أعني بهذه المداخل أن مسالك التأليف بين الأمة ليست محدودة في مسلك واحد، أو لا ينبغي حصرها في واحد، بل هي متعددة. في ضرورة تعدد مسالك التأليف وتنوعها فلا نقتصر على مسلك واحد فقط، حتى إذا فشل أو كان نجاحه محدودا فشل مشروع التقريب برمته. وفائدة هذه المداخل المتعددة أنها تتكامل وتتعاون في ما بينها لتحقيق التقارب، فيؤثر بعضها على بعض ويدعم بعضها بعضا.. وبذلك تمنع المذهبية من التحول إلى الطائفية. يقول شلق: «إذا كانت الانقسامات الطائفية تحدث على قاعدة تحدد خطوطها التمايزات المذهبية والدينية، فإنه ليس بالضرورة أن يكون كل تمايز مذهبي وديني انقساما طائفيا. فالتمايزات الدينية والمذهبية ليست مشكلة في مجتمع مندمج وموحد، لكنها تتحول إلى مشكلة انقسام طائفي في مجتمع فاقد الاندماج والوحدة». وهنا، أتفق تماما مع الأستاذ الحاج الذي يعتبر أن ممارسة مهمة التقريب من خلال المدخل العَقَدي فقط: خطأ، أو أنها في أحسن الحالات لا تؤدي إلا إلى إنجازات محدودة وهشة. يقول في هذا المعنى: «المدخل العقدي للتقارب في الواقع يعزز الطائفية ويعمق الشقاق بدل أن يؤسس للتقارب، فالعقائد بطبيعتها أحادية وتقوم على حقيقة تكذب ما عداها. كيف يمكن للتقارب أن ينشأ من مدخل ذي طبيعة إقصائية؟! بالتأكيد، إن مدخلا كهذا يفرض لغة حوارية منافقة، تستمد مفرداتها من معجم المجاملات وادعاء التقارب الطبيعي والتاريخي الذي لا ينقصه سوى مزيد من الجهود لنشر فكرة التقارب، (.. إذن) المدخل العقدي الإقصائي هو أسوأ مدخل يمكن للمرء أن يرى فيه سبيلا إلى رأب التصدعات الطائفية، فخطورة هذا المدخل أنه ينقل الخلاف الديني إلى الصراع والاقتتال أو، على الأقل، لا يستطيع التقليل من مخاطره. لا شك أن الفتنة الطائفية ولدت في سياق سياسي، وبالتالي الدخول إلى التقارب المذهبي من غير الباب السياسي هو دخول خاطئ، فالاقتتال الطائفي في الشرق الأوسط يعود في جذوره إلى تحلل الرابطة الوطنية لعوامل مختلفة، وظهور الرابطة الدينية كأساس للتجمع والفعل السياسي، وليس بسبب جهل الآخر، ولا بسبب التركيز على الخلاف. كل هذه الأشياء في الواقع تستثمر غريزيا لأغراض سياسية. ومن الواجب إلغاء التقارب المذهبي المحشو بالطائفية لصالح التسامح الديني، بوصفه توافقا عقلانيا سياسيا وأخلاقيا وقانونيا لحرية الآخر والمسالمة معه. إن العمل من هذا المدخل (أعني: نزع الفتنة) بوصفه مدخلا سياسيا اجتماعيا من شأنه أن يرمم الرابطة الوطنية المنحلة، ويحقق الأمن والسلام في بلداننا». المدخل العلمي لكنني أختلف مع الكاتب في مسألة واحدة، وهي أن المدخل العقدي، أو العلمي، وإن كان قاصرا عن تحقيق التقارب، فإنه يساهم فيه وله مكانته وأثره. والقاعدة عندي في الموضوع ألا نهمل أي مدخل، ولا وسيلة، ولا أي شيء يمكن أن يفيد التقريب ولو خطوة واحدة. لذلك أرى أن تكون مداخل التأليف أربعة على الأقل. وهذا هو المدخل العقدي، وهو الذي ينصرف إليه الذهن أولا.. وكثير مما سبق، ومما