ذكريات مع المفكر العربي الراحل نصر حامد أبو زيد الباحث العنيد والمفكر الغلبان خلال مدة وجيزة من الزمان، هجم الموت على عدد من المفكرين والمثقفين والعلماء العرب. هل سيكون هذا العام يا ترى ، أليما على العرب وهو يودّعون فيه علماءهم ومثقفيهم دون حتى أن يتهيئوا لملأ فراغ قد يحدثه غياب مثقف هنا أو هناك أو لترميم ثلمة قد تنتج عن رحيل عالم من العلماء. ومهما كان منحى الشخص وذوقه، ومهما انقسمت حوله الآراء، فإنّ الجدل، وهو كيمياء تطور المعارف وآلة نضج التفكير، لا يقوم إلا بوجود الأطروحة ونقيضها. لا اعتراض على الموت ، فهو حق ؛ بل هي الحقيقة التي يعرفها الجميع ويغفل عنها الجميع ؛ لكن علاقتنا به يشكل مصدر كل المفاجآت. لا نبكي الموت ولا حتى نبكي الموتى بل نبكي و نحزن لرحيلهم بعيدا عنّا ونحزن للفراق وفقدان المؤانسة. فالموت يختبئ خلف حياة الإنسان نفسها ولا يفتأ يداعبه دون حتى أن يعلم بذلك. أفضل طريق لأن نكتسب المناعة من الدهشة من الموت أن نأنس به ولا نخافه بقدر خوفنا من الحياة نفسها حينما تكون مرتعا للظلم. ما أوحش قبر الحياة حينما تكون مظلمة وظالمة . لا ندري لم يفاجأ المرء بالموت وهو يدرك أن مسار الحياة يسلك باتجاهها حتما. ومع رسوخ هذه الحقيقة فوجئ الرأي العام في المجال العربي قبل شهرين بوفاة المفكر العربي محمد عابد الجابري في ظروف لم تكن متوقعة حتى من أقرب المقربين إليه. والأمر نفسه بالنسبة إلى زميل له هو نصر حامد أبو زيد. فقبل آيام فقط توفت المنية هذا المثقف الذي ظل مثار جدل على مدى التسعينيات من القرن المنصرم. توفي هو الآخر في ظروف أكثر مدعاة للمفاجأة. بعد عودته إلى مصر بأسبوعين كان قد علق به فيروس غريب من سفرة سابقة له؛ فيروس فشل الأطباء في التعرف عليه وبالتالي علاجه. قضى نصر حامد أبو زيد في التاسعة من صباح يوم الاثنين 5 يوليو بمستشفى زايد التخصصي، ودفن بمسقط رأسه. أي في الشهر نفسه الذي تمت فيه الولادة. فلقد رأى نصر حامد أبو زيد النور في العاشر من يوليو 1943م بقحافة بنواحي طنطا في عائلة ريفية فقيرة. وقد اكتفى بدبلوم المدارس الثانوية الصناعية تخصص اللاسلكي في 1960م بعد أن لم يتمكن من مواصلة الدراسة التي سيستأنفها بعد 11 سنة من العمل والكدح المهني في الهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية. حينها دخل جامعة القاهرة ليتخصص في الدراسات الإسلامية. تألق نصر حامد أبو زيد في مجاله وشغل مناصب في قطاع التربية والتعليم في مصر كما شغل أستاذ زائر خارج مصر في اليابان وكذا في آخر مشواره في جامعة ليدن بهولندا بعد أن غادر مصر تحت قرع طبول التكفير، كما نال من الجوائز ما هو مدرج في سيرته الذاتية. الملفت هنا أن كل النجاحات التي وفّق فيها نصر حامد أبو زيد في مساره العلمي والمهني، جاءت على إثر محاولة خصومه طرده من القاهرة شريدا مدحورا منفيا. لكنه رجع إليهم نجما من نجوم المطارحات الفكرية. لقد أرادوا أن يطردوا هذا الفكر من الجامعة المصرية لكنه عاد إليها من أوسع الأبواب وجعلوه يغزوا كل جامعات العالم. لم يعد يهم أن يمنع من قبل متشددين في الكويت من دخولها محاضرا، كما حدث معه في أيامه الأخيرة ؛ فلقد أمسى ذلك وصمة عار على خصوم اختاروا التهريج وأسلوب الضعفاء في مواجهة الفكر بالفكر. كتب عن النص والمعنى و التأويل وعن المرأة وعن الخطاب الديني وعن ابن عربي وعن السلطة وعن قضايا كثيرة مثله مثل سائر المثقفين العرب. كان لا بد أن يوجد للهرمينوتيكا رجل ينافح عنها منافحة أصحاب الفكر والتوجهات الأخرى عن آرائهم ويقدموا ما في جعبتهم . لم يكن المجال العربي قد منح هذا المنهج وهذا الاختيار أهمية كما منح إيّاها في بلاد أخرى. والذين مروا مرور الكرام على الهيرمينوتيكا ، لم يوفّوها حقها ، بقدر ما لامسوا ظهرا من ظهورها فيما ظل ولاءهم لغيرها في أيديولوجيات تتراوح بين الظواهرية وبين الماركسية وبين الوجودانية وما شابه. وفي حقل الدراسات الدينية ومقارنة الأديان وفهم الدين ومناهجه وسوسيولوجياه وسيكولوجياه لم نقف على أي من ذلك الاهتمام في مشهد إن كنت تريد الولع فيه بالفكر والمعارف ومناهج النظر والتفكير فعليك أن تحيد عن الوفاء للدين أو أن تحيد عن تطبيقها على الدين. كان أركون واحدا ممن تدلى بهذا المنهج من فوق رؤوس النخب دون أن يمنح أحد دعواه أي اهتمام كما لا أحد من تحت عالم القمر النخبوي أدرك دعوته؛ كيف نفهم الدين خارج أطره الأرتذكسية بعيدا عن معطيات التطور التاريخي لمعارف الإنسان والمجتمع. برزت الهيرمينوتيكا كمنهج في