"التاريخ لا يتحرك بخط مستقيم، بل يتقدم عبر تناقضاته." – هيغل حين نعيد قراءة تاريخ الاشتراكية، نجد أنفسنا أمام لحظتين محوريتين: لحظة لينين، حيث تأسست الدولة السوفييتية على أنقاض الإمبراطورية القيصرية، ولحظة دينغ شياو بينغ، حيث شهدت الصين تحوّلًا عميقًا في مفهوم الاشتراكية دون التخلي عن جوهرها. بين هاتين اللحظتين، تتجلى استمرارية فكرية تتجاوز الشخوص والأزمنة، استمرارية يمكن تلخيصها في سؤال واحد: كيف يمكن للثورة أن تبقى حية دون أن تلتهم ذاتها؟ النظرية والتطبيق: براغماتية لينين ودينغ رأى لينين أن الثورة لا تنتهي بإسقاط النظام القديم، بل تبدأ حين تسعى إلى بناء نظام جديد، قادر على الصمود أمام تناقضات الواقع. وحين وجد أن الاقتصاد السوفييتي ينهار بسبب شيوعية الحرب، لم يتردد في طرح "سياسة الاقتصاد الجديد" (NEP)، التي سمحت بعودة محدودة لآليات السوق. كان هذا المنطق ذاته هو ما حرّك دينغ شياو بينغ بعد عقود. فبعد إخفاقات "القفزة الكبرى للأمام" و"الثورة الثقافية"، أدرك أن الاشتراكية لا تعني الجمود، بل القدرة على التكيف مع التحولات، فقال: "لا يهم لون القطة، طالما أنها تصطاد الفئران." مثل لينين، لم ينظر دينغ إلى الاقتصاد كمسألة تقنية، بل كمعركة سياسية تهدف إلى تعزيز قوة الدولة الاشتراكية، وليس تقويضها. الاشتراكية والسوق لم يكن إدخال آليات السوق في الاتحاد السوفييتي أو الصين مجرد "تنازل" للرأسمالية، بل كان خطوة ضرورية لضمان استمرار المشروع الاشتراكي. وكما قال لينين: "علينا أن نخطو خطوة إلى الوراء، حتى نتمكن من التقدم خطوتين إلى الأمام." دينغ شياو بينغ طبق هذا الدرس بوعي شديد، فأطلق "الإصلاح والانفتاح"، حيث تم تفكيك الكومونات الزراعية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، ومنح الشركات المملوكة للدولة استقلالية نسبية، كل ذلك تحت إشراف الحزب الشيوعي لضمان عدم انحراف الاقتصاد نحو الرأسمالية المتوحشة. استقرار النظام وتحقيق التنمية ما يميز تجربة الصين عن الاتحاد السوفييتي هو أن دينغ، على عكس غورباتشوف، لم يسمح بإصلاح سياسي متهور يهدد استقرار الدولة. فقد فهم أن الحزب الشيوعي هو الضامن الوحيد لاستمرار الاشتراكية، حتى لو كان ذلك يعني استخدام القوة في بعض اللحظات، كما حدث في تيانانمن عام 1989. لينين كان ليرى في هذا الموقف استمرارًا لنهجه، فقد كتب ذات مرة: "الثورة تحتاج إلى حزب قوي، قادر على القيادة بقبضة حديدية عند الضرورة." الديناميكية المتطورة رأى دينغ أن الفقر لا يمكن أن يكون جزءًا من المشروع الاشتراكي، وأن السماح لبعض الأفراد والمناطق بالثراء أولًا قد يكون وسيلة لتحقيق الازدهار المشترك لاحقًا: "دع بعض الناس يثرون أولًا، ثم سيلحق البقية." هذا الموقف يذكرنا بمقولة لينين: "الاشتراكية ليست توزيع الفقر، بل تنظيم الإنتاج لصالح الجميع." وبالفعل، أثبتت الصين عبر العقود اللاحقة أن النمو الاقتصادي في ظل الاشتراكية ليس فقط ممكنًا، بل ضروريًا. هل كان دينغ لينينيًا؟ إذا كان جوهر اللينينية هو المرونة في التطبيق، فإن دينغ شياو بينغ كان أحد أكثر القادة اللينينيين بعد لينين نفسه. لقد أخذ المبادئ الأساسية – دور الحزب، الاقتصاد الاشتراكي، أولوية الدولة – وطبقها بطريقة تتناسب مع شروط عصره، متجنبًا الأخطاء التي قام بهت السوفييتين بعد رحيل ستالين، والذين اعتقدوا أن الاشتراكية يمكن أن تتطور وفق مسار خطي ثابت. اليوم، تقف الصين كثاني أقوى اقتصاد في العالم، ليس لأنها تخلت عن الاشتراكية، بل لأنها أعادت تعريفها وفق شروط جديدة. وهذا بالضبط ما فعله لينين قبل قرن من الزمن، حين أدرك أن الجمود هو العدو الأول للثورة. الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه الاستمرارية التاريخية هو أن الاشتراكية ليست عقيدة مغلقة، بل عملية مستمرة من التجريب والتطوير، حيث يكون الهدف دائمًا هو الحفاظ على سلطة الطبقة العاملة، ولكن بأدوات تتغير بتغير الزمن. "الاشتراكية ليست نموذجًا جاهزًا، بل سيرورة دائمة." – فلاديمير لينين