سبق لكاتب هذه السطور أن زار الصين، وانثالت الذكريات، باستعادة ما كتبه وقتها، اي منذ 4 سنوات خلت: صبيحة اليوم الثالث لوصولنا، كان موعدنا، حسب البرنامج مع أول درس يلقيه خبير في الشؤون الاشتراكية وباحث كبير في الصين . عندما دخلنا القاعة ، وجدنا الاستاذ زهانغ كسينغكسنغ، وهو نائب رئيس معهد الابحاث الصينية ، بمثابة اكاديمية للعلوم السياسية والاستراتيجية. وجهه الدائري وعيناه المنتفختان تحيلان على وجه كاهن بوذي غارق في التركن والسكينة. سبقنا إلى القاعة بغير قليل من الوقت، تحدث الخبير والأستاذ المرجع عن المنظومة الاشتراكية وخصائص التجربة الصينية، والتي صقلتها 60 سنة من الحكم الشيوعي، وبنتها أفكار ماو منذ البداية بعيدا عن النموذج السوفياتي. وهي المنظومة التي ستتخذ طابعا خاصا مع سياسة الانفتاح التي دشنها الحزب بقيادة دينغ كسياو بينغ في 1978 وهي العملية التي هدفت إلى تسريع وتيرة التحديث والرفع من امكانية العيش الكريم . وكان المؤتمر 17 للحزب الشيوعي مناسبة لكي يؤكد على اشتراكية ذات خصائص صينية ، تنطلق من إصلاح ما تراكم منذ البداية ولعل أهمها الطريق المتعرج الذي سلكته الثورة، باعتماد الملكية العامة والحكم المطلق والتحكم الحديدي فيها. بما يعني ذلك من مقدمات ايديولوجيا تعتبر الصراع الطبقي مركزيا وأساسيا، والبلاد لا بد لها من اقتصاد أحادي ممركز والتوزيع لا بد من أن يكون مشاعا موحدا مطلقا. وللخروج من الانغلاق، لخص الحزب تجربته في ضرورة الخروج من مقولة الصراع الطبقي الى تحرير قوى الانتاج ، وإعادة النظر في المركزية المطلقة ، والسماح بعلاقات إنتاج جديدة تتيح ملكيات أخرى غير ملكيات الدولة وتوزيع الثروة حسب العمل ، مع الحرص على التعامل مع الدول الرأسمالية للاستفادة والتعلم، وهو ما صاغه المؤتمر 14 للحزب، المنعقد في 1997 في عبارة »اقتصاد السوق الاشتراكي« وركزه المؤتمر الذي تلاه في عهد زيان زيمينغ وجين تاو، الزعيم الحالي ، بصياغة الاشتراكية المستدامة! وبذلك تكون التجربة الاشتراكية الصينية هي تراكم تجارب الاصلاح والتحديث . وتدين الصين الحديثة لدينغ كسياو بينغ بالكثير، وبقدرته على وضع البرنامج السياسي والاقتصادي الذي صنع قوة البلاد. ويشعر الباحث كسينغ كسينغ أن تجربة الصين تتعرض للانتقاد والتشويه، من طرف غلاة الماركسية اللينينية، الذين يعتبرون بأنها حادت عن النموذج المسلوك، ومن طرف الليبراليين الذين يرون أنها ما زالت تخضع للحزب الشيوعي الأحادي، وتختلف أنواع الهجوم من إغراق البلاد بالعملة، إلى محاربتها في منتديات التجارة العالمية، وباسم حقوق الانسان ومشاكل الأقليات. وبالرغم من ذلك لا تنوي الصين الخضوع للضغوطات، حسب الباحث والمسؤول الاكاديمي، وهو يعزو الى دينغ كسياو بينغ قولته الشهيرة بأن الغرض من تجربتنا الصينية الخصوصية هو اقامة نظام أكثر تطورا من النظام الرأسمالي من حيث مكاسبه وانعكاساته على الحياة الكريمة في البلاد. وهو ما يبدو أن الازمة العالمية قد برهنت على صدق نبوءته، لأن