كان عبد الحسين شرف الدين يقول في الخلاف بين الفريقين: «فرقتهما السياسة، وستجمعهما السياسة»، يعني بذلك أن مبدأ الخلاف في الأمة هو مشكلة الإمامة والخلافة، وهذه قضية سياسية، والطريق إلى جمع ما تفرق هو السياسة أيضا، بالتوافق على قضايا سياسية ما. وعماد هذا المدخل التقريبي هو نقل الخلاف بين الفريقين من الإطار العقدي الكلامي إلى الفضاء السياسي والدستوري والقانوني. ويمكن أن أمثل لهذا بقضايا أربعة. المسألة القانونية ومشكلة الطوائف وغني عن البيان أن هذه المسألة لا تطرح في البلاد التي ليس فيها إلا السنة، ولا في البلاد التي ليس فيها إلا الشيعة. وهذا على المستوى النظري، أما في الواقع، فتوجد بلدان سنية خالصة، أو شبه خالصة، ولا إشكال هنا. وتوجد بلدان سنية بأقليات شيعية كبيرة. ولا توجد بلدان شيعية خالصة، بل هي بلاد يشكل فيها أهل السنة قسما مهما من السكان. والحالتان الأخيرتان هما اللتان تحتاجان إلى اهتمام خاص بالمشكلة القانونية. والحلّ الذي يراه الشيخ التسخيري أن تخضع الأقلية أعني كانت شيعية أم سنية في الحقل العام لقوانين الأكثرية، لكنها تستقل بقانونها الخاص والموافق لمذهبها في مجال الأحوال الشخصية. أي أن نفرق بين النظام العام، فتكون الكلمة الفصل فيه لقوانين الأكثرية، وبين النظام الخاص حيث تخضع أحكام الأسرة لعقيدة الأقلية. ومع ذلك أرى أن تستشير الأكثرية ُالأقليةََ في قوانين النظام العام، ولست أحب لها أن تنفرد بالقرار، حتى لو كان ذلك مقتضى الديمقراطية. وقد دلت التجارب على أن العيب الأكبر للنظام الديمقراطي هو هذه المسألة بالذات، أعني ما يسمى ب«استبداد الأكثرية». ومن جهة أخرى، لا يمكن اعتماد «الإجماع» سبيلا إلى الفصل في الخلافات باطراد، ولا كذلك «التوافق»، لأنه لا يتم في جميع المسائل.. وهذا باب كبير للاجتهاد الدستوري والقانوني، حسبي التنبيه إليه هنا. «الحق» في أماكن خاصة للتعبد ومن المسائل المطروحة هنا: حق التعبد، أو الحق في حرية التعبد. ولا تشكل هذه المسألة مشكلة من حيث المبدأ، لأن توجيهات الإسلام واضحة في أنه لا إكراه في الدين: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين.. لكن المشكلة قد تكمن في دعوى الحق في ممارسة التعبد في أماكن خاصة. وهذه مسألة عويصة، ولاسيما إذا نظرنا إليها في إطارها العام، وفي الجوّ الفكري المتميّز بطغيان الحقوق الفردية للإنسان على الحقوق الجماعية للشعوب، وكذا في السياق الدولي الضاغط على العالم الإسلامي في اتجاه ما يتعارف على تسميته ب: الحرية الدينية، حتى إن بعض الدول تصدر تقريرا سنويا خاصا بها، يقيّم أداء دول العالم جميعها بالنسبة إلى هذه المسألة. ورأيي في هذا الموضوع، وأقوله بصراحة، فهذا من أهم مبادئ التقريب، أعني: المصارحة بالحكمة. وهو رأي يحتمل الصواب والخطأ، فالله أعلم أولا وآخرا. رأيي أن نميّز بين الشيعي والمتشيع، فالأول شيعي «تاريخي»، أي أنه «أصلي» في المذهب، كشيعة العراق مثلا. والثاني «شيعي طارئ» تحول من مذهب التسنن إلى عقيدة التشيع، وهو تحول حديث، كبعض أهل السنة الذين تشيعوا في العقود الثلاثة الأخيرة بالخصوص. أما الشيعة الأوائل، فأرى أن من حقهم أن تكون لهم قوانين أسرية خاصة بهم، وأن تكون لهم مساجدهم وحسينياتهم.. ولا أرى من العدل منعهم منها، ولا أن ذلك يفيد في شيء.. اللهم إلا تقوية الأجنحة المتشددة في صفوف القوم. وبالمقابل أقول: من حق أهل السنة الذين يعيشون، باعتبارهم أقلية، في دول يحكمها شيعة.. أن تكون لهم مساجدهم وقوانينهم وجمعياتهم ومدارسهم.. وسائر ما يعتبرونه خاصا بهم ويتعلق بمعتقدهم. ولا أستطيع أن أفرق بين الأمرين، فأطالب لأهل السنة بأشياء أحرمها على الشيعة، بل لست مقتنعا بهذا الأسلوب أصلا، لا بعدالته ولا بقوته ولا بفعاليته. أما المتشيعون فلا أرى أن من حقهم أن يطالبوا بشيء، وهم يستطيعون أن يمارسوا مذهبهم كما يشاؤون، إذ لا إكراه في الدين ولا في المذهب.. لكن ليس من حقهم أن يضيفوا إلى الانقسامات الموجودة في العالم السني، وهي كثيرة وبعضها خطير، انقساما آخر.. يكون هذه المرة