بمناسبة اليوم العالمي للأسرة، نود الحديث في هذه الحلقات عن الجهود التي بذلت في مدونة الأسرة من أجل هذا الغرض. وقبل ذلك لا بد من حديث عن المدونة السابقة أو التي نعيش عليها اليوم. الأحوال الشخصية والمذهبية في الدول الإسلامية كان الغرض من المذهبية هو منع التسيب في الأحكام؛ وإلزام الناس بقانون موحد لمنع التملص والترهل والفوضى عند القضاة والحكام و المحكومين. ولم يكن القصد تقديسها، لأن اتباع الإمام مالك أو غيره من الأئمة أصحاب المذاهب ليس دينا لا يجوز العدول عنه إذا دعت الضرورة ومست الحاجة (الفكر السامي: الثعالبي: 4/ ص 418-422). وهؤلاء الأئمة ليسوا أنبياء ولا رسل يتوزعون أرض الله ويتنافسون على الأتباع من أهل القبلة، يقول محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي:وليس مالك أو الشافعي أو أبو حنيفة برسل بعثوا كلٌّ إلى قطر أو مملكة لا تجوز مخالفتهم، وكما قال عز الدين بن عبد السلام: أو لهم في أرض الله مناطق نفوذ لا يعدوها غيرهم. وإنما هي آراء أخذوها بحكم الاجتهاد، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور(الفكر السامي: الثعالبي:4/ص 422). هذا المقصود يخالف أصول المذاهب وأقوال الأئمة و منهم الإمام مالك رحمه الله تعالى. وهو الذي عرف عند أهل العلم بالتعصب المذهبي الذي يجافي العلم. إذا تقررت هذه الحقيقة فإن الالتزام بالمذهب إنما هو منع للمفاسد السابق ذكرها و ليس تقليلاً من قيمة علماء الملة في كل المذاهب. والتشريع للدولة لا يمكن أن يكون من كل المدارس الفقهية والقانونية، لأننا سنصبح أمام تضارب وتعارض، وإنما يكون باختيار مدرسة أو اتجاه يعتقد فيه الأقرب إلى خصوصية الجماعة. المذاهب الإسلامية ميراث للأمة اتباع المذاهب المعتبرة الأربعة وغير الأربعة ليس دينا يجب التقيد بها أو بأحدها، وإنما الدين هي أصول الإسلام ومقاصده ونصوصه القاطعة والاجتهادات الملزمة. وقد اعتبر العلماء المحققون أن الإمام مالك أو الشافعي أو أبو حنيفة أو أحمد بن حنبل ليسوا برسل بعث كل واحد منهم إلى قطر أو مملكة لا يجوز مخالفتهم، أو لهم مناطق نفوذ لا يعدوها غيرهم، وإنما هي آراء لهم أخذوها بحكم الاجتهاد كما مر معنا عند الإمام الثعالبي. ولأنهم على هذه الطريقة في استفراغهم الوسع واجتهادهم للأمة:لا تجد أهل مذهب إلا وقد خرجوا عن مذهب إمامهم، إما إلى قول بعض أصحابه، وإما خارج المذهب(الفكر السامي: ج 4/ ص 418). وأثر عنهم أنه لن يشم أنفه العلم من لم يعرف الخلاف وفقه الأئمة. مدونة الأحوال والأسرة والمذهب المالكي بالمغرب أ مدونة الأحوال الشخصية لم تشذ مدونة الأحوال الشخصية وكذا مدونة الأسرة عن السياق العام للدول الإسلامية، فاختارت مذهب المغاربة وهو المذهب المالكي، ولهذا ورد في تقرير اللجنة الملكية لسنة 1957 ما يلي:فإذا أردنا أن ندون الفقه في المغرب لتقريبه للمحاكم المغربية وجب أن نراعي المذهب المالكي بقدر الإمكان مع اعتبار الأصول العامة وخصوصا المصلحة المرسلة (التقريب: ص37). وتمت ترجمة هذا الاعتراف في الفصل الثاني والثمانين بالقول:كل ما لم يشمله هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح أو المشهور أو ما جرى به العمل من مذهب الإمام مالك. وها هنا يتبين أن مدونة الأحوال الشخصية قد قصرت البحث عن المسكوت عنه في المذهب المالكي فحسب. وحددت طريقة الاختيار أدلة المذهب بالترتيب كما يلي: أولا: الراجح: وهو ما قوي دليله وحجته. الثاني: المشهور: وهو ما كثر قائلوه. الثالث: ما جرى به العمل: وهو الأخذ بقول ضعيف أو شاذ لمصلحة وضرورة. ولم يكن اختيار المذهب المالكي ينم عن جحود وتعصب وإنما هو التقنين من خلال وبقدر الإمكان كما تم التنصيص عليه، وتجلى هذا الإمكان في