تفسير الكتاب المقدس انطلقت من داخل الدوائر البروتستانتية التي ابتغت إخضاع النص المقدس كما أي نص آخر تاريخي إلى نظرية مشتركة في التفسير. وقد تطور ذلك الجدل وخلف آراء ونظريات ومفاهيم لم يجرب لها العالم العربي نظيرا. ولعله من الغرابة أن الكثير من الإيرانيين ولعوا بهذا الفن وقدموا فيه أعمالا فاقت نصر حامد أبو زيد، ولم يحدث لهم ما حدث لنصر حامد أبو زيد وإن أثاروا ردّات فعل ذات طابع مناظراتي؛ لم يحكم عليهم بالردة ولا طلقت منهم زوجاتهم غصبا. إحدى أبرز الأسباب في نظري أن النقاش هناك أخذ منحى مقارعة الفكر بالفكر في الأعم الأغلب، فيما انحبست الكراهية داخل النفوس كل بحسبه ، إذ لا أحد يمنع أحد من أن يكره هذا الكفر ما لم يتعدى حدود الكراهية الشخصية. هذا فضلا عن أن الكثير من الآراء التي دان بها نصر أبو زيد لا تشكل في نظر أولئك طامة كبرى. بعض الآراء التي كفّروا بها نصر حامد أبو زيد تتنزل منزلة الاعتقاد الذي يعتقد به دراري الشيعة في إيران، نظير عدم اعتبار العدالة صفة قهرية لكل الصحابة أو مكانة العقل في التشريع أو نقذ التاريخ الإسلامي وهجاء مقاتله. لم يكن هذا رأيي في نصر حامد أبو زيد ضدّا في مشايخ السنة بل كان رأيي فيه ضد شيخ من الشيعة سعى إلى التشويه ، حينما قلت له : هؤلاء المثقفون الذين سردت أسماءهم هم ليسوا على رأي واحد بل هم عوالم كثيرة. قال لي الشيخ المذكور: هل تريدنا أن نأخذ من ابن عربي؟ قلت له : وما المشكل في ابن عربي؟ المسألة إذن لها علاقة بذهنية وتصور يريد أن يحاكم الآخر دون أن يتفهم دعواه. وحينما حاضرت يوما في إيران ، اكتشفت من بين الطلبة الحضور ، باحثا وهو رجل دين سبق وقدّم ماستر حول فكر نصر حامد أبو زيد. وحيث خصصنا وقتا للحديث عن هذا الأخير، سألته: وهل هو يدري أن باحثا إيرانيا قدم رسالة حول فكره، حتما هذا سيسره ؟ قال لي: لا ، هو لا يعرف وأنا لا أعرفه. قلت له سأفعل في أول اتصال به ؛ لكن للأسف توفي نصر حامد أبو زيد دون أن أخبره بذلك، وهو لا يعلم أن من الإيرانيين من اهتم بفكره وطارح حوله. وحتما هذا مجرد مثال ، فقد يكون هناك الكثير ممن طارح حوله. وعبّرت للباحث عن دهشتي ، حين قلت: إن هذا الرجل طريد في العالم العربي مصر لكنه موضع دراسة واهتمام في إيران. إن جزء كبيرا من مشكلة نصر حامد أبو زيد تكمن ليس في أنه ولع بهذا الفن ، بل لكونه انفتح على التراث الآخر من داخل التجربة العربية والإسلامية ، أي أنه لم يستسغ وجهة النظر الأشعرية والسلفية وغيرها ، وهام في التراث الصوفي والمعتزلي والشيعي واستخرج ما كان مسكوتا عنه مما يلتقي اليوم مع الخطاب العقلاني المعاصر أو ما كشفت عنه الأبحاث والدراسات اليوم. فالذين كفّروه فعلوا ذلك لأنه تخطى الممنوع داخل تراثنا لا لأنه تغرّب وكفى. وحينما يكفر عبد الصبور المصادر التي اعتمدها نصر حامد أبو زيد في التراث العربي والإسلامي مثل التراث المعتزلي والشيعي وابن عربي وما شابه ، يكون قد كفّر هؤلاء قبل أن يكفر نصر حامد أبو زيد. جاءت محاولة أو لنقل ثورة نصر حامد أبو زيد في السياق الطبيعي لورود الأفكار؛ لكنها في الزمان والمكان الخطأين، لأنها تحولت إلى مهاترات أيديولوجية جعلته يتمرد أكثر كما جعلت خصومه يفضلون إخصاء الفكر بدل السماع والمطارحة ومواجهة النظر بالنظر ليس لغايات كلامية كلاسيكية يراد منها الدفاع عن وجهات نظر مخصوصة بل من أجل تطوير الفكر وإنعاش العقل ، إذ العقول تنمو بالتجارب والحقائق تظهر بالمطارحات والمناظرات وضرب الرأي بالرأي. إنني لا زلت أنتظر فرصة لوضع فكر نصر حامد أبو زيد في ميزان النقد والخوض معه في تجربة نقدية لا هوادة فيها حتى وإن كان قد ودّعنا. ولكن من منطلق أن جدل الفكر هو ضرورة لتجدده. نعتقد أن الفكر الذي لا يجد معارضا لا يتطور؛ " ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" ، وأيضا لفسد الفكر وهو مصداق ذاك الفساد. فالنقد والمقارعة الفكرية تمنح العقل حيوية ونشاط. من هنا واجب منح كل الأفكار أهمية ومراعاتها في شحذ الفكر ، لأننا إذ نروم تطوير الفكر الإسلامي ، نعتقد أن ذلك لن يتحقق إلا إذا منحنا فرصة لهذه الأفكار أن تأخذ نصيبها من المطارحة ونستند إليها ليس في الدفاع فقط عن معتقداتنا كما كانت وظيفة علم الكلام القديم ، بل لتطوير عقائدنا وإنضاج المفاهيم حولها كما يجب أن تنهض به رسالة علم الكلام الجديد. فالفكر حينما يخلد للراحة، والعقل حينما يعاني الخمول، فإنه يفسد ويفسد معه العالم والعالم. فهل كان أولى أن يتحرك النقاش في خط الغايات