دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب: إشكاليات وآفاق
نشر في هسبريس يوم 15 - 10 - 2010

كنت ولا زلت أكثر تواضعا في الحجاج واللجاج المذاهبي منذ أدركت أن إرادة الحسم لا يمكن أن تتعدى الاختيارات الشخصية ، ومنذ أدركت أن علم الكلام هذا العلم الذي ليس علما إلا تسامحا لم يكن وظيفته النظر بل حراسة عقائد العوام كما البذرقة حارس أغراض الحجيج من السراق العرب كما وصفه ذات مرّة أبي حامد الغزّالي. وأنكر من ذلك أن يسعى البعض للحديث عن المذاهب المخالفة فيما هو متولّد داخل مذهب عقدي تشكلت عليه عواطفه ونشأت عليه أفكاره وهو إذ يسعى سعيه يلتف ويدور فقط وفقط ليرجّح مذهبه ببلادة، إذ حيث لم يكن الفقه المقارن تكوينه ولا الإنصاف المذاهبي ثقافته. إن حكاية المذاهب لا حدود لها. ولا يوجد من داخلها من يملك الحديث إلاّ عن نفسه. لأن معالجة الآخر بالدليل يقتضي المناظرة. وللمناظرة قواعد وآداب أفسدتها العصبية والتغلّب. لذا يبدو من تبلد الطرق التي تمضي في موضوعيتها بعيدا لتلتف ماطاب لها وتلتقط من آراء المخالف ما لا يقع في المعتبر من رأيه الملزم له ، كالماشي في حقل ألغام بلا خارطة الطريق؛ أن تزعم لها المزاعم التي تفضحها نتائجها المعروفة مسبقا. والموقف الموضوعي هو أن يدافع المرء عن رأيه دون أن يزعم أنه سيقدم تفسيرا فضوليا وأستاذيا عن مذهب قرأه في كتب الخصوم ، وقمشه من مجدّفي كتاب الملل والنحل. فلكلّ الحق في ترجيح رأيه لكن لا حق له في أن ينصب نفسه شارحا لمدرسة أخرى إلاّ أن يلمّ بها إلمام علمائها لا إلمام خصومها. ونحن هنا لسنا في وارد الترجيح لأن كل متمذهب يرجح مذهبه ولا تنتظر منه أمرا آخر. وتلك هي حكاية تهافت الموضوعيين المغشوشين الذين ينتهون إلى ما ينتهي إليه الغلاة المتطرفون. إنها حكاية الفطام المتعذّر على عبّاد المذاهب لا عبّاد الله.
إن من أبلد الدعاوى التي صادفتها قوم يزعمون أنهم فوق المذاهب هكذا يجب أن نصدقهم حتى أن أجرأهم يرى أنه ليس سنيا ولا شيعيا بينما المطلوب منه أن يكون سنيا وشيعيا لأنهما قيمتين في الإسلام . وحينما يصبح كل حزب بما لديهم فرحون ، فعلى أصحاب الضمائر أن لا ينسوا أنه لا مخرج لتعدد المذاهب في الإسلام. وأن المطلوب أن لا ننسى أن الإسلام هدف أسمى. وبأننا أمة واحدة لا يرى غير ذلك إلا شذّاذ الآفاق ممن لا يهمهم ضعف الأمة وخورها . إن جماعة المسلمين هي مجموع كيانهم الذي يسلك على الاعتدال لا على التطرف أيّا كان مذهبه. وهذا ما يهمنا في هذه المقالة.
في دلالة مفهوم التقريب
ربما كان للسياق التاريخي الذي انبثقت منه فكرة التقريب مدخلية في تحديد المفهوم والسياسة التي سار عليهما المشروع المذكور. لقد طرحت الفكرة في بدايتها بعد أن راكم العالم الإسلامي الكثير من عوامل الفرقة والصراع الداخلي الذي بلغ حد الشطط. ففكرة كهذه كانت أشبه بمغامرة من حيث أنها تحتاج إلى وقت كافي لبناء الثقة أولا. فهناك حصون منيعة ومدن محروسة بنتها المدارس الإسلامية المختلفة ، بالشكل الذي جعلها محكومة بحساسية الانتماء العصباني والانزواء السلبي ، أفقد العقل المسلم إمكانية الاستفادة من جملة المكتسبات التي تحققت للمسلمين. فكان الجميع على قدر من الحذر اتجاه الآخر الذي يرى فيه مهددا لكيانه أو مستأصلا لوجوده. ربما استفاد هؤلاء التقريبيون من فشل الدعوات المثالية للوحدة بين المسلمين بالمعنى الذي لم يتحقق حتى في القرن الأول الهجري ، فاكتفوا بالدعوة إلى التقريب ، باعتباره دعوى ممكنة وواقعية للتخفيف من وطأة الخلاف الذي خرج من إطاره المعقول إلى دائرة الشطط والعصبية والانفعال. أما من ناحية أخرى فلأنها دعوى انطلقت من المحيط الشيعي ، كمبادرة من السيد القمي ورعاية من المرجع الديني الأكبر يومها السيد البروجردي. والحق يقال أن فكرة الوحدة والتقارب كانت قلقا لا يزال يشغل أذهان العلماء ولا يزال مطروحا بإلحاح في جدول أعمال أكثر مصلحي القرن التاسع عشر في العالمين العربي والإسلامي . فهي حاضرة بقوة في فكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وكذا في فكر مالك بن نبي في دعوته للوحدة ، بل إلى كومنولث إسلامي ، متحدثا يومها عن خط طنجة غربا و جاكرتا شرقا. وهي الدعوة نفسها التي شغلت ذهن الشهيدين الشيخ حسن البنا ، و سيد قطب ونظرائهما. وحينما نجح السيد القمي في تحقيق هذا الحلم بتأسيس دار التقريب بالقاهرة، أمكنه حينئذ أن يؤسس قاعدة علمائية جمعت خيرة علماء العالم الإسلامي ، وانخرط في مشروعها كما تبنى نشاطها علماء من الأزهر والنجف وقم ولبنان، كانت ثمرتها بادية في مجلة رسالة التقريب، التي عكست نقاشا بناء وتواصلا خفف من وطأة الخلاف وأوجد ثقافة تواصلية بين أقطاب العالم الإسلامي ، وانتهى الأمر بالفتوى الشهيرة لشيخ الأزهر آنذاك ، المرحوم شلتوت الذي أقر تعليم المذهب الجعفري ضمن جملة المذاهب الإسلامية التي تدرس في الأزهر ، معتبرا إياه مذهبا من مذاهب السنة. وأما من الجهة الأخرى ، فقط انطلقت تقاليد جديدة على مستوى البحث والدراسة الفقهية المقارنة، وهو من أهم الدروس التي كان يلح عليها المرحوم السيد تقي الحكيم في كلية الفقه بالنجف، وقد تولى رحمه الله بنفسه تدريس هذه المادة التي جمعت بعد ذلك في كتابه القيم : "الأصول العامة للفقه المقارن" ، وهو لا يزال مقررا في الحوزة العلمية. إذا أدركنا السياق الذي انطلقت منه هذه المبادرة ، وجوّ الريبة الذي يمكن أن يحيط بهكذا مبادرة ، فإن الحد الأدنى المطلوب هو التقارب. وفي نظري أن هذا المفهوم إذا أخذنا بعين الاعتبار المعطيات التي ذكرناها ، يكون محققا للغرض. لأن الهدف منه هو تنظيف الأجواء وبناء الثقة لانطلاق وحدة إسلامية في مدلولها السياسي العام. وهذا المقدار يظل على قدر من الأهمية على كل حال.
