في الصين وجدنا الماوية حية، ولم نجد ماو. ولم نجد إلا صورا ليلية له، وجسدا مسجى حيث لم نره. وجدنا البلد في القرن القادم، ووجدناها أيضا في الزمن الذي مضى. في الصين عدنا إلى مقاعد الدراسة كما يحلو للصينيين أن يفعلوا عندما يريدون أن يقتسموا معك رغيف تجاربهم. بنفس الابتسامة والصرامة أيضا، يستقبلونك لكي يعلموك ما لا يمكن أن تعلمه خارج بلادهم. الشينوا صغيرة كثيرا، تكاد تكون ضحلة وتافهة أمام تواضعهم الجم. من الصين تعود بالانبهار وبالكآبة أيضا: منبهرا بما تراه من تجربة بلد وشعب بملايير السكان، وكئيب لما تعرفه عن بلادك وعن الأشياء التي من أجلها يتصارع الناس. لم يكن منا أحد لم يتذكر ابن بطوطة، سرا أو علانية، ونحن نركب الطائرة الذاهبة باتجاه الصين. وكنا حفدته الذين لم يتصوروا أنهم سيحملون آلات تصوير وحواسيب، وهواتف نقالة وهم يذهبون إلى البلاد التي أذهلته. لم نكن قد أصبحنا في نفس درجة التبتل التي وصلها وهو يروي سيرته... كنا نتعرف على بعضنا البعض: الإخوان في الاتحاد الاشتراكي، الإخوان في حزب الاستقلال والرفاق في التقدم والاشتراكية. الكتلة تصل المطار من أجل أن تقتفي خطى ابن بطوطة، ولكن في السماء هذه المرة. الرحلة ستدوم 15 يوما. فقط ستدوم ولا شك عمرا بكامله بعد العودة، أو هكذا مااكتشفناه من بعد. كان الفندق يضم 8 أجنحة، وكل جناح بأربعة طوابق، لهذا كان رقم الغرفة يبدأ برقم الجناح، ثم الطابق وبعدها الرقم الفعلي للغرفة. كلنا أقمنا في الطابق الرابع لفندق وانزهعو، الذي لا يوجد في وسط المدينة بيكين، بل في المحيط الرابع لها أو الحزام السكني الرابع لها، على طريق الاوطوروت. صبيحة يوم الاربعاء، أي في اليوم الثالث لوصولنا، موعدنا ، حسب البرنامج مع أول درس يلقيه خبير في الشؤون الاشتراكية وباحث كبير في الصين. قبل اللقاء ، كان علينا أن نتناول فطورنا، وهو مقرر عمليا ابتداء من السابعة صباحا، وبعده نتوجه إلى « الفصل»، وهو قاعة في الفندق الذي نقيم فيه . في بهوه ، وضعت كراسي امبراطورية حقيقية تذكرنا بالمصطبات العثمانية الكبيرة، ارائك من خشب عتيق وبلون ملكي قان صفت على طول الجدار المقابل للمدخل. جلست هناك بعد الفطور، واقترب مني شخص صيني، بادرني بالكلام بالعربية. عرفت أنه مرافق مترجم لوفد اردني يزور الصين. كان الوجه الدائري للصيني يقترب مني في الوقت الذي ظل الاخ العربي ينظر إلي من بعيد. مجرد تسجيل بسيط في دولة معقدة. عندما دخلنا القاعة ، وجدنا الاستاذ زهانغ كسينغكسنغ، وهو نائب رئيس معهد الابحاث الصينية ، بمثابة اكاديمية للعلوم السياسية والاستراتيجية. وجهه الدائري وعيناه المنتفختان تحيلان على وجه كاهن بودي غارق في التركن والسكنية. سبقنا إلى القاعة بغير قليل من الوقت، الشيء الذي دفع المكلف بتقديمه إلينا وأحد المسؤولين عن العلاقات الخارجية إلى التحدث إلينا في الموضوع. كان هو هايلين، هذا هو اسمه يجيد العربية، لكن لكي يعطي لكلامه الطابع الرسمي حدثنا بالصينية وتكلف فانغ لو ، صالح الصيني، ترجمة ما يقوله. كان درسا في احترام الوقت. قال لنا بأنهم في الصين يتناولون فطورهم في السابعة صباحا والغذاء في منتصف النهار والعشاء في الخامسة مساء. ولا يتناولون القهوة ولا يتناولون السكر، بمعنى أنهم لا يسهرون حتى ينامون الصبيحة كلها.