الصين لم تمس بها. أتيحت لنا الفرصة لمناقشة العرض، وطرح أعضاء الوفد المغربي، وكانت بيننا أفيلال شرفات وزيرة الماء حاليا وكانت الاجوبة بلا مواربة حقا. كان الباحث كسينغكسينغ يتحدث بدون أن تتحرك شفتاه! وقلما تتحرك يده ، بدا مثل صورة. اعتبر بأن ماو تسي تونغ » ماو زيدونغ«، كما ينطقها هو وأهل بلده، أخطأ في أيامه الاخيرة، لكنه كان قد قام بأشياء جيدة، وجاء دينغ كيساو بينغ لكي يعمل على تطور التجربة وإصلاحها والدفع بها إلى مراتب أفضل. وهو نقد ذاتي يقول اسمه علانية لكنه لا يصل إلى النفي الذاتي، الذي طالما أغرانا نحن كلما انتبذنا لنا مكانا في السلطة أو في الوهم المرتبط بها. وفي العلاقة مع الجانب الروحي الذي يشكل نقطة توتر فيي عهد ماو، قال الباحث الاكاديمي بأن السعي الى العدالة مشترك بين كل الاديان ، وماركس حاول فقط استكمال ذلك بتحليل منطقي وملموس بناء على نقاشات الوجود والانتاج. لم يقدم الصينيون دروسا ولا أرادوها ، وألحوا على أن لكل شعب خصائصه بالرغم من وجود عناصر مشتركة في تجاربها أو هياكلها. وتجمدت ملامح الباحث عند الحديث عن حقوق الانسان فقال عبارة جافة: »حقوق الانسان بالنسبة للدول النامية تعني الحق في البقاء والتطور، والحقوق تصاغ على أساس رضى الناس. وقال الباحث إن الاشتراكية تمر مع ذلك بمرحلة صعبة ، ولو أن الازمة الاخيرة هزت الثقة العمياء في الرأسمالية ، وما اثارنا فعلا هو حضور الخطاب الاخلاقي في العرض وفي الاجابات. وقد كرر قضية الاخلاق مرارا ، على أساس أنها تمنع مجتمع النزعة الفردية القاتلة .. يعرض الصينيون من خلال ما عرضوه علينا بأن هناك قوى سموها القوى اللينة ( القوى الثقافية أو سلط النفوذ المعنوي) مازالت هشة مقارنة مع القوى الصلبة، ويعنون بها السلطات التي تملك قوة المادة أو قوة القانون والإيديولوجيا. وهو ما يجعل دور الدولة مضاعفا لأنها لا تدبر السياسة وحدها بل تدبر أيضا الادارة الاجتماعية. وفي ذلك، فالصين لا تتردد في الاستعانة بالخبرات الاجنبية، ومنها إرسال باحثين إلى معاهد أمريكية كما هو حال معهد واشنطن. في الصين لا فصل بين السلط ، بل هناك توازن بينها. في الصين تقوم الاحزاب ال8 المشاركة إلى جانب الحزب الشيوعي بالمراقبة . والصين اليوم تسعى الى بناء توزان جهوي يعوض التخلف الاقتصادي والتاريخي.. وقد كنا بالفعل في الموعد في تمام الساعة الثانية و30 دقيقة ونحن نغالب الفارق الزمني، الديكالاج الزمني الذي يجعل التوقيت المذكور يزامن الساعة السادسة صباحا في بلادنا، وهي ساعة نكون وقتها في السرير لا نزال. على كل دخلنا إلى قاعة الفصل، وتسلمتنا المسؤولة عن المدرسة الحزبية، السيدة لي يانكي وهي باحثة ونائبة المدير العام لمدرسة الحزب التكوينية. جاءت بقصتها الذكورية وملابسها العادية للغاية وإلقائها البسيط والرتيب لتخبرنا عن كيفية الارتقاء بالممارسة السياسية للحكم في الصين. وهو موضوع سنعود اليه بالتفصيل ، مع ما قدمته باحثة اخرى عن المخطط الخماسي ال12،والذي وضع اهدافا