التقريب كاحتواء للأزمات
لاشك في وجود أزمة حصد منها المسلمون كل هذه الفظاعات التي ألمت بهم . ولعله من المفارقة أن التقدم الحديث لم يخفف من وطأة هذه العصبيات ، التي جعلتنا أمة لا زالت ترعى على ثقافة مؤرخي الملل والنحل وتحيّزاتهم . وكان أجدر بالدولة الحديثة أن تهذب هذه النزعات والأهواء ، وتحرض العقل الإسلامي على الرشد الكافي كي يعرف مصلحته في عالم تضاعفت مشكلاته ، وبات مطلب الوحدة والتقارب ، ليس عامل تقدم فحسب ، بل هو ضرورة لتحقيق منعة الأمة أمام ما يتهددها اليوم من صنوف الاستباحة. كما من شأنه تحقيق الاستقرار الداخلي للأقطار العربية والإسلامية وحسن تدبيرها للحقل الديني ضمن سياسة تحترم فيها جغرافيا السيادة المذهبية بالجملة دون أن تصبح هذه السلطة المذاهبية مانعة من التواصل مع الأشكال المذاهبية الأخرى في الجملة. أي ينبغي التفريق بين السيادة التاريخية والرمزية في إطار العموم ، دون أن تتحول هذه السيادة في تفاصيل السلوك والاعتقاد الفردي ، من حيث أن ذلك لم يعد اليوم ممكنا، حيث متى ما نزلنا إلى الشارع سنجد الناس تؤمن بالإسلام عموما، وأحيانا لا تؤمن بكثير مما هو داخل في ضرورات المذهب. فليس من الواقعي الحديث عن مذاهب إسلامية لما يصبح الموضوع هو المجتمع في حراكه السوسيو ثقافي ، فهنا لا يكون مجتمع السيادة المذهبية الشافعية أو الحنفية أو الجعفرية أو المالكية يؤطر سلوكه بمقتضى المذهب الكلامي أو حتى الفقهي لهذه المدرسة أو تلك. وذلك لسبب بسيط ، هو أن المجتمع ليس بالجملة واقفا على كبرى وصغرى الجدل الكلامي والفلسفي لأصول الاعتقاد ، ولا هو مجتمع متشرعة في الجملة كما لا يخفى. بل المجتمع بالجملة يدين للإسلام كطقوس وكسلوك سوسيو ثقافي في الأعم الأغلب. لذا قبّما ندرك بأن معظم المجتمعات العربية والإسلامية هي مجتمعات شيعية وسنية من الناحية السوسيو ثقافية. فأقول لك إن بعض سلوكيات المجتمع الشيعي أيضا ليست كلها طبقا لمقررات المدرسة الإمامية ، فليس كل سلوك شيعي هو منضبط بعلم الكلام الشيعي ، وليس كل تصرف يصدر منه هو منضبط بمقتضى الأحكام الفروعية للفقه الإمامي. ما تأتي به العادات وتكشف عنه مجمل التكيّفات الثقافية المحلية مع المعتقدات يفوق ما تقرره الشرائع . اليوم عندنا في المغرب ظاهرة القبض في الصلاة. وهي حتما ليست راجحة في الفقه المالكي ، لكنها هي ظاهرة اليوم ، حيث لم يكن لها أثر إلا في نهاية السبعينيات وتحديدا بداية الثمانينيات في المغرب. ويمكن ملاحظة ذلك في عموم العالم الإسلامي. إننا اجتماعيا لا نعرف ضرورات المذهب الفلاني إلا عند ما نكون أمام نازلة ما ، حيث يتطلب تدخل المؤسسة المؤطرة بالمذهب الفلاني. فحينما نريد الزواج ، فإننا نجري العقد داخل مؤسسة مالكية وبشروط العقد الصحيح على مقتضى المذهب المالكي أو غيره في البلدان الأخرى كل حسب المذهب الفقهي الذي ارتضته سياساته . لكن لا المذهب المالكي ولا الشافعي ولا غيرهما من المذاهب الأخرى ، أيا كان شأنه ، لن يكون قرينا يشاركنا كل مطرح من مطارح حياتنا الشخصية؛ أو بتعبير آخر لن يكون مذهب ما من المذاهب يمارس دور الرقيب الشمولي المؤطر لكل حياة الناس في الصغيرة والكبيرة، فيما ظهر منها وما بطن. أعتقد أن الناس اليوم تدين بأشياء كثيرة ، وبأن هناك معنى جديدا للسيادة المذاهبية التي تدخل في نسيج سياسة حفظ النظام العام ، هو معنى السيادة العامة المؤسسية المتعلقة بالأحكام التي تنظم الأحوال الشخصية ويدبر بها الوقف والمساجد باعتبارها من الوقف الذي يقتضي متوليا و يتطلب تدبيرا مؤسسيا للدولة. وليست أطرا للتفكير ومذاهب لتقييد النظر. فهي مذاهب فقهية تهتم بالفروع ولا علاقة لها بأصول الاعتقاد إلا إذا قلنا بأن المجتمع الفلاني هو أشعري وذاك تيمي سلفي وذاك إمامي. وحتى هذا المستوى لم تعد المذاهب الكلامية حاضرة بتفاصيلها في المجال السوسيو ثقافي الإسلامي . بل حتى في إطار النخبة ، لم يعد الخلاف يحضر بثقله الدوغمائي. فالأشعرية تطورت تطورا كبيرا جعلها تقترب في كثير من مقولاتها من مدرسة الاعتزال. والمالكية التي كانت كما رآه ابن خلدون غير اجتهادية لمناسبتها للبيئة البدوية في الحجاز والتي رفضت في الأندلس الأشعرية وكل صنوف الكلام عادت وأصبحت أشعرية العقيدة . و علم الكلام الإمامي منذ هشام بن الحكم وحتى الخواجة نصير الدين الطوسي ، تارة يلتقي مع المعتزلة وتارة يلتقي مع الأشاعرة وتارة يقف منزلة وسط بين أقصى الاعتزال وأقصى الأشعرية وتارة يقترب من أهل الحديث وتارة يترك الجميع ليحتضن الرأي الفلسفي والعرفاني . ومع دخول الفلسفة إلى علم الكلام الإمامي ، أصبح الكثير من الآراء محط اختلاف بين الإمامية أنفسهم كما لو تعلق الأمر بعلاقة الطلب بالإرادة حيث وقف السيد البروجاردي موقف الأشاعرة مخالفا الأصحاب من الإمامية مقتربا من رأي الأشعرية ، في حين وقف آخرون كالآخوند موقفا قريبا من أهل الحديث رغم أنه كبير متفلسفة علم أصول الفقه الإمامي، من خلال قوله بالجبر على طريقة الفلاسفة معبرا عن عجز في الخوض في ذلك ومتوقفا في إدراك سر الشقاوة والسعادة الذاتيتين ، حيث قال في الكفاية تعبيرا عن هذا الانسداد : "هنا انكسر القلم" . وكذلك رأى