الأكثر سموا وإيجابية للفكر أم قضى تخلفنا أن نخيط شفاه المفكرين ونقمع رأيهم ونستند إلى التكفير من دون حتى مبرر فقهي متين سوى الاستقواء بنظام الحسبة في مجتمع لو حاسبناه بنظامها لزجينا به جملة في دهاليز سجون الرأي؟! الدين خطير في دنيا العرب وكذلك تاريخه. وأحيانا تاريخه أخطر من الدين نفسه. وقد تراءى للبعض أن باب الاجتهاد أقفل إلى يوم القيامة فقها وفكرا. وبات قدرا مقدورا أن لا نسأل ولا نسائل ولا نجتهد. فليس في الإمكان أبدع مما كان. كان نصر حامد أبو زيد قد اختار أن يساءل ويوسع من آرائه التي فيها ما هو مورد اتفاق وفيها ما هو مورد خلاف. انفتح على مدارس التأويل تراثا وحداثة. جعل من محيي الدين ابن عربي ظهيرا في مناوراته الفكرية ليقول بأن التراث الإسلام نفسه لا يعدم وجها من وجوه التأويل. خلط بين الاعتزال وتصوف ابن عربي وغيرهما، أي سلك مسلك التراث الآخر بحثا عن الشرعية حيث لا شرعية لأولئك أنفسهم في تراث رفض أن يبوح بكامل تعبيراته. حقائق العرفان هي أسمى وأبعد مدى من حقائق الاعتزال والمعتزلة الذين كان لهم دور في إذكاء خطاب العقل بالقدر الذي غاب فيه العقل عند أهل الحديث وحشوية زمانهم. لكن الحقيقة العرفانية باتت تعانق مدى أبعد من مدى العقل الأداتي التي استنبتت أصوله في عهد الاعتزال الطفولي المغرم بالعقل غرم الأطفال بتمردهم. هذا الخلط لا يحضر إلا عند من يبحث عن مشروعية تقيه ضغط الارتذكسيات. وهكذا يحسب لنصر حامد أبو زيد أنه أراد أن يتمرد على الارتذكسيات لكنه سيفاجأ بشكل آخر من المقايضة؛ أرادوا أن يقولوا له إن كنت ولا بد أن تسأل وتتساءل وتنقد وتنقض فلك هذا ولكن لنستفزك بعض الشيء ونراهن وندفع بك إلى حافة التمرد على أصل الدين، لأن الدين عندنا وفيّ لقواعد فهمنا التاريخي لا غير. إن رياضة نصر حامد أبو زيد لم تكن لتخيف باصطلاحاتها وغواياتها أيّا كان فيما لو بسط لها البساط في النقاش الحر والحيوي. ولكنها دخلت خندق الاستفزاز ومرت من تحت أنفاق الإساءة حتى خرجت منه وهي تحمل يأسا وردود فعل وإحباط وقلق مغشوش؛ وهنا نكون قد بدأنا نصنع شكلا آخر من المثقفين، بدل أن يعيشوا قلق المعرفة يصبحون وهم يعيشون قلق الوجود. لم يقل نصر حامد أبو زيد شيئا غير مسبوق عند أرباب التأويل قديما أو حديثا. وقد أخطأ نقاده حيث وجب أن ينتقدوه وركّزوا في العموم على قضايا قد تكون محل خلاف. حديثه عن النص وعن المعنى وعن القرآن وعن الأحكام ليس مخيفا مرعبا حتى نضع مصيره أمام كهنة التكفير. إن حلبة نصر حامد أبو زيد هي حلبة الفكر، فليتصدى لها أهل الفكر بالنظر والتساؤل والنقد أيضا. ماذا قال نصر حامد أبو زيد في النص والمعنى والقرآن والتاريخ حتى يستحق كل هذه الحملة ؟ إن النص جامد ولا يتحرك ولا يمكن أن نصنع به وحده حضارة وأن المعول عليه هنا هو في تعدد المعنى وانسيابيته وعلاقة الإنسان بالمعنى هي التي تصنع التطور... عجبا ، وها نحن نقول الأمر نفسه ولكننا ندرك أن نعبر عنه بلغة الفن ولا نخلق النشاز الذي يستغله هواة التكفير. فلو أدرك نصر حامد أبو زيد هذا لما اضطر إلى التمرد ، ولفعله من داخل الدار وبالشرعية نفسها التي ينهض بها رأي خصومه. أليس علي بن أبي طالب كما استشهد برأيه هذا الأخير هو نفسه من قال بإن القرآن لا ينطلق بل ينطق عنه الرجال. فإن حروف القرآن عند القوم لا تنطق بل هي حمّالة وجوه ينطق بها الرجال. وهي تحمل من المعنى بعدد الأسيقة التي يحرّكها فيها الرجال..وهي عند أهل المعرفة مجرد حروف يجب الترقي في إدراك معناها الخفي.. هي حكاية الظاهر والباطن التي أدار لها القوم الظهر بجمدوا وتجمّدوا.. هي نفسها حكاية الحقيقة والمجاز .. الناسخ والمنسوخ.. المحكم والمتشابه وهلم جرّا..وما الغاربة في أن النص وحده لا يصنع حضارة ، فالنص لا يفعل إلاّ من خلال القبض على معناه المحتمل المناسب لا المعنى الذي نسقطه على النوازل. إننا نؤمن بالمجاز في تدبير المعنى المحتمل . فهي حكاية مجاز لا مزاج. وهنا إن كان لنصر حامد أبو زيد من كبوة فهي حينما خانته الصناعة التي لم يتقنها في حاق التراث حينما اكتفى بالفواعل المؤثرة وحدها خارج النص. العلاقة مع النص حينما تتحرك في سياق التنزيل الأفقي للمعنى تصنع حضارة جماعية . لو أدرك نصر حامد أبو زيد أن العقل له دخالة في مجال التشريع وكذا العرف ويناء العقلاء كما نقول في الأصول ، فإنه لن يستشكل كما فعل ؛ مما يعني أنه كان يصارع وجهة نظر من التراث وليس كل وجهات النظر الأخرى. وأن التكفير هنا خاص وليس عام ولا إجماع عليه. بل إن أزمة التراث