في الفكر العربي والإسلامي موقفان، إذا صحّ أن نسمي هذين الرأيين بالموقف: أحدهما ينكر الخلاف السني-الشيعي أصلا، والثاني يعترف به، لكنه يتجاهله ويتناساه. أما الذين يعترفون بوجود مشكلة سنية-شيعية، ويقرّون بهذا الخلاف، فهم الواقعيون، ويمكن أن أقسم مواقفهم إلى ثلاثة: الموقف المرحّب بفكرة التقريب، والموقف المتحفظ عليها، والموقف الرافض لها جملة وتفصيلا. فيكون مجموع المواقف خمسة، سنرى في مقال اليوم موقفين، وفي الغد ثلاثة مواقف. إنكار الخلاف أو تجاهله وهذا الرأي مع تهافته موجود، وله أصحاب. ذكر القاضي عياض أن هشاما وعبادا أنكرا وقعة الجمل ومحاربة عليّ من خالفه، ووصف هذا الإنكار بكونه مباهتة. قال الآمدي: «قد اختلف أهل الإسلام في ما شجر من الصحابة من الفتن، فمنهم من أنكر وقوعها أصلا، وقال: إن عثمان لم يحاصر ولم يقتل غيلة، وإن وقعة الجمل وصفين لم توجد، كالهشامية من المعتزلة». لكن هذا الرأي الطريف نادر، والأكثر منه هو تجاهل الخلاف، فكأنه لم يكن. يقول الأستاذ زكي الميلاد في أزمة العلاقة السنية-الشيعية: «من أولى جوانب النقد على هذه الأزمة أنها أحيطت بحساسية كبيرة تدفع البعض إلى أن يتجنب الاقتراب من فتح ملف هذه الأزمة ويثير الحوار حولها». وكان يمكن أن يُكتب النجاح لهذه الطريقة في النظر إلى الخلاف، أعني تجاهله تماما.. لولا أن النزاع فرض نفسه فرضا على بعض المجتمعات والدول.. حتى خرج ذلك إلى الإعلام العربي والعالمي. ورغم ذلك، فهذا الأسلوب لا يزال حيّا بين بعض مفكري الأمة وعلمائها. وكأن لسان حالهم يقول: كم حاجة قضيناها بتركها. وهم ما قضوا شيئا، بل حالهم كالمريض يتجاهل مرضه، ويتصرف كأنه صحيح معافى. وهذه الحيلة لا يمكن أن تنجح إلا إلى أجل. ويعتبر عبد الرحمن الحاج أن بعض دعوات الإصلاح بين الفريقين تعمل على تصغير مناط الخلاف إلى حدود الخلاف اللفظي. وهذا كما يقول «تفكير الهروب إلى الأمام، واتباع سياسة غض النظر عن الخلافات العميقة والجوهرية ربما بين أتباع الطائفتين. ونتيجة هذا النمط من التفكير.. هو تأجيل مواطن الخلاف. وسياسة التأجيل لا تعني سوى بقاء الوضع (الشقاق) على ما هو عليه، وإغماض العينين عن حقيقته وخطورته، إلى أن يأتي الوقت الذي تنفجر فيه هذه الخلافات دفعة واحدة وبشكل دموي عندما يتاح لها البروز في ظرف من الظروف. بالتأكيد المثال العراقي شاهد لا يحتاج إلى توضيح. الاعتراف بالخلاف هذا فريق من أهل العلم -وهم الأكثرية بين السنة والشيعة معا- يقرّ بوجود أزمة سنية-شيعية، فهذا هو الجامع بينهم. ثم يختلفون في تقدير خطورة الخلاف، وفي الموقف منه، وفي أسلوب معالجته.. وهم ثلاثة أقسام: منهم من يهوِّن من قيمة النزاع ودرجته، وأسمي هؤلاء: «أصحاب نظرية التهوين». ومنهم من يدرك أهمية الخلاف ومداه وخطورته، لكنه: إما يرحب بفكرة التقارب بين السنة والشيعة، وإما يتحفظ عليها، وإما يرفضها. نظرية التهوين من شأن الخلاف بين الفريقين وأصحاب هذه النظرية العتيدة كثر، وهم يحسبون أن التقليل من حجم المشكلة كفيل بإصلاح كل شيء. فهؤلاء يعبرون عن نياتهم الحسنة أكثر مما يقدمون رأيا علميا مدروسا. وموضوعنا هذا لا تكفي فيه فقط النية الطيبة. والنصوص هنا كثيرة، يقول الشيخ طبارة مثلا: «الشيعة طائفة من طوائف المسلمين، ومذهب من مذاهب الإسلام، يتفقون مع مذهب أهل السنة في أصول الإسلام، ولا يختلفون معهم في أي ركن من أركان الإسلام. ولئن كان هناك خلاف (قلتُ: أنظر كيف يفترض وجود الخلاف أصلا)، فهو خلاف طفيف في بعض الفروع، وهو شبيه بالخلاف بين المذاهب الأربعة، وبين الفقهاء بعضهم مع بعض». ووفق هذه النظرية، فإن طبيعة الخلاف السني-الشيعي هي نفسها طبيعة اختلاف المالكية والأحناف..