صدر المتألهين الشيرازي في آلية الحكمة المتعالية وقواعدها ما تتم به المصالحة بين الأشعري والمعتزلي بخصوص إشكالية الكلام. وقبل ذلك وقف الإمامية موقفا ثالثا في مسألة القول بخلق القرآن. فهو ، كلام الله كما ذهب الحنابلة لكنه في الوقت ذاته ليس قديما وهو ما يوافق مذهب المعتزلة. وقد وقف الأسترابادي عميد الأخبارية الإمامية موقف بن تيمية وابن الصلاح ضد المنطق والفلسفة والاجتهاد... وفي الفقه اقترب ابن تيمية من الفقه الجعفري بخصوص اعتبار الطلاق بالثلاث مخالفا بذلك الجمهور. وأغرب ما سمعته أن البعض يتحدث عن أطر تحدد الأصول والفروع والسلوك معا لمجتمع بكامله ، كأن يقال هذا حنفي أو حنبلي أو شافعي أو مالكي المذهب، أشعري أو ماتريدي العقيدة ، جنيدي أو جيلاني السلوك؟! وفضلا عن أن الحديث بهذه الدوغمائية الغالية في مجال سوسيو ثقافي غير مقيد بالأطر المذكورة لأنه مجتمع غير متشرع ، واعتقاده قائم على جماع ثقافته الشعبية التي تحتل الأسطورة القسم الأكبر منها كما أنه لا يسلك إلا بموجب ما تتيحه التداولية الاجتماعية، نقول فضلا عن كونها دعوة متطرفة وأحيانا تافهة وساذجة وغير شرعية ولا حتى سوسيولوجية ، فإنها دعوة مغالطة ومنافقه أيضا برسم المزايدة السياسوية المفضوحة. لا سيما إذا صدرت عن جهة لم تختبر فروق المدارس الكلامية ولا استأنست بأشكال السلوك ولا وقفت على دقيق الخلاف الفروعي. سمعت أحدا يقول ذلك بإصرار وهو لا يصلي فكيف يكون مالكيا، ونصابا فكيف يكون أشعريا و فاسد الضمير لا يؤمن بأي قيمة أخلاقية فكيف يكون جنيديا وتاجر بورصة. لكنه في مواقع نفش الريش السياسوي، يتمشدق بهذه الشعارات التي لا يفقه لها مداخل ولا مخارج ، مما يؤكد على ميوعة وعدم جدية هكذا خطاب . كان الأشعري شافعي المذهب لا مالكيه ، وكان مالك يكفر المتكلمين مطلقا. وكان الجنيد البغدادي من أصول إيرانية. وكل هذا ليس عيبا ولا مشكلة ، ولكن حينما يصبح مجالا للمزايدة من قبل فئات دينية تختفي وراء قرارات الدولة وعناوينها السياسية وتتسرب إلى مؤسساتها الدينية وتستعمل وسائلها الإعلامية التي هي ملكا عمومية لتصفية حسابات عصبية، يصبح الأمر مدعاة للتّأمل. من هنا تعين أن نحدد ما معنى أن يكون مجتمع ما شافعيا أو حنفيا أو مالكيا أو جعفريا : أي أن يكون كذلك من حيث السلطة المرجعية لمذهب فقهي ما في تدبير معاملاته وعقوده وأوقافه ومجمل عمومات أحكامه ومؤسساته المؤطرة لحقله الديني . فهذا أمر مهم وضروري المحافظة عليه بالجملة ولا إشكال في ذلك. فلا ننسى أن النظرة الواحدية المسطحة للمجتمع لا تقدم تصورا حقيقيا لتعقد الظاهرة الاجتماعية ولا لحقيقة الشريعة والإيمان. فالمجتمعات متحركة باتجاه النموذج المفتوح. وأفراد المجتمع أمام مقتضيات الشريعة ليسوا سواء استغراقا ، بل دائرة الالتزام بالتكاليف تتفاوت من الأدنى إلى الأعلى. أي هناك تراجع لنموذج مجتمع المتشرعة. وأيضا الإيمان هو مسألة متفاوتة وقضية ، كما يقول الفلاسفة، مشككة . فلا التشرع مستوى واحد ولا الاعتقاد مستوى واحد. من هنا أعتقد أننا مطالبون ليس بتغيير معتقداتنا ، بل المطلوب إعادة إنتاج فهم وتصور متقدم لهذه المعتقدات تزحزحها عن تحكم النمط القديم غير المنتج اليوم والذي يجعلها من ناحية أخرى تصطدم بحقيقة التطور الاجتماعي والحضاري وشروطه المتجددة وإكراهاته ورهاناته التي يتعين وضعها في الحسبان. إن الاستئناس بمختلف المذاهب الفقهية بين المسلمين يكون أحيانا أمرا مؤكدا عندما يصبح ذلك ضرورة، كالاستفادة من بعض الآراء الفقهية التي قد تمثل مخرجا فقهيا عند الاقتضاء كما حصل في النقاش الذي شهدته مدونة الأحوال الشخصية في مصر وفي المغرب مثلا أو على مستوى الاستئناس بما من شأنه تخليص المدارس الفقهية من بعض المآزق ذات الطابع التاريخي والسياسي . بمعنى آخر لا بد من تأمين خط ذهاب وإياب بين المذاهب الإسلامية عند الاقتضاء. لو أنك فككت كل مشكلات العالم الإسلامي لوقفت عند هذا المرض الذي يسمى الصراع الطائفي وحروب التأويل بين المسلمين. وهي المعارك التي خاضها المسلمون فيما بينهم في عز المصائب التي أحدقت بهم كما لا يخفى. هناك أزمة كبيرة كان من المفترض احتواؤها بسياسة شاملة ومواقف وإرادات مختلفة. ولم تكن مبادرة التقريب في القاهرة سوى تلك الشمعة التي أشعلها أنصار الوحدة في ظلام من العبثية الطائفية التي أصبحت جزءا من التشكيل الذهني للمسلمين بوعي أو بدون وعي ، ويعيد إنتاجها بعض الوسائط التي كان أحرى بها أن تنتج الوعي بخطورة بث الفرقة ، بدل الانخراط في ملحمة تفعيل العصبيات الطائفية في العالم الإسلامي. لقد أشعل التقريبيون هذه الشمعة في ظلام كثيف مدلهم ، لكنهم كانوا أكثر جدية في رسم نقطة نور ضاوية في لوح أسود ، زادته الوقائع المتعاقبة اسودادا مضاعفا إلى حد الغم . ولا أقول أننا بمنأى عن السقوط في حمأة هذا اللون من الصناعة الطائفية. فكلنا سقط أو قد يسقط فيها قليلا أو كثيرا ، لكن المعول عليه هو أن لا تأخذنا العزة بالإثم أو نصرّ على الموقف الخاطئ. فلا يد من حدّ أدنى من التنازل عن جهلنا في النّظر وجاهليتنا في العمل. فالجهل الأول ينتج انسدادات معرفية والجهل الثاني ينتج عصبيات في السلوك.