سيأتي أيضا.. يتعلق بهذا المسلك التقريبي، لذلك لا داعي إلى الحديث فيه هنا. المدخل الاجتماعي وأساس هذا المدخل هو الزواج المختلط، أعني تزوج السني بالشيعية، والشيعي بالسنية. ومن البيّن أنه كلما كثر هذا النوع من الزواج إلا وساعد ذلك على تحقيق تقارب وتآلف بين الأمة، لأن صلة الدم والقربى قوية، وآثارها في الزمان ممتدة. وأظن من خلال متابعتي للأزمة العراقية أن من أقوى الأسباب التي حفظت النسيج العراقي من التمزق الكلي والنهائي هذه الصلات الاجتماعية بين مختلف طوائفه، والتي كان عمادها: الزواج والجوار، وإنما كان ينقص الصبر والحوار. وكانت هذه الزيجات المختلطة تقدر بالثلث، ويظهر أن الفقهاء من الفريقين يجيزون هذا الزواج، وإن كانت في المذهبين معا آراء إما بالتحريم أو بالكراهة. فالبغدادي، مثلا، يقول: إن المخالف من المعتزلة أو الشيعة أو الخوارج لا يحل «نكاحه لامرأة سنية. ولا يحل للسني أن يتزوج المرأة منهم إذا كانت على اعتقادهم». بينما يقول رضا: «خطب أحد كبار الإيرانيين بمصر فتاة من بيت بعض كبراء المصريين، فأرسل الحريم يستفتونني في ذلك سرا، فأفتيت بالجواز، واستدللت بأن هذا الخاطب من الشيعة الإمامية، وهم مسلمون، لا من البابية ولا البهائية المارقين من الإسلام، وإنما يمتنع تزويج هؤلاء والتزوج فيهم». ويؤسفني أن أقول: إن بعض الفقهاء المقتنعين بفكرة التقريب اضطروا إلى الرد على الخصوم وإقناعهم بجواز هذا الزواج المختلط وصوابه.. اضطروا إلى الاستدلال بشكل من القياس على تزوج المسلم بالكتابية، أي بقياس الأوْلى. وما كان ينبغي أن تجري هذه المقارنة أصلا، فإن للمسلم أو المسلمة مهما كان مذهبه شأنا عند الله تعالى لا يكون لغيره، لكن هذا نموذج لفقه الاضطرار من حيث الاستدلال. والمسألة، فقهيا، تنبني على الموقف من المخالف، فإن حكمنا بإسلامه جاز تزوجه والتوارث معه.. وإن كفرناه لم يجز شيء من ذلك. وإذا كان التزاوج بين أهل المذاهب يجوز، فإنني أقيده بشرطين، وكلّ من جوّز هذا النكاح أفترض أنه يقول ضمنا بهذين الشرطين، ليس فقط في التزواج بين المتخالفين في المذهب، بل في كل عقد زواج. ولم أر أحدهم نصّ على هذين الشرطين، ولكنني اهتديت إليهما باطلاعي على الموضوع، والله أعلم. وهما: أ- ألا يكون هذا الزواج بعقد متعة، ذلك أن الإمامي إذا تزوج بإمامية زواج متعة، فهذا شأنهما، وهما يريان ذلك حلالا، كما هو مذهب القوم. لكن لا يحلّ زواج الإمامي بالسنية زواج متعة، لأن هذا الزواج على مذهبها حرام وباطل. ولا بد لعقد الزواج أن يكون صحيحا على مقتضى المذهبين معا. ب- ألا يكون زواجا بنية التأقيت، وذلك بأن يعزم الرجل قبل العقد أو أثناءه على تطليق امرأته بعد أمد معين. فهذا يفسد الزواج، أو يبطله، لأن النكاح مبناه على حسن العشرة وتمام المودة ونية الخير والصلاح، واستبطان نية الفراق أمر فيه إذاية للمرأة، وإبطال لحكمة الزواج من أصله.. فمهما اطلِع على هذا العزم أو قامت عليه قرينة معتبرة