على أساس مذهبي. لذلك لست أرى أنه يجوز لهم المطالبة بحسينيات في دول السنغال، أو المغرب العربي، أو مصر.. على سبيل المثال. إن من حق الشيعة أن تكون لهم أماكن عبادتهم وصلاتهم في البلدان التي سبق أن تحقق لهم بها وجود تاريخي، ثم استمر هذا الوجود إلى اليوم. أما أن يتشيّع بعض السنة في التسعينيات أو في مطلع القرن الحادي والعشرين ببلاد لم يكن فيها شيعي واحد، ثم يطالبون بالحسينيات، وربما «شكونا» إلى الهيئات الدولية أو استعانوا علينا بالدول المسلمة الصديقة.. فلا. وهذه مشكلة التبشير، وأثر من آثارها السيئة، وهي المشكلة التي سبق أن قلت: إنها تهدد كل ما تحقق على قلّته من جهود التقريب، وإنها قد تنسف الصلات بين الفريقين، فتعود بها إلى ما دون الصفر. ذلك أن العالَم السني لن يتقبل هذه الظاهرة مطلقا، لا الدول ستفعل، ولا الحكومات، ولا العلماء، ولا الشعوب.. كذلك أقول: لو فرضنا أنه يوجد بلد شيعي خالص، ثم تسنن بعض الشيعة، فرأيي أن يمارسوا مذهبهم بصفة فردية وخاصة، وليس من حقهم أن يطالبوا بأماكن أو مساجد تميزهم عن سائر مواطنيهم. ذلك أنني أقترح لحل مشكلة التحولات المذهبية ما أسميه: «احترام الحدود المذهبية الموروثة عن مرحلة الدولة العثمانية». قضية المواطنة وصلتها بالمذهبية ومن أهم مداخل التقريب: تحديد العلاقة بين المواطنة والمذهبية وإصلاحها في الحالات التي فسدت فيها، وذلك بجعل المواطنة أعلى. هذا ما ميّز أطروحة المرحوم مهدي شمس الدين، وكان يكررها في أحاديثه وكتاباته، بل هي آخر شيء أوصى به قبيل وفاته، إذ أملى وصيته للشيعة على ابنه، وهي تدور على هذا المعنى: ضرورة اندماج الشيعة في أوطانهم، وتولي مواطنيهم الذين يشركونهم في الوطن والعيش المشترك. والذي أسس هذا الخيار الشيعي، أو من أهم مؤسسيه، هو: السيد موسى الصدر، مؤسس حركة أمل اللبنانية. وقد كانت فكرته أن يندمج الشيعة في محيطهم اندماجا إيجابيا صادقا، لذلك كان قويّ الصلة بالجميع: بالسنة، والمسيحيين، والدروز.. ومن أصحاب الدعوة من الإمامية الشيخ علي الأمين، مفتي صور سابقا، فهو يلح على اندماج الشيعة في محيطهم القطري والعربي. إن من حق الشيعة في البلاد التي تجمعهم مع السنة، ومن حق السنة في البلاد التي تظلهم مع إخوانهم الشيعة.. من حق هؤلاء جميعا أن تكون لهم مشاركة في مزايا المواطنة، وحظ من ثروات البلاد، ونصيب في تسيير الشأن العام.. وهذا ما يعنيه الشيخ محمد آل كاشف الغطاء بقوله: «الاتحاد أن يتبادل المسلمون المنافع، ويشتركوا في الفوائد، ويأخذوا بموازين القسط، وقوانين العدل، ونواميس النصَف. فإذا كان في قطر من الأقطار كسوريا والعراق طائفتان من المسلمين أو أكثر، فالواجب أن يفترضوا جميعا أنفسهم كأخوين شقيقين قد ورثا من أبيهما دارا أو عقارا، فهم يقتسمونه عدلا، ويوزعونه قسطا، ولا يستأثر فريق على آخر فيستبد عليه بحظه، ويشح عليه بحقه: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.. فتكون المنافع عامة، والمصالح في الكل مشاعة، والأعمال على الجميع موزعة». ولا ينبغي في رأيي أن يستبد طرف بشيء دون طرف آخر، بل هذا من أهم أسباب الفتن والشقاق.. ولئن نجح طرف ما في الإمساك بالأمور زمنا، واستطاع السيطرة على ما يشتهيه أمدا.. فليعلم أن لذلك ولا بد نهاية وحدّا، وأن الرجوع إلى العدل الذي أمر به الباري تعالى أرشدُ وأسد، وهو أصلح للعباد، وأنفع للبلاد، وأبقى على وحدتها وتماسكها. والقاعدة هنا هي «ضرورة مراعاة حقوق الأقلية السنية بين الشيعة، أو الأقلية الشيعية بين السنة». إن احترام حقوق المواطنة بغض النظر عن فروق المذهبية من أهم العوامل المساعدة على التأليف بين الأمة. يقول حب الله: «لكي ترتاح الأكثرية عليها أن تمنح هامش الحرية الأكبر للأقلية الشيعية. وفي المقابل، ندعو الدول ذات الأغلبية الشيعية إلى أن تمنح حرية ًأكثر فأكثر للأقليات غير الشيعية، إنّ ذلك يدعو الأقليات إلى الراحة، فتُظْهِر أفكارها بشفافية، ويتداعى جدار انعدام الثقة». وتوجد مداخل أخرى للتأليف بين الفرق: دولية واقتصادية.. آثرت عدم ذكرها للاختصار. يتبع...