بين مفهوم التقريب ومفهوم التعايش
الوحدة إن أريد بها الذوبان التام في هذا الطرف أو ذاك ، هي مطلب ليس فقط أنه بالغ الغلوّ في طوباويته ، بل هو مطلب بالغ السذاجة أيضا. والذين يتصورون الوحدة والتقريب على هذا النحو هم في الأصل لا يريدونها . هم بالأحرى يريدون أن يروا أنفسهم فقط ولا يروا المختلف. وهذه الرؤية بالطبع ، هي رؤية مخالفة لطبيعة الأشياء القائمة على التنوع والاختلاف. لو كان منع الاختلاف في الاسلام ممكنا ، لكان. وحينما انطلق الخلاف من قمقمه منذ أوّل تجربة سياسية بعد رحيل صاحب الدعوة(ص) ، فلا مجال للقضاء عليه. لأن القضاء عليه مستحيلا لتمكنه من التراث ، ولأن المؤهّل لفعله غير موجود لأن الجميع متمذهب . فالدعوة للإسلام بلا مذاهب دعوة ساذجة لا سيما حينما ينطق بها متمذهبون يرجحون مذاهبهم على غيرها ، لكن المطلوب الواقعي كيف نجعل من هذه المذاهب مدارس إسلامية حقّا تجعل هدفها هو الإسلام وتنتج من داخل هذه العلاقة معرفة وسلوكا ينظم علاقتها بالمختلف. فأنت ترى أن ما يسمى بالاجتهاد داخل المذهب يفرز اتجاهات مختلفة داخل المذهب الواحد نفسه، كما أن لاختلاف الزمان والمكان واختلاف الأمزجة والأذواق والخبرات ما ينعكس على هذه المذاهب والمدارس. فهذا أمر طبيعي ، فرضه واقع اتساع رقعة الإسلام وكونيته. ولكن هذا النوع من الوحدة إن أريد بها التنازل من طرف على ما بدا له من أصول اعتقاده أو من أصول الاستنباط عنده، فهي عكس المطلوب. لذا التقارب كان مخرجا يمنح كل المدارس والمذاهب الإسلامية حرية التمسك بأصولها، ولكن يفرض عليها جهدا لمزيد من المرونة والبحث عمّا هو مشترك وتفعيله في اتجاه مزيد من التقارب. والتعايش، هذا المفهوم السياسي الحديث هو الأرضية السياسية والاجتماعية والثقافية التي تسمح بتحقق هذا النوع من التقارب. فالتقارب ينمو في جو التعايش والاحتكاك ، وليس في جو العزلة والانزواء. أما الوحدة إن أريد بها وحدة المسلمين بالمعنى السياسي والحضاري والاجتماعي، فهذا عين المطلوب. بل من الممكن انطلاق صيغة لوحدة مركبة تنطلق من أرضية مشتركة، يمكن الاشتغال عليها بتكثيف عناصر المشترك وتضييق دائرة المختلف، باحتوائها بمزيد من النظر والصرامة في الاجتهاد والسبر. لنتسامح في توسيع دائرة المشترك، ونكون صارمين في تفكيك وتضييق دائرة المختلف. هذه هي قاعدة الوحدة. والتي هي نتيجة طبيعية للتقريب وقبل ذلك أرضية صلبة للتعايش.
خلاف أم اختلاف؟
التقريب معناه ، أن لا يكون الخلاف في الاجتهاد والتأويل سببا في الاختلاف في الموقف من العمومات التي تؤسس لوحدة الأمة ووحدة مصيرها. وهي تعني بمعنى آخر عدم الشطط في الخلاف، بأن لا يصبح قاعدة صلبة للفتن الضارية. وهذا النوع من الاختلاف السعيد هو ما أمضته سيرة العقلاء فضلا عن الشارع المقدس الذي أبى على الأمة كل صنوف الشطط . فهي أمة مطالبة بالتواسط في الأمور وعدم الغلو . وأما أن يكون الخلاف رحمة، فلا أعتقد أن منطوق الخبر يفيد هذا المعنى، حيث حصل خطأ كبير نظرا لاستعمال مشترك لفظي هو الاختلاف. وحيثما حصل هذا النوع من الاستعمال، تعين النظر إلى السياق أو تدخل من هو واقف على المعنى ، كما فسر ذلك أحد أئمة أهل البيت، لما قال بأن معنى الاختلاف هنا هو الاختلاف إلى العلماء بمعنى الرجوع إليهم طلبا للعلم والمعرفة ، من باب "اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون". وهذا المعنى يمكننا الوصول إليه من خلال تأويل الكتاب، حيث أن واحدة من غاية بعثة الأنبياء هو التعليم والتزكية. فلما كان الرسول ( ص ) هو الرحمة المهداة ، ورحمة للعالمين ، فواحدة من مصاديق الرحمة تعليمه للناس. فالعلم رحمة ، وقد سمى الاختلاف إلى العلماء رحمة ، من باب تسمية نتيجة الشيء بمقدمته ، وكم لهذا من نظير في لسان العرب. فالاختلاف إلى العلماء طريق تحصيل العلم. فالرحمة ثابتة بالاختلاف إلى العلماء وطلب العلم لا بالخلاف العلمي الذي هو بالجملة قد يكون كذلك وقد لا يكون. ثم لا وجه لتخصيص خلاف الأمة بالرحمة مادام الخلاف العلمي هو ثابت عموما في الأمة وأغيارها من الأمم . إن الخلاف لا مشروعية له إلاّ أن يستند إلى أدلة تجعل المتبني له قاطعا بخلافه. فهو من هذه الناحية مشروع ، لأنه خلاف علمي بالدليل . والتقريب ليس هدفه أن يصرف الفرقاء عما قطعوا به ، بل هدفه منع الشطط في الخلاف. وأن ثبوت القطع برأي المدعي ليس دليلا على حجية القطيعة مع المدعى عليه.