لا فرق. يقول الشيخ محمد سيد طنطاوي: «لا فرق بين السنة والشيعة.. وإن الخلاف إن وجد فهو خلاف في الفروع، وليس في الثوابت والأصول، والخلاف موجود في الفروع بين السنة، بعضهم البعض، والشيعة بعضهم البعض». والشيخ القمي -مع معرفته بالموضوع- يلح كثيرا في ما يكتبه على هذه الفكرة البسيطة والتبسيطية. وقد قرأت معظم مقالاته، فوجدته من غلاة أهل التهوين، يقول مثلا: «الخلاف بينهم ليس على الأصول، وأن كثيرا من الشبه التي وجدت في أفكار كل طائفة عن الطائفة الأخرى، ليست إلا من صنع المفترين، وأن الخلاف بينهم غالبا شبيه بخلاف الفقهاء في أن واحدا يجهر بالبسملة في صلاته والآخر يسرّها، وأن واحدا يمسح على القدمين والآخر يغسلهما، ونحو ذلك».. ويحلو لأصحاب نظرية التهوين أن يؤكدوا أن الاتفاق بين الفريقين يصل إلى نسبة تسعين أو خمسة وتسعين في المائة من الدين، وأن الخلاف لا يتعلق إلا بخمسة في المائة منه. وهذه طريقة عجيبة، فعلا، في قياس مدى الخلاف بين الفرق الإسلامية. وأستطيع أن أتفهم هذا الموقف منذ قرن أو نصف قرن، حين لم تكن المشكلة المذهبية بهذا السوء الذي هي عليه اليوم، رغم أن عين أي دارس متفحص لا تخطئ ملاحظة أن هذه القضية كانت دوما حاضرة في تاريخنا.. لكن العجيب أن يصر بعض أهل العلم على فكرة التهوين هذه إلى اليوم، ولست أدري أي مصائب أو كوارث أكبر مما وقع، ويقع، ينتظرها هؤلاء ليدركوا أخيرا -أعني بعد فوات الأوان- أن الخلاف السني-الشيعي ليس سهلا ولا مأمون العواقب والمآلات.. وأنه خلاف جديّ وخطير. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فإن «نظرية التهوين» تقترب أحيانا من نوع من التلبيس أو التدليس الخطر، كما في هذا الكلام للشيخ محمود عاشور: «الاختلاف بين السنة والشيعة لم يكن إلا مجرد خيال سيطر على الطرفين. فالمصحف واحد، والقرآن واحد».. ويا ليته كان خيالا، يا ليت..! ويقول غيره: أما المتشددون أصحاب الرأي الجامد من الشيعة، فهؤلاء كانوا في الماضي، ولم يعد لهم اليوم أثر يذكر. وكان بعض هؤلاء المهونين يدعون ببساطة إلى اندماج المذاهب في مذهب واحد، وليس مجرد التقارب بينها. وهنا مسألة مهمة جدا، وهي أن أصحاب نظرية التهوين لم يقدموا في الغالب شيئا ذا بال لعلاج هذه «المشكلات الصغيرة» وتجاوز هذه «الخلافات الطفيفة» بين الفريقين، ولا لإيقاظ هؤلاء الذين يتخيلون الخلاف من حلمهم المزعج. وهذا الأستاذ الشكعة، مطلع على قضايا الفرق وكتب فيها كتابه المعروف «إسلام بلا مذاهب،» يقول مثلا: «نحن نستطيع أن نقول: إنه لا يوجد الخلاف الذي يؤدي إلى هذه الفرقة الطويلة الخطيرة بين السنة والإمامية والزيدية والإباضية، اللهم ما كان نتيجة الجهل والجمود والتعصب عند بعض من ينتسبون إلى واحد من هذه المذاهب ممن جعل العامة لهم مكانة دينية مرموقة. فمن الميسور، إذن، أن تقترب هذه المذاهب الواحد من الآخر في سهولة ويسر، وأن تلتقي في صواب الطريق، وأن تعقد الجلسات والمؤتمرات التي تظللها السماحة ويكون رائدها الخير للإسلام والمسلمين.. ونحن نعتقد مخلصين أنه لو حسنت النيات، وألقيت رواسب الماضي البعيد جانبا، لخرجنا من هذه المحاولات صفا واحدا لا يفرق جماعة من جماعة إلا كما يحدث من خلاف بين أئمة المذهب الواحد»، وكأنه لا يعلم أنه قد عقدت فعلا مؤتمرات ومؤتمرات.. فالمسألة ليست أبدا بهذه البساطة. ويظهر لي والله أعلم أن أكثر المقللين من شأن الخلاف هم من أهل السنة، ربما لأن الشيعة أكثر إدراكا ومعرفة بقضايا النزاع بين الفريقين، بحكم أنهم الأقلية، فالشيعي يشعر بأنه مختلف عن السني، ولا بد أن يعرف شيئا من أسباب هذا التميز وطبيعته. يتبع...