وفواعله المغشوشة هي التي صنعت هذا الشكل من التحدي. ومن جهة أخرى يرى بأن القرآن مكتوب بلغة بشرية وهو نص تاريخي و.. و.. ونقوم ما الإشكال إن نحن لم نسمح بأن يشط هذا الرأي خارج كل اعتبار. ففي جعبتنا ما يؤيد هذا الرأي حينما يوضع في سياقه المناسب ويعبر عنه بلغة الفن نفسها التي لا تترك ثغرة لتسلل الشبه.. كثير من تلك العبارات في نظري سببها العناد الذي يبديه بعض المتعصبين أحيانا حيال بعض الحقائق ، حيث تخونهم العبارات وأحيانا نكون رهيني صدام المفاهيم والمصطلحات. معظم مشكلاتنا سببها عدم تحرير محل النزاع ومشاحات الاصطلاح وغياب الموضوع. عبّر نصر حامد أبو زيد عن آرائه بمفاهيم حديثة ليبس فيها وفاء للمعجم اللغوي أو المفاهيمي لعلم الكلام القديم. كما تحدث بذوق معاصر وأهداف معاصرة وربط وفاءه بتياراتها حينما لم يجد في مشهده الذي كان له طاردا سوى التشويه والتكفير والحضر والحذر. لكن ما الغريب في كل ذلك إن كان نصر أبو زيد كان قد اختار سلطة المجاز في المعاقلة المعتزلية ونظر إلى الحقيقة في نسبيتها الصوفية تأثرا بالفهم الأكبري الذي يختزل منظورا عرفانيا للقرآن بوصفه أنزل بحروف يفهمها أهل الأرض وهي لا تحوي كامل الحقيقة التي يحفل بها القرآن الحقيقي في اللوح المحفوظ. فالفهم الظلماني للقرآن هو من جنس أفهام أهل الأرض ، بل المعنى الظاهر هنا حاجب للمعنى الباطن. يتنزل المعنى بحسب ما تستوعبه الحروف الجامدة والحاجبة وحسب ما تستسيغه العقول الدنيا البسيطة والمبسطة التي هي خلاصة تجربة التاريخ والاجتماع. ولذا وحتى ندرك مداركه كلها علينا أن لا نقف عند ظاهر المعنى بل وجب الغوص في أعماق النص وطبقاته وضمن أسيقة خارجية ممكنة ومتعددة ، أي علينا أن نترقى في الفهم حتى يتدلى المعنى. إن المعنى ليس معطى إلا باجتهاد في سبيل تحصيله. حينما يترجم هذا المعنى العرفاني بلغة مباشرة أو حينما يراد منه أن يصبح لغة متلقي مفتوح من دون شروط ، فعلى صاحبه أن يتحمل مسؤوليته الحلاجية ، لأنه منح لغة مبسطة لمعنى رفيع ، وهذب وقرب ما كان الخاصة يظنون به عن العوام ، وهكذا حينما نتحدث عن تاريخانية النص ونمنحها ذوقا أيديولوجيا يحيل على نبذ وحيانية النص نكون قد خلطنا بين المفاهيم والسياقات والمصطلحات والأذواق.. فمعاني العرفان لا تسمح بأن تعالج بذوق غير ذوق العرفان وإلا فهي الكارثة. صاغ نصر حامد أبو زيد آراءه كما يفعل العرفانيون حينما يسلك بهم المجاز إلى المحذور في اللغة بحثا عن الترقي في المعنى. وبالفعل فإن مصير نصر حامد أبو زيد كان شبه حلاجي ، لأنه فضل شقوة التمرد ، وأحسب أنه فعل ذلك بنكتة لا بقلق ، لأنني أعرف أنه صاحب نكتة من الطراز الرفيع. قلت إن نصر حامد أبو زيد صاحب نكتة لا يمكنك أن تختلف معه حينما تأخذه على " رواق". لا أدري كيف تمّ إغضابه وبأي أسلوب تمّ ذلك إلاّ أن يكون من وحي التسلط والإرهاب الفكري. وهذا الذي حدث بالفعل ؛ لقد لمست في أولئك الذين أثاروا عناده وتمرده ملامح التسلط الأرتذكسي. إنهم قوم متعجرفون عتاة وضعوا أنفسهم حراسا للفكر والضمير. حيث الفكر والضمير حارس نفسه. مرّة حينما يفجر عبد الصبور شاهين قضيته داخل جامعة القاهرة، ومرة حينما تصدى له بالتهريج محمد عمارة. وكان بالإمكان أن يأخذ فكر نصر حامد أبو زيد منحى أقل اندفاعا وأكثر انضباطا بالمعنى العلمي للعبارة فيما لو قوبل فكره بالنقد وليس غير النقد. أخبرني الراحل أن محمد عمارة حينما التقى به مناظرا في الاتجاه المعاكس البرنامج الشهير الذي تبثه قناة الجزيرة ويديره الزميل فيصل القاسم بأنه بعد نهاية البرنامج اعترف بأن طريقته التي بدت مستفزة وتهييجية على الشاشة إنما هي مما علق بأسلوبه حيث كان خطيبا. أي إنه يمارس الخطابة للتهييج والإقناع وليس يمارس الدليل والبرهان. وقد تحدث أيضا بهذا في مناسبات أخرى ليؤكد بأن خصمه لم يكن جادا في النقاش بقدر ما كان منتقيا ومتحاملا ويسعى لتأليب الجمهور عليه. وطبيعي أن ينتصر محمد عمارة داخل الشاشة أمام جمهور أغلبه لا يستوعب حقيقة المسائل محل الخلاف. ولكن مثل هذا النقاش الحيوي مجاله المناظرة العلمية والخاصة وداخل مجمع النخب وأهل الاختصاص. إن تحامل محمد عمارة على المخالف أمر معروف. وهيجانه في الكلام وتهييجه للجمهور هو رصيده الوحيد في كل نقاش أو مناظرة. إن عمارة كان ودودا مع نصر حامد أبو زيد في الكواليس بخلاف هياجه الذي أبداه على الشاشة. لكن ماذا عن غريمه الأول الذي كتب عنه تقريرا سبب له كل هذه المتاعب؟ حينما عزم الراحل على أن يخوض معركة الترقية الجامعية في أواسط تسعينيات القرن الماضي ، قدم بحثا في نقد الخطاب الديني إلى لجنة مشرفة ترأسها الدكتور عبد الصبور شاهين. وقد انتهى مساره ذاك بأن تصدى عبد الصبور شاهين إلى بحثه بتقرير تضمن أحكاما أججت عليه موجات من التكفير من قبل الأزهر وغيره وانتهت إلى المحاكم حيث أصدرت محكمة الأحوال الشخصية حكما بتطليق زوجته الدكتورة ابتهال يونس، وهي أستاذة أدب فرنسي في جامعة القاهرة . أي ترتيب حرمة زواجه على أصل الحكم بارتداده الذي بتت فيه المحكمة المذكورة. وقد اتهمه تقرير عبد الصبور ب : "العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة والدعوة لرفضهما. والهجوم على الصحابة، وإنكار المصدر الإلهي للقرآن الكريم، والدفاع عن الماركسية والعلمانية وعن سلمان رشدي وروايته (آيات شيطانية)". سوف ينكر عبد الصبور كون تقريره يحمل حكم الردة والكفر على نصر حامد أبو زيد. لكن ما معنى العداوة لنصوص القرآن والسنة والهجوم على الصحابة وغيرها من الصفات التي تقرر حكمها منذ القرون الوسطى في تاريخنا الحافل بالتشدد والتعسف. إذا كان نصر أبو زيد قد رفض تفسيرا ما للدين منتقدا مفهوم الوسطية عند الشافعي أو التلفيقية عند الأشاعرة أو الظاهرية عند الحنابلة وخاض خوضا في القرآن، فما المشكلة سوى أن كان أولى أن يناقش فيه لا أن يكفر. وحتى الآن لا أجد عند نصر حامد أبو زيد جديدا مدهشا ، ولكن جماع أفكار تلتقي مع العناوين الكبرى للخطاب العقلاني الحداثي كما تمثلته للدراسات الاستشراقية التي عنيت بالإسلاميات مع دربة تفوق غيره في الاهتمام بالتراث الإسلامي. كما ثمة من النتائج التي تسرع فيها هي عندي محل نقد لا محالة. ولكن حديثنا هنا ليس عن تفاصيل المشروع وإنما عن العناوين الكبرى له والتي لا خلاف فيها ، وأيضا عن مبدأ حرية الإنسان في أن يطارح بدليل. وحينئذ لا وسيلة لدفعه إلاّ بالنقاش الحر والفعل النقدي الذي هو سلوك حضاري للمجتمع المعاصر المفتوح. إدريس هاني و نصر حامد أبو زيد ، وفي الوسط المنصف بن عبد الجليل في أواخر التسعينيات من القرن الماضي سعيت إلى لقاء مع الدكتور عبد الصبور شاهين، وكان همي في هذا اللقاء أن أتعرف على رأيه الحقيقي والمباشر عن الراحل نصر حامد أبو زيد. هل حقّا ما كتبه هذا الأخير يكفي لتسليط سهام التكفير ضده، وما هي هذه الأفكار التي شكلت سندا للحكم عليه بالردة. والحقيقة أنني لم أقف على شيء يشفي غليلي الفقهي فضلا عن أنني تأسفت كثيرا لوضعية العلم والفكر في كثير من النقاط الساخنة في عالمنا العربي. كان عبد الصبور يتحدث معي قبل ذلك في موضوع التجديد والإصلاح والتقارب بين المسلمين بما يوحي أننا أمام وجهة نظر مخملية. لكنه في الوقت نفسه يحمل المشكلة لجميع المسلمين الذين كفّرهم جميعا لأنهم رفضوا أن يكونوا مسلمين ؛ لا أدري هل كان على المسلمين أن يتبنوا رأيه حتى يكونوا مسلمين " كويّسين"؛ لأننا أحيانا نفهم من أنهم كافرين أي أنهم غير "كويّسين" في نظره.. حينها أدركت أنني أمام شكل من الديماغوجية وليس أمام موقف فقهي متين. حينما سألته عن مصير نصر حامد أبو زيد ، أجابني بالحرف: " في الواقع هذا " الكائن " الذي لا أحب أن يرد اسمه على لساني لم يكن في ميزاني أبدا لا عالما يحترم ولا كاتبا يحترم ، وإنما بعد أن قرأت إنتاجه وكتبت له تقريرا محترما ، كان يعتبر حبل الإنقاذ له من تورطه في مقولات المستشرقين وأعداء الإسلام وتهافته على متابعة أفكار المنحلين والعبث بالأفكار والأصول ، تغيرت نظرتي إليه ، لأنه انقلب من طالب ترقية تقد بمجموعة من البحوث لكي يرتقي إلى درجة أكاديمية ، تحول إلى مجرد مهاتر ، سافل العبارة ، قبيح التصور ، قميء الفكر... وأنا في الحقيقة لم أرد عليه، ولا على سفالاته بأي كلمة، بل كنت دائما أقول: أن رأيي تضمنه تقريري. أما هو فقد رفض أن يتعلم ممن أراد أن يرشد خطواته وأن بعلمه كيف ينبغي أن يتحدث عن أصول الإسلام ومبادئه وأفكاره التي ننطلق منها لنكون مؤمنين. وهو لم يقبل هذا بل وجدها فرصة رائعة لكي يستثمر فشله وإخفاقه في أن يبلغ مستوى الأستاذية، وجدها فرصة رائعة لاستثمار هذا الفشل تحصيل مزيد من الأموال. واعتبر تقريري هو أكبر دعاية لكتبه. وبذلك بدأ يطبع الكتب ويلجأ إلى الماركسيين فيشجعوه على هذا". هذا شطر من كلامه عن نصر حامد. وقد ذكر أكثر منه سألخصه فيما يلي: لقد رأى عبد الصبور أن أمر الراحل إلى ربه ولكن ما يهمني والقول له أن لا يعشعش هذا الفكر في عقول الشباب. ومن هنا وجب تجريم هذا الفكر وطرده من الجامعة. ويعتقد أن لا وزن علمي لما ذكره