التقريب في زمن العصبيات والتطرف
أي أفق للتقريب بين المذاهب والوحدة بين المسلمين، في ظل تنامي التيارات والحساسيات الراديكالية في العالم العربي والإسلامي؟!
لا وجود لما يمنع من إمكانية التقريب. بل هذا هو المطلوب الشرعي والعقلائي. ووجود الحساسيات الراديكالية هو أمر وارد في كل جيل وفي كل مكان. وهي ظاهرة تتغذى على مواقف لا تلتقي مع سماحة الإسلام وسعة أفقه وقدرته على تهذيب النفوس والعصبيات. الحساسيات الراديكالية تتغذى على إكراهات ضيق الأفق وعدم النزول إلى واقع التعدد الذي يطبع المجتمعات الإنسانية. ومن شأن التقدم الاجتماعي أن يحاصر النزعة الراديكالية ، لأنها نشاز على منطق الحداثة ونشاز في دنيا التمدن القائمة على التسامح وثقافة العيش المشترك. الحساسيات الراديكالية هي نزعة أحفورية من بقايا العصر الجاهلي وعصور الظلام. والنهضة الحديثة وثقافة التنوير وصدمات الحداثة كل هذا من شأنه أن يلجم ويقمع هذا النزوع المرضي الذي يسمّى الحساسيات الراديكالية. ثم إن هناك ما يتطلب وقفة تأملية لم يلتفت المسلمون إلى ضرورتها ، وهي إعادة قراءة التاريخ الإسلامي في ضوء المعطيات التي يوجبها حاضرهم، وبالشامة التي أكسبتهم إياها معاصرتهم . فلا زلت أرى أن ثمة مغالطة كبيرة في العناوين التي أطلقتها المدارس والاتجاهات الإسلامية على نفسها. كيف يقال هذا شيعي وذاك سني ، وبأي معيار يتم هذا التقسيم العبثي للعناوين. فالشيعة: هذا عنوان سياسي. بينما السنة: هذا عنوان شرعي فقهي. وكان أحرى أن يقال ، إن هؤلاء شيعة علي وأولئك شيعة معاوية. أما السنة فإنها المصدر الثاني للتشريع ، وهي من حيث الاعتبار محل إجماع الطرفين. والقائل بعدم اعتبارها ناشز بموجب الإجماع المركب. أليست تلك دائرة مشتركة فرّطنا فيها وكانت أصلح أن تعمق التوافق بين المدرستين. فكيف يطلق عنوان سياسي على فرقة وعنوان فقهي على أخرى، فما محل النزاع بعد ارتفاع القيود الاحترازية والمخصصة وما هو الفصل الذي يميز هذه عن تلك مع غياب وحدة المقسم . فهذا الفصل أو التفريع لا هو منطقي ولا هو تاريخي؟! وعليه ، فإذا اتضح أن أغلب المسلمين اليوم يتعاطفون سياسيا مع علي بن أبي طالب في حربه ضد معاوية ، ويخطئون خصومه، أليس من الطبيعي أن نعتبرهم بهذا المعنى السياسي شيعة لعلي. وإذا كان الشيعة يؤمنون بأن السنة مصدرا ثانيا للتشريع ولهم مدونات أخبارية وعلم للدراية والرجال يجعلهم يردّون من الأخبار المروية في مدوناتهم ما يفوق ما يعجب منه خصومهم ، أليسوا من الناحية الشرعية هم سنة أيضا . لهذا قلت مرارا إن الأمة عموما هي سنية وشيعية في آن واحد ، مهما تمايزوا. ولا يبقى بعد ذلك إلا أن نتحدث عن مدارس مختلفة واجتهادات متنوعة ، فنقول هذا على مذهب الجمهور وذاك على مذهب أهل البيت. فتكون الوجهة هي الإسلام ، والطائفة هي الأمة على اختلاف مدارسها وتنوع اجتهاداتها. بل كيف ترانا نفاخر الأمم بأننا أمة مليارية ، في حين ترانا نتحدث ككانتونات طوائفية ومذاهبية برسم الفرقة والتشتت. في حين ، ليس التشتت أن نتنوع بل التشتت أن لا نستوعب التنوع!
التقريب؛ مسؤولية من؟
يبرز دور العلماء في العالم الإسلامي، وتحديدا علماء الدين الذين هم أكثر تأثيرا في هذا المجال. فخلف أكثر الدعوات التفريقية يوجد دور لداعية حتى لا نقول عالما ؛ لأن العلماء الحقيقين لا ينخرطون في الفتن. ومن هنا حق القول: إذا فسد العالِم فسد العالم. وليس دور العالم كافيا إلا إذا اندرج في عمل جمعي لتكثيف مساعي التقريب وتراكم خطاب التوافق وإبراز الأرضية المشتركة بين الفرقاء. وهذا بدوره غير كافي إذا لم ينتظم ضمن عمل مؤسسي ، سواء أكان في إطار حركة مستقلة من المجتمع المدني أم مؤسسات الدولة ، التي تملك إمكانيات هائلة للدفع برسالة التقريب إلى منتهاها. بهذا المعنى يكون للعلماء دور كبير لا محالة بمؤازرة كل الأطراف المعنية بالتقريب سواء المجتمع المدني أو مؤسسة الدولة. وتحدثت عن دور العلماء ، لأنهم المسؤولون عن كل أشكال الجهل بالخلاف. ذلك لأن أعلم الناس هو أعلمهم بخلاف الناس. إن أكثر ما تلوكه ألسنة الناس من جهل بالآخر هو نتيجة تجهيل أو استرخاء صادر من العلماء.فأمام هذا التهريج والتجديف ، يبرز دور العلماء ليقولوا كلمة حق ، حيث الساكت عن الحق شيطان أخرص. ولكن هذا لا ينفي بأن مسألة التقريب والوحدة إن قصر بها العلماء فهي تتوقف أيضا على إرادة سياسية حقيقية. ففي كل تاريخنا كانت السياسة هي من يفرق والسياسة هي من يجمع عند الاقتضاء.
