هذه مشكلة التبشير بالمذهب، وهي مشكِلة مشكَلة، وللتأليف بين الفريقين مهددة. وهو أيضا موضوع واسع، فأكتفي منه بالتنبيه إلى معاقده. تحولات الشيعة والسنة اليوم بين العفوية والتخطيط ظاهرة التحول من التشيع إلى التسنن، ومن التسنن إلى التشيع.. ظاهرة حقيقية، ويتفق المتابعون والباحثون على وجودها وانتشارها، وإن اختلفوا في تقويمها. والذي يبدو أن الذين يتشيعون اليوم من أهل السنة هم أكثر عددا بكثير من الذين يتسننون من الشيعة. وإحدى مسائل الخلاف بين أهل الفكر والعلم هنا: هل التشيع اليوم عفوي حر، أم إن وراءه عملا منظما وتهيئة جادة؟ ويظهر لي أن كثيرين يعتقدون أن الظاهرة منظمة. يقول القرضاوي: «.. أما ما يجري من نشر التشيع فهو أمر مخطط، له رجاله، وله ماليته، وميزانيته المفتوحة، وله برامجه وأهدافه ووسائله. وهو أمر معروف لكل من له صلة بالثورة الإيرانية، وهو ملموس خارج إيران». ومما يدل على وجود مخطط التشييع أن بعض الذين يتحولون إلى المذهب الإمامي يبدؤون نشاطا تبشيريا حقيقيا في أوساط أهل السنة، ويستميت بعضهم في «هدايتهم» إلى طريق الحق، ويسمون أنفسهم ب«المستبصرين». وكتبهم ونشاطهم الإعلامي بيّن لمن أراد التعرف على ذلك. كما يتميز بعضهم بالتطرف العقائدي، بحيث يتجاوز تعصبهم لمذهبهم الجديد أصحاب المذهب الأصليين، فتجد الشيعي الإيراني معتدلا بالمقارنة مع متشيع حديث من مصر مثلا. اختلاف الآراء في تقويم الظاهرة ورغم ذلك، يوجد خلاف بين أهل الفكر حول تقدير حجم هذه الظاهرة، وحول الموقف اللازم اتخاذه منها. ويمكن أن أرصد هنا موقفين: - الموقف الأول: يرى أن هذه الظاهرة طبيعية، وأنه لا خطر منها على أهل السنة مطلقا. ومن أصحاب هذه الفكرة الأستاذ والصحفي ياسر الزعاترة، يقول في مقالة له عنوانها: «هل ثمة خوف حقيقي من التشيع؟»: «طرحت في العديد من الأوساط الإسلامية مؤخرا حكاية التشيع في بعض الدول العربية، أكان في سياق ديني بدعوى الخوف من تمدد المذهب الشيعي على حساب مذهب أهل السنة والجماعة، أم في سياق سياسي بدعوى الوقوف في وجه التمدد الإيراني... إن تجربة التاريخ الإسلامي الطويل قد أثبتت أن أهل السنة والجماعة لم ينظروا إلى أنفسهم في يوم من الأيام كطائفة تخاف على نفسها من الآخرين، بقدر ما اعتبروا أنفسهم حاضنة الإسلام في جميع تجلياته، خلافا للمذاهب الأخرى، بما فيها المذهب الشيعي... يتبدى هذا البعد في الثقافة التي بناها كل مذهب من أجل حماية نفسه، ففيما تدور الثقافة الشيعية حول نسف مذهب أهل السنة والجماعة، لا يلتفت أهل السنة إلى الآخرين ولا يتابعون أدبياتهم إلا في سياق التخصص أو الثقافة الموسوعية... من المؤكد أن أية قوة في الأرض لن تدفع أهل السنة والجماعة إلى النظر بسلبية إلى أبي بكر وعمر وسائر الصحابة الذين لا يحظون بأدنى احترام في المذهب الشيعي باستثناء حفنة قليلة منهم، كما أن أية قوة في الأرض لن تدفع تدينا يُعلي من شأن العقل إلى تغييبه على نحو استثنائي كما في قضية المهدي المنتظر في المذهب الإثني عشري. قبل أسابيع، عدت إلى مكتبتي من أجل قراءة أخرى لرسالة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر عن المهدي، وفيما يتميز الرجل بقدرة هائلة على الجدل والفلسفة (صاحب كتاب «اقتصادنا» وكتاب «فلسفتنا»)، فإن محاولته في