كون كثير من مواد مدونة 1957 قد خرجت عن المذهب المعمول به والمنصوص عليه، ويصرح مقر اللجنة على هذا الخروج في شرحه للمدونة، واعتبر الخروج منهجاً للأعضاء جميعهم ساروا عليه، حيث قال:وقد سلكت اللجنة في اختياراتها مسلكا وسطا فاعتمدت المذهب المالكي المعمول به في المغرب قبل غيره، وخالفته إلى غيره فيما رأت أن المصلحة تقتضي مخالفته(التقريب: ص103). لقد كان أعضاء اللجنة الأولى يدركون عدم التقيد بالمذهب إذا ترجح طلباً للمصلحة حيث كانت، واستجلاباً لليسر على الأمة ورفعاً للحرج عنها. وهو نفس المسلك الذي اتبعته لجنة 1993 م. ب مدونة الأسرة وأما لجنة مدونة الأسرة 2004م فقد وجدت نفسها غير قادرة على المضي في النهج الذي سبق، ولم تر حرجا أن تنفتح على أعلام الأمة وفقهائها من كل المذاهب. حيث جاء في المادة 400كل ما يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعي تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف. وهكذا نكون أمام انتقال جديد لم يكن في كل مدونات الأحوال السابقة، وتمثل هذا الجديد في: اختيار المذهب المالكي بقدر الإمكان، وليس الراجح أو المشهور أو ما جرى به العمل. فلم ير المشرع نفسه ملزما بالتضييق على نفسه في دائرة الراجح والمشهور، وخصوصا مع التفسيرات المتضاربة لكل منهما. وبالفعل أخذ من المذهب في مدونة لأسرة حتى بالشاذ كما سيأتي بيانه ولم يلتزم بالراجح والمشهور. الخروج عنه إلى غيره من الاجتهادات عند المذاهب الأخرى شرط أن يكون الداعي لهذا الخروج هو البحث عن تحقيق قيم الإسلام ويهدف تحقيق العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف إذا تعين الخروج. أو استحداث اجتهاد جديد ينضبط بما سبق ذكره. ولم تجد حرجا من الأخذ بأي اجتهاد يحقق العدل والمصلحة وإن كان خارج المذهب. وقد ترك للقضاة تكييف النوازل واختيار الأقرب إلى تحقيق هذه المقاصد. وعند النظر في كثير من بنود المدونة سنجد الكثير من الاختيارات التي لم تجمد فيها على ما اشتهر في المذهب المالكي ونصره أزمانا، ودونوه في كتبهم الفقهية. فخالفت المدونة المذهب المالكي بالشرط المنصوص عليه في المادة400 وهو تحقيق قيم العدل والعدل والمساواة. الاجتهادات الفقهية تحسم عن طريق الحاكم ومن القواعد المقررة فقها أن حكم الحاكم في المسائل الخلافية قاض برفع الخلاف والمصير إلى ما تم اختياره في مجال التقاضي والتنازع. ومن أدلته ما وقع بين ابن مسعود وعثمان بن عفان في مسألة عبادية وهي إتمام الصلاة أو قصرها، فحسم الخلاف في المسألة باختيار إمام الأمة، وأذعن ابن مسعود لما رأى خلافه. وحيث إن نواب الأمة بعد عرضها عليهم وإقرارهم إياه، مع عدم مخالفتها للدين وإن خالفت المذهب فهذا كاف في الإذعان لها. قال الإمام القرافي في الفروق: الفرق السابع والسبعون بين قاعدة الخلاف يتقرر في مسائل الاجتهاد قبل حكم الحاكم وبين قاعدة مسائل الاجتهاد يبطل الخلاف فيها ويتعين قول واحد بعد حكم الحاكم:اعلم أن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف، ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء. ومع ذلك فللناس الحرية كاملة في البحث والتنقيب في أي مسألة علمية من مسائل المدونة . ولكن القانون الذي يلزم الناس عند التحاكم هو ما استقرت عليه في موادها الأربعمائة. مقدمات أولية بين يدي مدونة الأسرة 1 الأصل في الفقه إن يحقق للناس سعادتهم ويدفع الحرج عنهم، وكل فقه لا يخالف القواطع من الدين ويحقق المصالح للناس فهو الفقه المأمور شرعا أن نبحث عنه ونيسر سبيله للناس فإن هذا الدين إنما جاء من بين ما جاء له لهذه المهمة: إسعاد الناس وإخراجهم من ضيق الدنيا، إلى سعة الدنيا والآخرة. قال تعالى: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. 