حوار بين المذاهب قبل الحديث عن حوار بين الحضارات
تلك هي أم المفارقات. أن تكرم الغريب وتجافي جارك. وسيرة العقلاء قاضية بأن الأقربين أولى بالمعروف. والآخر نفسه لن يثق في خطاب التسامح الصادر عن هذا الطرف أو ذاك من المسلمين ، وهو يشاهد مظاهر العصبية التي تحكم العلاقة بين المسلمين . ولعله من عجائب الأمور أن تجد المسلمين يتناحرون ويزدادون فرقة في عز التحدي المحدق بوجودهم. فهم يقبلون بالهزائم المنكرة ولا يقبلون باللحمة والتقارب مهما تطلب الأمر، فيما هم يملؤون الدنيا ويشغلون الناس بالحوار والتقارب مع الأديان والثقافات المختلفة. وليس ذلك إلاّ مصداق آخر للعبثية التي يعيشها العالم الإسلامي وصناع قراره.
وحتى لو حدث التقريب في ظاهر الخطاب فإن يوميات التعايش تؤكد على أن التقارب لا يزال في طوره الجنيني ، لم يكد يرفع جبالا من العصبية الطائفية التي حلت محل العصبية القبلية. من هنا أعتقد أن ما من أحد يتحدث في حوار الثقافات ولم يتحرر من العقدة الطائفية إلا وهو كاذب بالأولوية القطعية ، لأن الحوار لن يكون أحسن مع البعيد إذا لم يكون حسنا مع القريب. ولا يمكن أن أكون محسنا معا الغريب إذا لم أكن عادلا مع القريب.
العصبيات الدينية الداخلية و الإكراهات الخارجية
كلا الأمرين سبب في تعزيز الفرقة والبعاد بين مذاهب الأمة التي كان يفترض أن تكون أمّة واحدة . لكن هذا لا يعني البتة أن الخارج دائما هو المسئول عن تردي أوضاعنا. فالعصبية واحدة من مظاهر القابلية للاستعمار كما كان يقول المرحوم مالك بن نبي. وبالعصبية نمكّن الخارج من استحكام السيطرة. ولا يخفى أن العصبية هي أم الآفات العربية ومصيبة عموم الشرق. ولو أنك تأملت جوهر المشكلات العربية ومضيت شوطا يسيرا في تحليلها ، لوجدت أن المشكل الطائفي هو في مقدمة المشاكل التي خربت العمران العربي . وهذا مرده أيضا إلى استفحال داء العصبية العضال . ولعله من الجنون أن نعتقد بقدرتنا على تغيير واقع الاختلاف بتكريس آليات الغلب التقليدية. فزمان الغلب والتجديف والاستئصال ولّى بلا رجعة. فلا ينفع إلا التدبير العقلاني لمشكلاتنا بما فيها مسألة الخلاف التي لا زالت ثقيلة على العقل العربي والإسلامي وعموم الشرق المهووس بثقافة اللون الواحد والذوق الواحد. إنها مشكلة الاستبداد وضيق الأفق وهشاشة الكيانات العربية والإسلامية التي لا زالت حتى اليوم عاجزة عن أن تبني دولتها المدنية . فالمشكلة مركبة ، وليس للخارج سوى أن يستفيد من جنون الداخل وحماقات بيتنا الداخلي الذي يشكو من سوء التدبير. إن الخارج بالفعل حاضر في هذه الفتن. وهو اليوم يسعى جهده ليجعلها سلاحه الفتّاك من دون حاجة إلى جبوش جرارة لإضعاف العالم الإسلامي. هناك في الغرب إعجاب بالهندوسية والبودية يقابله نظرة عدائية للمعتقدات الإسلامية . وهذا طبيعي جدا. حيث ليس ثمة عدو حقيقي لمثل تلك المعتقدات ، لأنها لا تقدم تصورا يزاحم الغرب في مشروعه الحضاري. هذه المعتقدات والأديان على تنوعها لا تشكل تحديا حضاريا للغرب المسيحي اليهودي الذي يعيش اليوم صراعا ساخنا مع العالم العربي والإسلامي. الإسلام بغض النظر عن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها ولا يزال بعض أتباعه، هو بالجملة دين حيوي. وليس أمام أعدائه سوى أن يمضوا إلى أقصى حدود التجديف والتنميط والتخويف منه لتكريس الحاجز النفسي بين الإسلام وأبناء الغرب الذين باتوا يتساقطون بالجملة أمام حيويته ومنطقه والآفاق التي يتيحها للمنتمين إليه. وقد يكون من الخطأ أن يعتقد بعض المتطرفين الإسلاميين أن ظاهرة إسلام الآحاد من الغربيين بعد الأحداث الأخيرة، دليلا على صحة اختياراتهم. والحق أنه كان أحرى أن يقال ، بأن الكثير من الغربيين يقدمون على تبني الإسلام رغم تلك الصورة النمطية التي يتواطأ في تثبيتها المتطرفون من الغرب ومن العالم الإسلامي معا. وذلك لأن جزءا من جاذبية الإسلام ظلت محفوظة خلف بشاعة الصورة التي أضفاها عليه أعداؤه وأبناءه المتطرفون. مشكلة الإسلام هي فضلا عن المحتوى الحضاري والحيوي لتعاليمه ، هو المجال الجيو سياسي الذي يحتله العرب والمسلمون. إنها قصة النفط وقصة إسرائيل في نهاية المطاف. وبهذا المعنى ، فإن الإسلام يشكل عقدة تاريخية وحضارية لكثير من المتطرفين الغربيين الذين لا زالوا يعيشون على أوهام الحرب الصليبية . مع أنني أعتقد أن حربا صليبية لم تعد إلا حكاية أحفورية في أذهان محدودة جدا. ولن تكون هناك حرب من هذا القبيل ممكنة إلا بالمعنى الذي تحصل فيه إبادة كيانات بالجملة وهذا أمر مستحيل. فالحرب الصليبية معناها الحرب النووية العظمى ، لأن الحسم فيها لن يكون إلا بمثل هذه الحرب. والحرب النووية العظمى ليست حلا بل هي كارثة على الجميع. إن الحديث عن حرب صليبية هو مجاز يحرف الأنظار عن الاستراتيجيات الكبرى التي تستهدف الهيمنة الاقتصادية والحضارية. وهي من بقايا التعبيرات الكلاسيكية لغرب فقد كل إمكانيات خوض حرب دينية.