نصر حامد إلا إذا قلنا أن للردة وزنا علميا. وحسب ما قال لي عبد الصبور:" الآن هو قد هرب إلى أوربا وترك كلابا تنبح في القاهرة ما تزال تذكره وتؤكد أنه حي يرزق .. لكنه هو في أعماقه يشعر أنه مرتد وأنه ملحد وأنه لا وزن له من الناحية العلمية". ثم يستطرد قائلا : " أنه هو الذي جر على نفسه هذا النكد كله . غيره مئات وقع لهم ما وقع له ومع ذلك أخذوا التقارير وتعلموا منها، ثم ارتقوا بعد ذلك بأيدي من رسبوهم . وقد كان بوسعه أن يعدل من خطته وخطئه وأن يتقدم مرة أخرى إلى اللجنة لكي أرقيه بنفسي ، وكان أشرف له ولكنه اختار الشهرة والتجارة بالفشل ، فلم يجن إلاّ أن يكون طريدا". وأمام هذا الخطاب الذي ذكرني بلغة دواوين التفتيش في أوربا الوسيطة ، حاولت أن أستدرجه إلى قيمة أخرى كان أحرى بمن وضعوا أنفسهم قيّمين على الخطاب الديني أن يقوموا به حينئذ. قلت له : إننا في الإسلام على فرض تحقق الحكم بالردة أن نميز على الأقل بين من ارتد عن شبهة وغيره . لا سيما حينما تكون آراء الشخص مبنية على فكر ونظر ، فالمطلوب حينها محاورته وإفحامه ومناظرته حتى نثبت تهافت آرائه ، فهل يا ترى كان تقريركم يعني ذلك؟ حاول عبد الصبور أن يجيبني بكلام خارج منطق الفقه لأنه عرف أنني أستدرجه للأحكام. فقال: "إن التقرير الذي كتبته ليس تقرير ردة ، هو تقرير لإحصاء أخطاء منهجية وعقلية لم أخرج منه بالحكم بردته. وإنما خرجت منه بحكم أن هذا الإنتاج لا يرقى بصاحبه إلى درجة أستاذ في كلية الآداب". فهمت من ذلك أن الولاء لرأي المشرفين هو شرط في الأستاذية. وهذه آفة النظام التربوي العربي. ولكن عبد الصبور أخبرني أيضا بأن الذي احتسب لله و رفع القضية إلى المحكمة هو المستشار محمد صميدة عبد الصمد وهو شخص كما يزعم يعرفه بالاسم فقط. فالمحكمة هي من حكم بردته وتطليقه. ومرة أخرى أحاول أن أستدرجه إلى مفارقاته الفقهية لأقول له بخصوص تطليق زوجته منه: " حتى وإن كانت زوجته قد أقرت بأنها مؤمنة بأفكار زوجها ". كان الغرض من هذا السؤال ، هو إن كان نصر حامد أبو زيد قد تم الحكم بردته بناء على تلك الأفكار التي وردت في تقرير عبد الصبور واستند إليها بعض الأزهريين والمستشار نفسه الذي رفع القضية إلى المحكمة وإذا كانت زوجته تقر بها بالتبع ، فكلاهما بحسب هذا الحكم يكونان مرتدّين. والحالة هذه ، ما دخل محكمة الأحوال الشخصية في أن تطلق مرتدين. فالحكم حتى في هذا المستوى يتعلق بتطليق من كانت في حكم المسلمة الواقعة في ذمة الكافر إن أعلن عن كفره. غير أن عبد الصبور الذي بدا لي جاهلا بالفقه، يجيبني كما لو كان يناقض نفسه: "يبقى أنها مرتدة مثله، وما قالت هذا؟". قلت له: بلى ، عبرت عن ذلك في لقاءات مختلفة. يقول عبد الصبور: " ليست القضية كما قلت ، قضية ارتباطه بزوجته ، فليرتبط بأي امرأة في الأرض شرعا أو زنى...القضية قضية هذا الفكر الذي حكم بارتداد صاحبه لا يصلح للدراسة في الجامعة. ويفسد عقول الشباب ، طرد من الجامعة وانتهى الأمر ، فهمت يا أخي". كفّروه حتى كاد يكفر لم أرفض تكفير نصر حامد أبو زيد فحسب بل كنت أعتبر ذلك خطرا على سمعة الإسلام ومبدأ التفكير والاعتدال. ولا أعني من هذا أكثر من أن المقارعات الفكرية في مصارع الأفهام والاختلاف أمر آكد لا منّة فيه لأحد على أحد ولا سلطة فيه لأحد على أحد إلاّ في حدود الدليل وما تبقى من ذلك يقدر بحسب المصلحة لما يصبح الفكر بالفعل مصدر خطر على أمن الاجتماع، ومثل هذا لا يتأكد بأحكام القيمة بل بالواقع ومفاعيله ونتائجه ، وفي حدود المشخص من الخطر بنحو إجماعي حقيقي. فهل حقا كان فكر نصر حامد أبو زيد خطرا على الجامعة كما قال لي مرة خصمه اللّذوذ عبد الصبور شاهين؟ في نظري مثل هذا لم يكن ليحدث إطلاقا. ولم يكن عبد الصبور شاهين أحرص على الدين وعلى مصلحة الدين من أمثال الراحل السيد فضل الله الذي أسرّ لي بأن نصر حامد أبو زيد مسلم وله مبدئيا حق المطارحة والاجتهاد والنقد. والإعجاب نفسه لمسته عند نصر حامد أبو زيد بخصوص السيد فضل الله، فقد حدثني عن إعجابه بتفسيره كما أعجب بأسلوب التفسير الموضوعي للقرآن، الذي نادى به الشهيد السيد الصدر. علمت حينها أنّ مشكلة نصر أبو زيد هي بالدرجة الأولى هي التمرد على مواقف وأحكام قيمة وأسلوب معاملة. إنني أدركت أننا نصنع التمرد بأسلوبنا وطريقتنا في إدارة الخلاف. فهذا هو مصير التشدد أينما حل أو ارتحل. يكفّر الناس حتى يكفروا. ولهذا السبب كتبت حينها مقالا تحت عنوان: "لنكفر الجميع أو لا نكفر نصر حامد أبو زيد؟". كان هدفي من ذلك أن مثل هذه الآراء التي تطرق إليها نصر حامد أبو زيد موجودة في التاريخ الإسلامي وهي اليوم متبناة من قبل الكثير من أضرابه. وفي مصر نفسها لم يقل نصر حامد أبو زيد ما يفوق في تأويله للنصوص ما كتبه حسن حنفي أو غيره. هل لأن المسكين لا ظهر له يسنده فاختاروا أن يقضموا لحم الحمل الوديع.. لماذا يحاكم نصر حامد أبو زيد وحده، هل لأنه ضعيف ليس صاحب نفوذ؟ وقد ضربت حينئذ مثالا بالراحل الجابري في مسألة الإرث ، معتبرا أن الأمر شبيه بما قرره نصر حامد أبو زيد. فلماذا يحاكم هذا ولا يحاكم ذاك ، وهل نظام الحسبة في مصر وثقافته في البلاد العربية ، هو مزاجي وجزافي وانتقائي؟ ثم كان لا بد أن أوضح أن نصر حامد أبو زيد لم يفعل في آرائه غير تطبيقه لقواعد فقهية وأصولية معمول بها عند القوم. فهو جارى أصل القياس في مداه حيث القياس معمول به عند القوم دون إشكال ما دام يراعي شروطه التي لن تعدو كونها شروطا واضحة في عرف المستنبطين: أي تنحل في النهاية إلى مجرد استحسانات. ففي مسألة المواريث كان الراحل قد استشهد بحديث عّلل فيه أحد الأصحاب سبب عدم المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، بأن المرأة لم تكن تمتطي صهوة فرس ولا تحمل سيفا؛ أي بتعبير صريح: لم تكن منتجة. ولو أننا اعتبرنا مثل هذا كافي لإقامة التعليل ما دام القوم يرون التعليل حجة قاطعة وليس مجرد حكمة لا يتعدى معها الحكم إلى سائر المواضيع الشبيهة، فما العجب من تأويل نصر حامد أبو زيد ، حيث لم يفعل أكثر من إجراء القياس على نازلة ، حيث بدا له ، إن كان ذلك هو سبب عدم مساواتها في الإرث مع الرجل ، فهي اليوم تعيش في ظل نظام حياة مختلف ، فهي مثله في كل حظوظ وفرص العلم والعمل والمسؤولية ، فلم يظل الحكم مستمرة وقد تغير موضوعه؟! إذا أخذنا الأمر وفق هذا التفسير فما هي مشكلة نصر حامد أبو زيد مع من يعتمد القياس في الاستنباط؟ قلت: لنكفر الجميع أو لا نكفر نصر حامد أبو زيد. وهذا يتضح من جواب عبد الصبور نفسه صاحب التقرير الذي رسم المصير الأسود لنصر حامد أبو زيد في جامعة القاهرة. عبّر لي عبد الصبور في اللقاء نفسه عن إعجابه بالحبابي ، مع أن سؤالي كان حول انطباعه عن علماء المغرب. يؤكد ذلك أن الحبابي عند عبد الصبور شاهين هو عالم وليس فيلسوفا ومفكرا. قال لي :" ولا أنسى اللحظات التي كنت أزور فيها المغرب وألتقي بالمرحوم أستاذنا الدكتور محمد عزيز الحبابي. كان مثالا للمفكر والمثقف المنفتح لا المنغلق. هذا في الحقيقة كان يعجبني. إنه كان مسلما وكان يفيض حبا للفكر الإسلامي، لكنه كان منفتحا..." قلت له معترضا: " وأيضا كان رجلا ميّالا للاتجاه الوجودي والفلسفة الوجودية". جاء جوابه على الفور: " لا ، كان مسلما. وإذا أعجبه الاتجاه الوجودي فقد يكون هذا إعجابا شخصيا . ولكنه كان مسلما صادق الإسلام. وإذا كانت الوجودية عنده لعبة يلعبها في مجال الفلسفة باعتباره رجلا متفلسفا ، فقد كانت له شخصية أخرى ، مسلمة وصالحة والحمد لله". حقا أمر مضحك للغاية. لقد كفّر عبد الصبور الوجودية؛ ولكي يسلّ صاحبه من حكمها كما تسل الشعرة من العجين ، حكم عليه بشكيزوفيرنيا. فلقد كانت له في نظره شخصية أخرى صالحة. أي في نظره كان للدكتور الحبابي شخصيتان: الأولى وجودية يمارسها لعبا ولهوا، والثانية صالحة مسلمة. ما أضحكني حقّا ، هو حينما وقفت السيد فاطمة الحبابي زوجة الفقيد الغالي على كل المثقفين المغاربة ، إذ لا يحتاج حتى إلى شهادة عبد الصبور مع زوجة هذا الأخير وهنّ يستأذنانه بالذهاب ، ويذكرهم بأن لا ينسوا احتساء " الحريرة". كان الغرض من اعتراضي بذكر وجودية الحبابي أن أستشكل : لماذا لم تحضر هذه الكياسة والحرص على إسلام الحبابي في حالة نصر حامد أبو زيد؟ كان بإمكان عبد الصبور أن يلتمس لنصر حامد أبو زيد الأعذار ويعتبره أيضا ممن استمالته بعض التيارات الفكرية يمارسها لعبا فيما هو مسلم ومؤمن. اكتشفت أن الأمر يتعلق بعلاقة قديمة مع الأستاذ الحبابي وبأن زوجة هذا الأخير طارحت في كلية العلوم بالقاهرة وبأنه كان من أصدقائهما؛ بتعبير آخر : وصلتك رحم . يحصل هذا حتى في مجال التقييم العلمي. فضلا عن أن الحبابي رحمه الله جبل معرفي لا يمكن أن تنجح معه لغة التكفير إن حدثت. من الحكايات التي أخبرني بها نصر حامد أبو زيد وكانت حقّا أشبه بالنكتة ، لا زلت أراه يضحك ملئ فيه. حينما زار المغرب وحاضر بطنجة ، لكنه من سوء حظه أن داهم القاعة مجموعة من السلفيين يقودهم حسب ما أذكر الشيخ الفيزازي. سعى هؤلاء ليتموا ما فعله عبد الصبور وغيره في القاهرة، فشوشروا