له تحقيق المجتمع الرغيد .. في العلاقات الحزبية، يحرص الصينيون على تمكين تنظيمهم من القدرة على التعبئة الاجتماعية، بتنفيذ القرارات بحذافرها، والاعتماد الفعلي على التنظيمات، بما في ذلك القدرة على التعامل مع الكوارث الاجتماعية . في القاموس السياسي للمسؤولة الصينية أفكار لم نطلع عليها في منظومة الافكار القريبة منا. ومن ذلك الحديث عن تطوير أسلوب الحكم لضمان زمن أطول باعتماد التحليل الصحيح للأوضاع، وتقوية المورد التاريخي للسلطة ، ومورد الثقة والموارد التنظيمية المتعارف عليها. وأسلحة الحزب هي الجبهة الداخلية كالوحدة، والجيش الثوري والبناء الحزبي القوي. يعترف الصينيون أن أمامهم مسافة طويلة ،وأن الكثير من العيون تتخلل ممارسة حزبهم. وهم يدركون »أن امتلاك المكانة في التاريخ القديم لا تعني امتلاكها في الحاضر ،وامتلاكها في الحاضر لا يعني امتلاكها في المستقبل« ولهذا فإنهم يعززون حاسة اليقظة والوعي بالمخاطر وينمون الاستشعار عبر قراءة التجارب الأخرى. وقد زرنا المتحف الثوري فوجدنا قاعة مخصصة لعرض التجارب الفاشلة في الاتحاد السوفياتي وفي اليابان والمكسيك. وسيتضح لنا من بعد أن كل الذين كانت المدرسة تقوله نظريا سنشاهده مشاهدة العين عمليا في ما تلا من الزيارة، وكمثال على ذلك أن أي زعيم وأي مسؤول لا يمكنه أن يترقى إذا هو لم يخضع للتكوين، وعندما زرنا مدرسة الحزب في غوانكسي، وجدنا أن القوة الاساسية في التكوين والمعرفة. وأن الجميع يخضع لنظام صارم من الأنظمة الداخلية، حيث يتخلى المسؤولون عن نياشينهم ويتلقون التكوين المتجدد في العلوم الاجتماعية وفي علوم العالم الحديث ومن ذلك تلقي المسؤولين تكوينا حول المخطط الحماسي للتطور الاجتماعي والاقتصادي . وفي الحزب ثلاثة معاهد للتكوين، معهد بوذونغ وهو معهد لتلقي أحدث المعلومات حول التحديث نفسه، ومعهد جبل شانغهاي، لتدريس التقاليد الثورية للحزب، والذين يعرفون القليل من تاريخ الماوية يدركون لماذا اختيار شانغهاي ويتذكرون ولا شك وثيقة الحزب السري الشيوعي في شنغهاي التي كتبها ماو تسي تونغ وكانت تنسخ سرا في مقراتنا وفي جامعاتنا. ثم معهد يانغ للتنبيه إلى مشاكل الواقع وأنواع التخلف في الصين، لأن المنطقة نفسها تعاني من التخلف. وكل من المسؤولين الذين استقبلونا تلقوا التكوين ووجدنا عاملا من عمال الدولة، وليس عاملا من الطبقة العاملة يتلقى تكوينه، كما أن الوزراء أنفسهم يتلقون التكوين. () . كان آخر لقاء مع التقديم النظري لما يحدث في الصين ولما سيحدث مع الأستاذة تشاو لي، الاستاذة بالمدرسة المركزية، والخبيرة صاحبة العديد من المؤلفات والمحاضرة في العديد من المنابر. بدت بملامح قريبة من امرأة غربية، بأنف دقيق وفم كأضمومة زهرة، وشعر ألحت على أن تجعله في قصة وقورة، كما يليق بامرأة تعلم الشيوعيين الصينيين معالم التفكير الاقتصادي. كانت السيدة تشاو تلقي علينا ما سيقوم به بلدها في التخطيط الخماسي المقبل، وما تنوي الصين أن تحله من مشاكل وأن تعالجه من