المسلمون و الصورة النمطية السائدة عنهم
مع اعتقادي بأن الصورة النمطية عن المسلمين في عين الآخر يتحملها الاثنان معا، كل بحسبه ، إلا أنني أعتقد بأن للمسلمين النصيب الأهم ، من حيث أنهم منذ تاريخ طويل قدموا أبشع صورة عن إسلامهم ، في السلوك الفردي والجماعي على السواء. فداء المكابرة لا يزال يستولي على الوجدان المسلم ، ولا أحد يملك الإنصات إلى الآخر كي يتعرف على حقيقته. وبدل أن يستند المسلمون في تشخيص صورتهم مرآويا ، اكتفوا بالتّواهم النرجسي . يعتقدون أن مجرد المكابرة والممانعة على التخلف والجهل كافي لتصحيح الصورة وتغييرها لدى الآخر. وحينما أتحدث عن الآخر ، أعني تحديدا الشعوب الغربية وليس بالضرورة المتخصصين في صناعة الصورة النمطية وأنصار الإسلاموفوبيا من ذوي النزعات السياسية والتصنيفية المعروفة. أعني هذه الشعوب التي كفّت منذ تاريخ طويل أن تكون شعوبا صليبية أو متآمرة ، بل هي شعوب غارقة في المغالطة التي ينتجها إعلام لا يمثل كل النزاهة وإن كان يتحلى بتقنية عالية ومتقدمة. لقد غدا الإعلام في الغرب صناعة تعيد إنتاج الثقافة نفسها ، والأنماط نفسها عن نفسها وعن الآخر . هذا هو الآخر المعني في كلامنا ، لأنه بالفعل يجهل الصورة الحقيقية للإسلام ، ويزداد جهلا يوما بعد يوم نتيجة عجز المسلمين عن تقديم صورة صحيحة عن أنفسهم ، لأنهم لا يزالون يجهلون الآخر وثقافته وذوقه وطبيعة ومنطق رؤيته للأشياء. إن أدنى احتكاك بضحايا الصورة النمطية هذه يؤكد على تقصير المسلمين الذين لا يقدمون صورة مشرفة عن إسلامهم ، وإذا فعلوا تحدثوا عن تعاليم مجردة وفصلوا بينها وبين ممارستهم ، وإذا نجحوا في هذا النوع من الثرثرة فإنهم عاجزون عن عرض أفكارهم بالصورة المعقولة.
آليات التقريب بين المذاهب الإسلامية
آليات التقريب والوحدة تشمل كل النواحي والقطاعات؛ فهي تربوية ومعرفية وسياسية.. اجتماعية واقتصادية وثقافية.. على أن للسياسة دورا بارزا، من حيث أن السياسة هي الجهاز المحدد لكل مدخل من هذه المداخل. ولا ننسى أن السياسة لعبت دورا رئيسا في هذا المجال. حيث الصراع في منشئه كان سياسيا ثم سرعان ما انعكس سلبا على الخلاف العلمي. لقد ورثنا هذا الصراع بنمطيته العصبانية والقبلية. وهو ما يجعل الوضع في غاية السفه في عصرنا الذي أصبح يجد معاييره الحضارية في التسامح والعيش المشترك والقبول بالآخر وثقافة الحوار والتواصل. من هذا المنطلق أعتقد أن تقدم المجتمع كفيل بتبديد هذا الشكل من العصبيات، لأن المجتمع المتقدم هو بالضرورة مجتمع مفتوح! إذن فهي آلية سياسية من حيث هي مسئولة عن إعداد المناخ الصحي للتقارب البناء. وهي تربوية لأنها معنية بإعداد الإنسان لتقبل الآخر والتخلق في التواصل معه ومحاورته ، وهي معرفية لأن ثمة الكثير الكثير من المغالطات التي لا ينهض بها دليل وهي من جملة ما حاكه هذا الطرف ضد ذاك. وأعتقد أن المهمة المعرفية قاضية بفضح تلك المغالطات والصورة النمطية التي زادت المسلمين فرقة وحرمتهم من أسباب الوحدة المنشودة والتقارب المتوخى.
آفاق التقريب بين المذاهب
إنّ الذي يجري الآن في إطار مؤتمرات التقريب والوحدة ، يؤكد على إصرار طائفة من الأمة على الوحدة بين المسلمين. وهو إصرار اجتاز تحديات لا تخفى على مطلع. على أنه كان من المفترض أن يتطور الأداء والخطاب. أي الخروج من لغة الإنشاء إلى لغة الأجرأة والتدابير العلمية والعملية. وأعتقد أن ما يرسم آفاق التقريب هو واقع التقدم الذي تشهده المجتمعات الإسلامية، حيث التحولات التي تجري على صعيد سلم الأولويات والأطر المؤثرة وبؤر الاهتمام وتغير الديناميات ، كل هذا من شأنه أن يحاصر العصبيات ويهذب الحساسيات ويجعل قضية التقريب والوحدة على أرضية المواطنة ومفهوم الأمة ، واتساع دائرة المشترك الحضاري والإنساني وما تتيحه العمومات الإسلامية ، أمرا واجب الوجود في المستقبل المنظور. إنها قضية نضج اجتماعي وحضاري وقيمي. ثم لا يخفى أن ندرة المردودية التي خلفتها سنين من العمل التقريبي ، لا تحجب الأهمية النفسية والروحية التي ترطب الأجواء وتذكر بهذه الفريضة الغائبة. مع أنني ألاحظ أيضا أن مؤتمرات التقريب اليوم لم تعد تنتج أكثر من مهرجان خطابي ، تحضره نفس الوجوه ونفس الأفكار ، ولا يكاد يتقدم بفكر جديد وفقه حيوي يخرجه من كونه مجرد تظاهرة روتينية ومناسبة للإنشاء الوحدوي والتقريبي ، والاستناد إلى الذهنية الشللية التي تجعل مشاريعنا لا تقوم على دراسات ممأسسة تمأسسا علميا لا يد للعفوية فيه ولا للحسابات الضيقة. فهذه ضريبة المشاريع التي لا تقوم على عمق تفكير وتخطيط. من هنا تلاحظ أن كل عام أنت مع موعد مع نفس الوجوه ونفس الخطاب. فإذا لم تستطع مشاريعنا ومؤتمراتنا من إحداث تحول جذري في المنظور وتعمق استراتيجيتها ، فإن الحالة الموسمية الروتينية سوف تقتل حيوية المشروع ، فلا يتحقق المراد إلا إنشاء. مع أنني أولي أهمية كبير لجدل الواقع ولتلك الجنود المجندة من أهل التقريب والوحدويين الذين ينتجون ما يفيد الأمة أكثر من بعض الإنشاءات التي تسطح الإشكال وتبسط الحلول . وهم للأسف لا تستوعبهم مشاريع التقريب ولا حتى تعرفهم. وأعتقد أن واحدة من آفاق التقريب هو تعزيز الاشتغال على القرآن الكريم وإعادة المركزية له وللتأويل. فالتأويل بالمعنى الذي نفهم منه صيرورة الإحكام للمتشابه بالعرض المستدام على القرآن ، كفيل بتصحيح منظورنا للسنة أيضا التي هي محط الكثير من الاختلاف. إن الأمة لن تقترب من بعضها ولا وسيلة لوحدتها إذا لم تعد إلى القرآن وتقرئن سنتها ، بحثا عن جامع صحيح للأمة . فالدنوّ من القرآن يعزز الروابط ويقلص التناقضات ويجعل الاختلاف بالتأويل أمرا مقبولا ومطلوبا. فلا نستنفد الجهد في تأويل السنة ، ما دامت السنة هي حصيلة هذا التأويل ، بل علينا استنفاذ الجهد في تأويل القرآن ، لأنه هو الأصل. ومثل هذه الرؤية وهذه الإستراتيجيا التأويلية تطرح جملة من الإشكاليات عملت في كتابي الأخير "الإسلام والحداثة" ، على توضيحها بما يكفي طلبا لوحدة الأمة على جامع موحد ، وفق آلية مقبولة بالوجدان لدى كافة المسلمين. أي إذا كان القرآن هو محل اتفاق المسلمين ، فلما لا يجعلونه منطلقا ومركزا لوحدتهم . وإذا قالوا : كيف ذلك ومن يملك تأويل القرآن وما إليها من تعلّلات ، قلنا بأن الأمر أيسر لمن أراد ، وهو ما حللناه في الكتاب المذكور تحت عنوان: أزمة نص أم أزمة تأويل.