الرسالة إقناع القارئ بمنطقية الغيبة للإمام المنتظر لم تكن ذات بال.. ليس هذا فحسب، إذ إن التدين السني لا يمكنه بحال استيعاب التدين الطقوسي عند الشيعة، والذي يحول حادثة تاريخية جاءت بعد عقود من اكتمال الدين وأركانه وأدبياته، وهي حادثة ذات صلة بالسياسة وليس بجوهر الدين (لم يطرح يزيد على الأمة دينا جديدا رغم دمويته وفساده)، يحولها إلى متكأ لدين قائم على الطقوس الأقرب إلى الروح الوثنية. ليس هذا نقدا للمذهب الشيعي، ولست ممن يكفرون من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكنني أرد على روحية المبالغة في تهويل مخاطر تحول الناس إلى المذهب الشيعي، وبالطبع لأغراض سياسية، من دون الالتفات إلى ما ينطوي عليه ذلك من تسخيف لمذهب أهل السنة وترجيح هشاشته أمام المذاهب الأخرى، بل إنني أجزم بأن مزيدا من الانفتاح الإعلامي والتواصل سيدفع مزيدا من الشيعة إلى تغيير معتقداتهم الطقوسية والبعيدة عن العقل، بما فيها عقيدة الإمام الغائب، وذلك نحو تدين أقرب إلى مذهب أهل السنة، حتى لو استمر الإيمان بمظلومية آل البيت ومكانتهم السامية في الإسلام والوعي الجمعي للأمة، الأمر الذي يتوفر في عقائد كثير من المسلمين السنة... نعود إلى القول إن الأرقام التي ذكرت حول المتشيعين تنطوي على إهانة لمذهب أهل السنة والجماعة وتصوير له على أنه مذهب لا يستند إلى أسس منطقية، الأمر الذي لا يبدو صحيحا بحال، ففي لبنان وكذلك في إيران ليس ثمة متحولون من السنة إلى الشيعة، بل لقد كان في العراق تحول من الشيعة إلى السنة أكثر من العكس. أما في بعض دول الخليج فالتمترس سياسي ويعبر عن مظالم أكثر من تعبيره عن قناعات راسخة». - الموقف الثاني: يرى أن من حق أهل السنة بل من واجبهم أن ينتبهوا إلى هذه الظاهرة، وأن يحصنوا أهل السنة منها، وأن يواجهوها بالعلم والحكمة، وبدعوة الشيعة إلى عدم استفزازهم بهذه الدعوة. وهم يرون أن قسما مهما من أهل السنة ليس محصنا ضد العقائد المخالفة، وأن الاستهانة بخطورة التبشير هي التي مكّنت من الاختراق السهل لكثير من المجتمعات السنية، حيث لم يتم إعدادها بشيء بدعوى عدم الحاجة إلى إثارة الخلافات الطائفية والمجادلات الكلامية. وجهة نظر الإمامية في الموضوع لكن لا بد أن أشير إلى أن الإمامية يختلفون في هذا الموضوع، فبينما يرى بعضهم جواز الدعوة إلى المذهب في أوساط أهل السنة، يصرّ الآخرون على منع ذلك. ومن الذين لا يوافقون على هذا التبشير: السيد محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، حتى إنه أدانه بشدة، والمرجع حسين فضل الله. بينما يرى آية الله التسخيري أن التبشير يدخل في إطار حق المذاهب في الدفاع عن نفسها، وفي كسب الأنصار، وأن ذلك جزء من حرية الناس في الاعتقاد. وهذه المسألة من مشكلات الموضوع، إذ ما هو الفرق بين الدعوة إلى المذهب وبين الدفاع عنه؟ يقول القمي: «إذا كان إظهار مذهب على حقيقته بيانا لبطلان ما قيل عنه، فليس هذا دعاية لهذا المذهب بذاته، وإنما هو إظهار لحق يجب أن يعرف ويُجلى». إن أهل السنة يعترضون على التبشير، ولا ينكرون حق الشيعة في الذب عن معتقداتهم، إذ كما يقول الشيخ رضا: لكل طرف الحق في أن يبين عقائده كما يحب، وأن يقوم بذلك قولا وكتابة، من غير طعن في عقيدة الآخر ولا في مقدساته. يتبع...