فهمنا المغزى ، وقلنا هي تركتنا التي جئنا بها من المغرب السكري الحلو!!. تحدث الخبير والأستاذ المرجع عن المنظومة الاشتراكية وخصائص التجربة الصينية، والتي صقلتها 60 سنة من الحكم الشيوعي، وبنتها أفكار ماو منذ البداية بعيدا عن النموذج السوفياتي. وهي المنظومة التي ستتخذ طابعا خاصا مع سياسة الانفتاح التي دشنها الحزب بقيادة دينغ كسياو بينغ في 1978 وهي العملية التي هدفت إلى تسريع وتيرة التحديث والرفع من امكانية العيش الكريم . وكان المؤتمر 17 للحزب الشيوعي مناسبه لكي يؤكد على اشتراكية ذات خصائص صينية ، تنطلق من إصلاح ما تراكم منذ البداية ولعل اهمها الطريق المتعرج الذي سلكته الثورة، باعتماد الملكية العامة والحكم المطلق والتحكم الحديدي فيها. بما يعني ذلك من مقدمات ايديولوجيا تعتبر الصراع الطبقي مركزيا واساسيا، والبلاد لا بد لها من اقتصاد أحادي ممركز والتوزيع لا بد من أن يكون مشاعيا موحدا مطلقا. وللخروج من الانغلاق، لخص الحزب تجربته في ضرورة الخروج من مقولة الصراع الطبقي الى تحرير قوى الانتاج ، واعادة النظر في المركزية المطلقة ، والسماح بعلاقات انتاج جديدة تتيح ملكيات اخرى غير ملكيات الدولة وتوزيع الثروة حسب العمل ، مع الحرص على التعامل مع الدول الرأسمالية للاستفادة والتعلم. وهو ما صاغه المؤتمر 14 للحزب، المنعقد في 1997 في عبارة «اقتصاد السوق الاشتراكي» وركزه المؤتمر الذي تلاه في عهد زيان زيمينغ وجين تاو، الزعيم الحالي ، بصياغة الاشتراكية المستدامة! وبذلك تكون التجربة الاشتراكية الصينية هي تراكم تجارب الاصلاح والتحديث . وتدين الصين الحديثة لدينغ كسياو بينغ بالكثير، وبقدرته على وضع البرنامج السياسي والاقتصادي الذي صنع قوة البلاد. ويشعر الباحث كسينغ كسينغ أن تجربة الصين تتعرض للانتقاد والتشويه، من طرف غلاة الماركسية اللينينية، الذين يعتبرون بأنها حادت عن النموذج المسلوك، من طرف الليبراليين الذين يرون أنها ما زالت تخضع للحزب الشيوعي الاحادي، وتختلف انواع الهجوم من اغراق البلاد بالعملة، إلى محاربتها في منتديات التجارة العالمية، وباسم حقوق الانسان ومشاكل الاقليات. وبالرغم من ذلك لا تنوي الصين الخضوع للغلوطات، حسب الباحث المسؤول الاكاديمي، وهو يعزو الي دينغ كسياو بينغ قولته الشهيرة بأن الغرض من تجربتنا الصينية الخصوصية هو اقامة نظام اكثر تطورا من النظام الرأسمالي من حيث مكاسبه وانعكاساته على الحياة الكريمة في البلاد. وهو ما يبدو أن الازمة العالمية قد برهنت على صدق نبوءته، لأن الصين لم تمس بها. اتيحت لنا الفرصة لمناقشة العرض، وطرح اعضاء الوفد المغربي، ومنهم الكوهن، و البورقادي وبنسالم وشرفات وابو الفضل ، وكانت الاجوبة بلا مواربة حقا. كان الباحث كسينغكسينغ يتحدث بدون أن تتحرك شفتاه! وقلما تتحرك يده ، بدا مثل صورة. اعتبر بأن ماو تيسي تونغ « ماو زيدونغ»، كما ينطقها هو واهل بلده، اخطأ في ايامه الاخيرة، لكنه كان قد قام باشياء جيدة، وجاء دينغ كيساو بينغ لكي يعمل على تطور التجرية واصلاحها والدفع بها إلى مراتب افضل. وهو نقد ذاتي يقول اسمه علانية لكنه لا يصل إلى النفي الذاتي، الذي طالما اغرانا نحن كلما انتبذنا لنا مكانا في السلطة أو في الوهم المرتبط بها. وفي العلاقة مع الجانب الروحي الذي يشكل نقطة توتر في عهد ماو، قال الباحث الاكاديمي بأن السعي الى العدالة مشترك بين كل الاديان ، وماركس حاول فقط استكمال ذلك بتحليل منطقي وملموس بناء على نقاشات الوجود والانتاج. لم يقدم الصينيون دروسا ولا أرادوها ، وألحوا على أن لكل شعب خصائصه بالرغم من وجود عناصر مشتركة في تجاربها أو هياكلها. وتجمدت ملامح الباحث عند الحديث عن حقوق الانسان فقال عبارة جافة «حقوق الانسان بالنسبة للدول النامية تعني الحق في البقاء والتطور، والحقوق تصاغ على اساس رضى الناس. وقال الباحث أن الاشتراكية تمر مع ذلك بمرحلة صعبة ، ولو أن الازمة الاخيرة هزت الثقة العمياء في الرأسمالية ، وما اثارنا فعلا هو حضور الخطاب الاخلاقي في العرض وفي الاجابات. وقد كرر قضية الاخلاق مرارا ، على اساس انها تمنع مجتمع النزعة الفردية القاتلة .. يعرض الصينيون من خلال ما عرضوه علينا بأن هناك قوى سموها القوى اللينة ( القوى الثقافية أو سلط النفوذ المعنوي) ما