المسلمون أولى بالكونية والعالمية
قام الغرب بكل ما منحه صفة العالمية ، فكان أمره ظاهرا في هذا المجال ، لأنه غالب ولأنه ممأسس. بينما ما لدينا من تعاليم هي محفوظات وأفكار محلقة في الفراغ. ولذا كان هذا القليل الساذج من التعاليم الموروثة في الغرب يصنع معجزات الحداثة الكبرى في أيامنا ، لأنها تتوسل بسلطة المؤسسة. ولا ينفع اليوم أن يقال إن الغرب يحترم الإنسان وحتى الحيوان بالجملة ، لكنه يقتل ويعذب الإنسان بالحروب . طالما أن الأمر يجري ضمن منطق مؤسسي. المسلمون يحاولون التمرد على سلطة الأزمنة، فهم يحاولون الخروج من الماضي والانخراط في الحداثة . غير أن ثمة مشكلات تعوقهم. وحضور الماضي في الوجدان الإسلامي هو حضور معقد لا يمكن الحديث عنه كنزعة ماضوية إلا إذا لم نلاحظ الشروط الاجتماعية والتاريخية التي يعيشها المسلمون. هم بالطبيعة عالميون، لأن دينهم هو رسالة للعالمين. لكنهم بحكم شروطهم المذكورة يجدون في الخصوصية ملاذا فرقا من الاندثار والانقراض، لأنهم يشعرون بالهشاشة. وهو خوف مرضي يذكيه إحساس مغشوش وفهم مغالط للهوية. لكن تقدم المسلمين من شأنه أن يخفف من وزر هذه الأحاسيس التي تنشأ وتترعرع في المجال المهزوم والمتخلف وفي شروط الانحطاط. إن أخلاقياتهم الممأسسة تظهر حتى في حال الاستعمار ، لذلك تحجب فظاعته ، بينما أخلاقياتنا غير الممأسسة وفوضانا العارمة تظهر حتى في الاستقلال ، ولذلك تحجب مشروعيتنا. لنحاول و نجرب أن نمأسس قيمنا ولو قليلا كي نرى آثارها بادية على الأرض!
قداسة الاجتهادات والآراء
إن هذه العبارة هي نفسها متجاوزة؛ فحينما نؤمن بالاجتهاد فلا مجال للحديث عن المقدس. المقدس هو ما ليس موضوعا لاجتهاد ونظر ، لأن عبارة كهذه إنما وردت في عصر الانسداد. وحينئذ لا موضوع لها. فتحقق ثمرتها هو في عصر الانفتاح العلمي. وهذا معناه أنك في عصر الإنسداد ، أي عصر الاجتهاد وطلب الظن بالأحكام ، يصبح حتى، ما يرد عن الرسول (ص) يوجب التحقق من صدوره أولا ثم الوقوف على المعنى المحتمل منه ثانيا. وحيثما ابتعدنا عن عصر الانفتاح ازدادت احتمالات المعنى كما لا يخفى. فتعين القول أن الاستثناء هنا هو بالجملة لا في الجملة. فما أتانا به الرسول اليوم هو بواسطة. ومع الواسطة يتعين إعمال النظر برد السنة إلى الكتاب طلبا للإحكام ، والنظر في المتن طلبا للمعنى المحتمل. والاحتمال هنا أصبح موضوعا للنصوص أيضا ، لأن شأنها شأن الواقع في دورانها بين الثبوت وعدمه. فالأصوليون حينما يحثوا في مسألة الظن والأصول والأمارات بحثوها على هامش تعذّر الحكم الواقعي. ثم أقول : إنه حينما يتعلق الأمر بالاجتهاد في الفروع ، فلا مجال للحديث عن قداسة الاجتهاد. وما يبدو تاريخيا تقديسا لبعض الآراء الاجتهادية، راجع إلى السلطة الروحية التي قد يتمتع بها هذا الفقيه أو ذاك. لكن لا مبرر يسند هذه القداسة. والحق أن مثل هذا النوع من التقديس لم يبتل به فقط فقه الجمهور بل حصل مثله في تاريخ الفقه الجعفري حيث قبل ورود ابن ادريس كان عمل الإمامة على فتاوى واجتهادات ما كان يعرف بشيخ الطائفة الطوسي. لقد أعاد الحلي روح الاجتهاد مجددا وكسر قداسة آراء الشيخ الطوسي ، وأعاد الحياة إلى حركة الاجتهاد. والحق يقال ، أن حركة الفقه اليوم تتجه هذه الوجهة في العالم الإسلامي. والمشكلات التي يفرضها التطور الاجتماعي والتاريخي تفرض انفتاحا على الاجتهاد. مثل ذلك حصل في مصر، كما حصل في المغرب مع انطلاق النقاش الذي أسفر عن مدونة الأسرة، ويحصل مثل ذلك في السعودية وفي إيران بمستويات مختلفة. فهذا الإحساس بدأ يجتاح العقل الفقهي الإسلامي المعاصر بكل مذاهبه ومدارسه ، وسيسفر ذلك لا محالة عن وجوه ومخارج متقدمة ، حيث لا مجال إلا أن تستمر عملية الاجتهاد ، التي هي صمام أمان تقدم المسلمين واستمراريتهم كمسلمين!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.