قضايا. وقد فهمنا من بعد أنها الحصة الأخيرة لتقريبنا من الواقع الملموس الذي سنزوره في كل من جهة غوانكسي وجيجيانغ. واطلعتنا الاستاذة أن الخطوط العريضة للبناء الاقتصادي الصيني تتم مناقشتها في اللجنة المركزية، كما يمكن أن نتوقع في حزب يعتمد التدبير الممركز، وهو ما يمكن أن يدفعنا إلى التفكير في طبيعة اعضاء هذه اللجنة وقدرتهم على التفكير والخبرة الاقتصادية. ويعتمد المخطط ال12 للبناء الاقتصادي على مراحل متوالية أولها ما يسميه الصينيون بمرحلة الاصلاح والبناء، وتشمل بناء مجتمع العيش الرغيد، أو الرخاء بلغتنا. وهنا ندرك أن المرحلة ما هي الا مقدمة لما تريده الصين فعلا في عام 2020 . وهو التاريخ الذي حددته لكي يسود فيه مجتمع العيش الرغيد . واذا كنا قد فككنا شفرة الصينيين، فإن ذلك يعني أنهم سيحلون مشاكل العيش الأولية، من بناء ومسكن ومأكل ودراسة وتطبيب الخ في هذا التاريخ لكي يفتحوا المرحلة التالية، والمتعلقة بالاستجابة للضرورات الديموقراطية. وتعد المرحلة ما بين 2010 و2020 في القاموس الصيني مرحلة الفرصة الاستراتيجية، بما يعني ذلك من كون الاهداف المتعلقة بالتنمية والتعاون والتوجه نحو التعددية السياسية ستجد خميرتها في هذه اللحظة. ويفكر استراتيجيو الصين في الوضع الدولي، بما أنهم من أكبر الفاعلين ويبنون توقعاتهم على أساس أن دور المجموعة 20 كان اساسيا في احتواء الازمة العالمية ،بيد أن هذه المجموعة بدأت تكسب نقطا على حساب دور مجموعة 8 أو مجموعة الدول الكبرى، حيث يعتبر التحول في صالح الدول النامية. ولا يخفي الصينيون أنهم استفادوا من العولمة ، منذ انطلاق الموجة الاولى في 1980، أي عولمة التجارة والمال، والموجة الثانية بانطلاق عولمة التقنية والخدماتية. وفي الموجة الثالثة ، العولمة العلمية التي ستبيح للصين القدرة على الانتقال من شعار إلى آخر، والاساسي هو القدرة على الابداع. الصين تعلن في مخططها عن شعارها بالقول : استيراد، تقليد، ثم ابتكار. وتعتبر الصين أنها تجاوزت المرحلتين أو في طور تجاوزهما، لكنها اليوم تهييء للابتكار ، وفي كل ذلك تبحث عن المظلة الاجتماعية للعاملين وللشعب الصيني برمته . والترجمة العملية لذلك كله، هو اعتبار المخطط الخماسي الذي سيمتد إلى حدود 2015 هو مخطط التنمية العلمية. والعلم هنا أولا تسهيل التواجد الكبير للكفاءات والطاقات العلمية ذات المستوى العالي، ومعالجة المشاكل الخاصة بالعدالة وتوزيع الثروات . فالصين تقول السيدة تشاو لي ركزت على الكم وآن لها اليوم أن تركز على الجودة ، كما أنها تعي بأنها تأخرت في الانخراط في حماية البيئة ، حماية صحة المواطن واليوم تفكر في ذلك بجدية وعن طريق العلم. ولا يهمل المخطط القضية الثقافية بالرغم من أن الميزانية المخصصة لها هي 2 % من مجموع ميزانية الدولة، لكن تعي الصين بأن تشجيع الصناعة الثقافية عن طريق إشراك الفاعلين الاخرين من الخواص أصبح ضرورة، لا سيما وأن جزءا كبيرا منها يتحكم فيه السوق أكثر من الدولة ( الفن ، السينما... إلخ).