2 وكل فقه يحمله المسلم ليس بمعارض لحقائق الدين ومقاصده، فليس عليه من جناح في تركه إن ظهر عدم تحقيقه لما سبق أن بيناه. وحري أن يوصف بالفقه الجامد، الذي يدفع الناس إلى ثلاث سيئات، هي: الالتزام به من طرف فئة منهم تدينا وتعبدا، مع ما تحمله نفوسها من أشياء. وقد حدث هذا لمجموعة من الأئمة كانوا يقبلون مثله ونفوسهم غير مطمئنة إليه، من هذا ما قاله الإمام الشافعي في قصة عقل المرأة(ديتها) التي أوردها الإمام مالك في باب العقول من موطئه: وكنت أتابعه عليه(أي الإمام مالك) وفي نفسي منه شيء. طائفة ثانية تعلن معارضة هذا الفقه، وتجاهر بمعاداة الدين أصلا، وهذا هو طريق من يلغي العقل في فهم الفقه والنظر فيه، وطرح السؤال: هل لا يزال هذا الفرع الفقهي قابلا للاستمرار وإفتاء الناس به والحكم بينهم به؟ طائفة ثانية عريضة تستبطن معارضة دينها، أو بالأصح فقهها لحياتها، ولم تستطع أن تعالن به، فلزمت الصمت مع عدم حصول اقتناعها به. والذي نطمئن إليه أن الفقه الإسلامي ثروة للمسلمين عليها أن تستفيد من صالحا ولا تمانع في عدم استبدال فقه بفقه، وتطرح ما انتهت صلاحيته في زمانها على الأقل. وتختار من شموس الأمة وأعلامها من جميع المذاهب ما أنتجته ودونته، فإنهم أعلام الأمة ومصابيح الهدى، الذين ينبغي عدم التردد في الإفتاء والحكم بما يحقق للأمة سعادتها من أقوالهم. وهذا الفقه المختار هو الذي يعبر عنه بعض أعل العلم بقولهم: وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب من غير استئذان. الأصل في الدين الجمع وليس التفريق وهذه حقيقة تشهد لها النصوص الشرعية، والتصرفات النبوية في السيرة والسنة. الأصل في الأسرة الجمع لا التفريق: إن كل فقه يحقق جمع شمل الأسر، ويبعد عنها كل ما يسارع إليها بالنقض هو الأحق الذي نعتقده، ونكافح من أجل المصير إليه. وقد أخذت مدونة الأسرة بهذا المقصد وعدته أصلا، ففي المادة70 تقول: لا ينبغي اللجوء إلى حل ميثاق الزوجية بالطلاق أو بالتطليق إلا استثناء، وفي حدود الأخذ بقاعدة أخف الضررين، لما في ذلك من تفكيك للأسرة والإضرار بالأطفال. فالتفريق استثناء وليس أصلا يتبع، والمحافظة على الأسرة من التفكك مقصد شرعي عظيم. الحفاظ على الأسرة شريعة الأنبياء: ومما تجدر إشاعته أن بعض أنبياء الله عز وجل قد مرت أسرهم بمحن عظيمة كالكفر، بل والتحريض والمظاهرة على أهل الإيمان، ومع ذلك بقيت الأسرة في قلوبهم لها مكانة عظيمة، مع قيامه بمهمة الدعوة. ونعني هنا نبيين كريمين: الأول: نوح عليه السلام: الذي قص قصة كفر زوجه الحق تبارك وتعالى فقال:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(التحريم:01). الثاني: لوط عليه السلام: وقد سبقت آية التحريم في كفر زوجته، ونضيف قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب}(هود:28). والشاهد عندنا أن تشتيت الأسرة بالطلاق لم يكن الحل الذي ارتضاه هذين الكريمين. ولربما يعود ذلك إلى ما يلي: أن أسهل الحلول التي يلتجأ إليها العاجزون، هو التخلص بالفرقة. فلم يكن لهم من الهمة ما بها تعمل على الدعوة والتربية والتغلب على مصاعب الحياة. الصبر على الأسرة وإن جنحت إلى الكفر، مع القيام بالدور المطلوب شرعا في الهداية. الثالث: إبراهيم عليه السلام: فإن الخلاف الذي كان بين زوجتية لم يجعله يعجل بفراق واحدة منهما، فتكبد المشاق لإبعاد نار الغيرة التي دفعت سارة أن يغيب إبراهيم عليه السلام وجه هاجر عنها. الرابع: محمد صلى الله عليه وسلم: ومع أنهن كن يغضبنه ويطلبن منه ما لا يقدر عليه، ومع ذلك ونزولا عند طلبهن حفاظا على أسرته حرم على نفسه ما كان محبوبا إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(التحريم:1)