قدر المستطاع. يقول لي نصر حامد أبو زيد : لا أخفيك أنني ارتعبت يقولها وهو يضحك فحاولت أن أهدئ الوضع وتحدثت عن أن هذا ليس من شيمة المغاربة في إكرام الضيف وما شابه هذا الكلام ، وفجأة يتحول الجمهور مدافعا عني وانقلب ضدهم. يقول هذا الأخير: وحينما عرفت أن الجمهور معي ضدهم ، هجمت عليهم منتقدا مثل اللّيث يضحك ... * * * فوجئت حينما جمعتنا ذات مرة مائدة غداء على هامش إحدى الندوات بمعية محمد أركون ، وهو حديث شيّق لولا أنه جعلني أفقد الثقة شيئا ما في جدية الكثير من المشاريع الفكرية لبعض المفكرين العرب كما جعلتني لا أتناول فكر نصر حامد أبو زيد كما لو كان صاحب مشروع مستقل. قليل هم أولئك الذين يحسنون حفظ المسافات وحراسة التميّز وجدية الاختلاف. كان استشكالي على محمد أركون هو كيف باشرت قراءة التراث العربي والإسلامي ومع دعوتك لتوسيع مداركه ، هل كان لكم اطلاع على سائر وجوه هذا التراث؟ أجابني ، نعم أنا مطلع على كل التراث وأطالع حتى تراث الصوفية والشيعة. وبينما كان الحديث يجري عن الإسلاميات التطبيقية، تدخل الراحل نصر حامد أبو زيد، فقال: أنا أعمالي تعتبر جزء من مشروع الإسلاميات التطبيقية التي يدعو إليها أركون؟ الأعجب من هذا الكلام ، أن أركون أقره على ذلك واعتبر الأمر شهادة أخرى على نجاعة دعواه. قلت لهما: "أممم صحيح ... نعم ايوا..."، باختصار، لم أقل شيئا. حسبوها معلومة جديدة تستحق أن تضاف إلى مكنز معلوماتي حول أركون، وليست حكاية رؤية ومنهج وتصور ورهانات...ولم أشأ أن أكشف لهما عن تلك المفارقة. فقد كان لا يزال عالقا في ذهني كلام لأركون وهو يدافع عن مشروعه في إحدى كتبه العمدة ، بأن لا أهمية لما يطرحه نصر حامد أبو زيد اليوم ، ولا جدوى منه ومن كثير من المحاولات العربية. كيف حصل هذا القران إذن؟ الله أعلم. لكن لم أشأ أن أنغص على الجميع غذاءه ، انتشرنا كل إلى حال سبيله وودعت أركون قائلا: لن أقول لك " بون آبيتي " بل أقول لك: "بون شونس"! والحق، أن ما رامه نصر حامد أبو زيد لا صلة له لا بأهداف ولا بتجربة الإسلامية التطبيقية ولا بنفسها العارم. ربما التقى نهج الهرمينوتيكا لأبي زيد ونهج الإسلاميات التطبيقية الأركونية في مراعاة باطن المعنى واللاّمفكر فيه واقتحام الممتنع وكسر التابو وزحزحة طبقات المعنى وكسر المقدس وما شابه. لكن أركون باحث في آخر العقل أيضا وليس تاريخانيا بالمعنى الدوغمائي. ومثل هذه المفاهيم هي طوع البنان قريبة المنال فيما حبكه رواد الفلسفة النقدية الحديثة. تشابهت عقولهم واختلفت مشاريعهم. ادريس هاني ونصر حامد أبو زيد ، يتوسطهما المستشرق الأمريكي برنار لويس وداعا يا صديقي نصر حامد أبو زيد رجل دمث وحبّاب ومنبسط. ولا أدري لم يرسم مصيره بناء على رأي مجازي وحكم مزاجي. رأيت خصمه يكفر أشخاصا هم أهل دين أيضا لم يعلنوا كفرا. والحساسية المفرطة التي يبديها بعض من يعتبرون أنفسهم حراس الدين في مصر وفي كثير من البلاد العربية هي مجرد حساسيات شخصية مزاجية أكثر مما هي دينية. مثال نصر حامد أبو زيد درس لمن استهوته إجراءات الحسبة المعمول بها حتى اليوم في أرض الكنانة. لقد طردوا الرجل وهو لا يعرفه أحد ثم عاد إليهم وهو يتربع على كرسي الأستاذية التي حرمه منها صاحب المزاج التكفيري السّيئ. لقد هجم التكفير على عبدالصبور شاهين بعدها بقليل حينما كتب " أبونا آدم" ، وبالذهنية نفسها واجه ما واجهه نصر حامد أبو زيد. الدين الحقيقي هو أكبر من أن يزعجه رأي. والإيمان الحقيقي هو أعمق من أن تزلزله شبهة. إننا نصنع الكفر بالتكفير غير المشروع أو العقلائي حتى. لماذا لا نبادل الناس بالاحترام ونواجه الفكر بالفكر. ونعلن مصالحة بين الشريعة والإنسان ، تلك العلاقة التي ما أنساناها إلاّ شيطان التعصب والمزاج السيّئ للمتسلطين على النوع بغير حق. فالله حاور إبليس ومنحه حق إعلان شبهته التي خلّدها الربّ في كل كتبه المنزلة ، فلماذا نقمع الفكر والسؤال ونطلق العنان لسلطان التكفير كي يملأ مشهدنا المريض. متى يتأنسن فهمنا للدين ويتعقلن فهمنا للشريعة إن كا نريد أن نزاحم بها بدائل الدنيا. مشكلتنا نحن في العالم العربي أننا نريد التسلط على الضمير نفسه ، وتلك هي مبتدأ الإرهاب وخبره. كان الراحل يحب أن يناديني سواء في محادثاته أو مكاتباته ، كما هو ديدنه مع كل أصدقائه : يا صديقي . آخر عهدي بتلك الكلمة ، في معايدة بادلني إياها: يا صديقي مبروك عليكم عيدكم وأبحاثكم ... وها أنذا أرد لك العبارة نفسها، وداعا يا صديقي ، ليشملك الله برحمته! [email protected]