شرعا.. فإني أرى عدم صحة هذا الزواج، فإن أدرك قبل الدخول فُسخ، وإن كان بعدها صحّ الزواج، وطُولب الرجل بتصحيح نيته. ودليلي في التفرقة بين المسألتين هو: مراعاة الخلاف. لكن الزواج المختلط لا يخلو من بعض المشكلات. وقد اعتنى بتلخيصها في مقالة نادرة في الموضوع: الأستاذ عطوي، من لبنان، مع العلم بأن لأبناء هذا البلد تجربة خاصة في هذا المجال. ولا بأس أن أنقل أهم ما كتبه فيها، قال: «إننا ومن خلال ما عايشناه من تجارب قد رأينا أن تديّن كل من الزوجين المتخالفين في المذهب وتشدّدَه في الالتزام بمذهبه يُقوّيان فرصَ التصادم بينهما في المسائل الخلافية التي لا يمكن التنازل عنها، ويزيدان في الحرج الواقع عليهما وعلى من حولهما، وبخاصة على الأولاد الذين سوف تتقاذفهم انتماءاتُ الأبوين، وحرصُ كل منهما على جعل الأولاد على مذهبه وطريقته. إن الذي يحدث غالبا هو أن قوة الضغوط التي يواجهها هذان الزوجان سوف تُودِي بمذهب أضعفهما، وهو المرأة غالبا، فإننا نراها تضطر إلى التنازل عن أفكارها ومعتقداتها تباعا، إما لأنها لا تستطيع فعل ما تعتقده حقا بداعي الخوف أو الحرج، أو لأنها قد صارت ترى الحق في مذهب زوجها فتلتزمه دون الذي كانت عليه. كذلك، فإن هذا الزواج سوف يُودِي بمذهب الأبناء، إذا سكن والدهم في بلد زوجته المخالفة له في المذهب، فإننا قد رأينا أن الأجيال التالية من الأبناء سوف تعتنق مذهب البلد الذي يعيشون فيه» . وإذ توضّحت لنا بعض مشكلات هذا الزواج، يمكننا أن نتكلم في بعض الحلول. وقد اختصرها عطوي في أربعة: «أولا: إن حسن المعاشرة حقٌّ لازم للزوج على شريكه، وهي تتقوم بركنيها الأخلاقي والشرعي.. وهما إن اختلفا وحالهما هذه من حسن المعاشرة فإن اختلافهما سوف يكون نبيلا وراقيا.. ومحدود الأثر والألم . ثانيا: إن على الزوجين أن يتفكرا حين الاختيار في المصاعب التي قد يعانيان منها من جهة الاختلاف في المذهب.. وعليهما أو على وليهما ألا يقدما على مثل هذا الزواج حيث يخشيان من عدم القدرة على النهوض بتبعاته والعجز عن مواجهة تحدياته.. ثالثا: إن على كل من الزوجين أن يوطن نفسه على قبول اختلاف الآخر عنه، وعلى احترامه لرأيه وموقفه، وترك التشنيع عليه والضغط عليه لتغيير ما يخالفه فيه من عقيدة أو شريعة أو عادة. كما أن على المخالف أن يوطن نفسه على سماع ما قد يزعجه من محيط شريكه من أهله وأصدقائه وذوي قرابته، كضريبة لعلاقته بهم.. رابعا: أما الأولاد الذين سوف يعيشون بين والدين متغايرين في بعض أفكارهما وأعمالهما، فإن على الوالدين اللذين يعيشان علاقة مستقرة أن يبينا لأولادهما أسباب ذلك الاختلاف ليقبلوه كحالة طبيعية هي عيّنة من مجتمع المسلمين الكبير. وإن على الأم أن تعتبر أن والدهم أولى بهم، فإن اشتد في أخذهم بمذهبه وطريقته، فإن عليها أن تخلّي بينه وبينهم، وتقبل ذلك منه وتترك التخريب عليه. وإن تسامح معها في مذهبها وأفسح المجال لها لتأخذهم بمذهبها، فلا ضير عليها حينئذ».. يتبع...