمومي (التجديد 194 سنة 2001). ويمتاز هذا التعليم بخواص عديدة منها: متانة المعارف التي يقدمها وشموليتها لقطاعات علمية متنوعة. ارتباطه بالحس التعبدي إنفاقا وتعلما وتعليما بصرف النظر عن العوائد المادية. الجمع بين العلم والعمل في خدمة قضايا الأمة، إذ يكون الخريج منه عالما وقاضيا ومفتيا وخطيبا ومشاركا في الحياة بكل شعبها، ينشر دين الله عقيدة وشريعة، ويربي الناس في ما يهم دنياهم وأخراهم (تراجع رسالة المعاهد ع الخامس لماي 1998). وعليه يكون هذا النوع من التعليم تعليما شرعيا، وإسلاميا من حيث مواد التدريس به (القرآن الكريم والسنة النبوية، واللغة)، وإدارة (متطوعون، محسنون) وإنفاقا (الوقف الإسلامي بشموله). مراحل تاريخية من حياة التعليم العتيق تسارعت وتيرة التعامل مع هذا النوع من التعليم، بعد الاستقلال، وإذا كانت الحماية قد حاولت تهميشه من توجيه الحياة المغربية في مختلف مناحيها، فإن حكومات ما بعد الاستقلال، وإن كان يحمد لها حرصها على طبع إي إصلاح تعليمي بالطابع الإسلامي في مرجعيته العامة، إلا أن بعضها كان متوجسا من هذا التعليم، إما خوفا مما قد يثيره من مشاكل بخصوص اختيارات سياسية أوعلمية معينة، فحافظت على نظرة الحماية له. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، عرف هذا التعليم اهتماما متجددا خصوصا، إذ جاءت في صياغة ميثاق التربية والتكوين إشارة هامة له في معرض الحديث عن التعليم الأصيل في الصفحة 41 من الميثاق، ومما جاء فيها: تحدث مدارس نظامية للتعليم الأصيل من المدرسة الأولية إلى التعليم الثانوي مع العناية بالكتاتيب القرآنية والمدارس العتيقة وتطويرها وإيجاد الجسور لها مع مؤسسات التعليم العام. وعند صدور القانون المنظم للتعليم العتيق، (01 .13 الذي أصبح نافذا بظهير شريف وتم نشره بالجريدة الرسمية بتاريخ 28 ذي القعدة 1422 الموافق ل 11 فبراير 2002) نظمت وزارة الأوقاف والشون الإسلامية حفلا دينيا حضره علماء ومهتمون يوم الأربعاء 27 مارس من سنة 2002 احتفاء بالقانون. وطالب الدكتور عبد الكبير المدغري وقتها العلماء بإعداد مقترحات للنهوض بهذا التعليم، معتبرا الحدث فرصة لا يجب تضييعها، وقال مخاطبا العلماء: >فإما أن تهبوا لبناء هذا التعليم الإسلامي في الحواضر والبوادي بناء يحقق تطلعات بلادنا بكل تجرد وأمانة ومسؤولية وإيمان، وإما ستكون عواقب التفريط، لاقدر الله وخيمة. (التجديد عدد: 324 و326). أما الدكتور محمد يسف، الأمين العام لجمعية علماء خريجي دار الحديث الحسنية والكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى، فقد أشار إلى أن قيام التعليم العتيق لا يعفي وزارة التربية الوطنية من المهام المنوطة بها وفي شأن اختصاصات وتنظيم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية نشر بالجريدة الرسمية في عددها 5172 (25 دجتبر 2003) في المادة الرابعة عشر والخامسة عشر اختصاصات مديرية التعليم العتيق، وتشمل هذه المديرية ثلاثة أقسام وهي قسم التخطيط والتكوين وقسم البرامج والمناهج، وقسم تسيير المؤسسات التابعة وتنضوي تحت كل قسم عدة مصالح وظيفية، كما يتم تنسيق أنشطتها مع الكتابة العامة للمجلس العلمي الأعلى. وبذلك يكون التعليم العتيق قد دخل خطواته العملية على أرض الواقع، لكن مهتمين يرون أن هذه الخطوة رغم إنصافها لهذا التعليم تحتاج إلى إمكانات مالية وتشريعية تيسر اندماج هذا النوع من التعليم، إذ أن المادة 25 من القانون المنظم لهذا التعليم تحدد للمؤسسات القائمة أجل أربع سنوات ابتداءا من نشر القانون بالجريدة الرسمية لتقديم تصريح بوجودها لتتمكن من مزاولة مهامها. اقتراحات التفعيل لا شك أن عائدات التعليم العتيق على المجتمع المغربي كبيرة، فهو يكفل انفتاحا على العلوم والثقافات الأخرى بسلاح الهوية الإسلامية والتي لم يستطع التعليم العصري القيام بها، رغم المجهودات المبذولة. ورغم أن القانون المنظم لهذا التعليم جاء بإيجابيات كثيرة منها: تنظيمه للأطوار التربوية المعمول بها في الأنظمة الحديثة، ورفع الحرمان الذي عاناه خريجو هذا التعليم في شأن ولوج سلك الوظيفة العمومية،كما أنه سيمكنهم من فرصة التأطير التربوي الحديث والاستفادة من التقنيات الحديثة، و الرعاية الصحية إسوة بمؤسسات التعليم العمومي فإن الحاجة ماسة إلى: -التعجيل بتعيين الأطر الإدارية الساهرة على تنزيل بنود القانون والحرص على تفويض تسيير مؤسساته لمختصين بهذا التعليم، وعدم الارتهان فقط إلى الهاجس الإداري في الموضوع، ومنح إدارتها لمن لا يراعي خصوصيتها الحضارية. تشجيع الإنفاق على التعليم العتيق استفادة من نفسية المجتمع المغربي في الوقف على مجالات التعليم. إفساح المجال للجمعيات الخاصة بمؤسسات التعليم العتيق، لتكون محاورا ومساعدا في تجاوز العراقيل التي تنتج عن التطبيق العملي للقانون. دمج تمويل المؤسسات العتيقة المحتاجة في الميزانية العامة للدولة وعدم حصرها في الوزارة المكلفة (وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية). استثمار الطاقات المتخرجة في مجالاتها (القضائية والإفتائية والخطابية والإرشادية...) على المستوى المحلي والعالمي، وتيسير سبل ذلك بعيدا عن أية محسوبية أو زبونية. وهذا لا يمكن الدفع به إلا بالتنسيق بين المهتمين والجهات المعنية والاستفادة من تجارب دول إسلامية في شأن التعليم الشرعي (مصر مثلا) مع تجاوز الهفوات، التي اعترت هذه التجارب