زالت هشة مقارنة مع القوى الصلبة ويعنون بها السلطات التي تملك قوة المادة أو قوة القانون والإيديولوجيا. وهو ما يجعل دور الدولة مضاعفا لأنها لا تدبر السياسة وحدها بل تدبر ايضا الادارة الاجتماعية. وفي ذلك، فالصين لا تتردد في الاستعانة بالخبرات الاجنبية، ومنها ارسال باحثين إلى معاهد اميركية كما هو حال معهد واشنطن. في الصين لا فصل بين السلط ، بل هناك توازن بينها. في الصين تقوم الاحزاب ال8 المشاركة إلى جانب الحزب الشيوعي بالمراقبة . والصين اليوم تسعى الى بناء توزان جهوي يعوض التخلف الاقتصادي والتاريخي.. كان الاغراء بمتابعة النقاش كبيرا، لكن الصرامة الصينية رفعت الجلسة. تركنا أوراقنا وأقلامنا الرصاصية فوق الطاولة، حتى نعود اليها ففي درس ما بعد الزوال، درس حول ممارسة الحزب الشيوعي للحكم . قبل ذلك توجهنا إلى مطعم الفندق، كانت رائحة الطعام قوية للغاية وغير محببة بالنسبة لمن استأنس بالمطعم المغربي. وكان علينا أن نبحث ونقرأ كل ما هو معروض علينا.اغلبنا لجأ إلى الخضراوات والاسماك والفواكه، والذين غامروا بغير ذلك ، كانوا يشكرون تارة المذاق، إلا أنهم كانوا ينبهوننا إلى أنه قوي أو «زافر» للغاية. المطبخ الصيني شاهق وغني للغاية، وكل شيء فيه يدب، يأكل بكل انواع الطهي، وكل ما هو صادر عن شجرة. في بكين كانت المأكولات قوية للغاية، وكلما كنا نبتعد عن مركزها باتجاه المناطق الأخرى كان المذاق يرق اكثر. لكن لا شيء كان يعوض الطعام المغربي في افواهنا ولعابنا الذي كان يسيل كلما كان ينادى على الطواجين والخبز. وقد وقعت لنا مزحة مع الخبز والزبدة سنرويها في حينها. ولكن بعد الغذاء كان ما يشغلنا هو احترام التوقيت كما تعهدنا بذلك. وقد كنا بالفعل في الموعد في تمام الساعة الثانية و30 دقيقة ونحن نغالب الفارق الزمني، الديكالاج الزمني الذي يجعل التوقيت المذكور يزامن الساعة السادسة صباحا في بلادنا، وهي ساعة نكون وقتها في السرير لا نزال. على كل دخلنا إلى قاعة الفصل، وتسلمتنا المسؤولة عن المدرسة الحزبية، السيدة لي يانكي وهي باحثة ونائبة المدير العام لمدرسة الحزب التكوينية. جاءت بقصتها الذكورية وملابسها العادية للغاية والقائها البسيط والرتيب لتخبرنا عن كيفية الارتقاء بالممارسة السياسية للحكم في الصين. وهو موضوع سنعود اليه بالتفصيل ، مع ما قدمته باحثة اخرى عن المخطط الخماسي ال12،والذي وضع اهدافا له تحقيق المجتمع الرغيد! اليوم الاربعاء ، كان علينا مساء أن نتوجه إلى دار السفير المغربي. ،قد وجدنا أنها توجد في الشارع الكبير الذي سبق لنا أن زرناه في ليلة الثلاثاء السابقة. شارع يقول عنه الغربيون أنه«ستريت بار»، لكن اسمه الصيني هو صونليتون ، وهو مركز صاخب، فيه كل اشكال الحياة الليلية، ومحلات غربية للتسوق، بكل انواع الماركات التي نعرفها والتي لا نعرفها. وخلفه شارع صيني شعبي، تباع فيه كل الاشياء بالتقسيط، بما فيها الجعة. فأنت لا تعدم بائعة تقسيط أو بائع مشويات، تعرض عليك علب السجائر وبعض القضبان وجعات أو قنينات صغيرة لشراب آخر. شارع صاخب بوجوه غربية كثيرة، كنا نتجول ، أو بعض الوفد بطبيعة الحال، عندما كان يخرج بين الفينة والأخرى رجل غربي ورأسه يطأطأ من الخمر! وقدماه الغوليفيريتان وسط الاجساد الصغيرة للصينيين ، تكاد ترسم قارة مترنحة. بعيدا في الجناح الطيب والجميل تقوم إقامة السفير الذي دعا الوفد إلى زيارة المقر. لبس البعض ألبسة مغربية تقليدية، في حين بدا السفير منشرحا و«مناضلا» على حد قوله في قضية المغرب أمام الصين. نفس الاعجاب الذي تحدثنا به عن الصين وجدناه لديه. وقال بأنه هو شخصيا وطاقم السفارة يعتبر هذه البلاد هي الورقة الاقتصادية الأولى في العالم . كانت مبرراته تقول بأن الصين تمنح الولاياتالمتحدة نصف مدخراتها، كما أن تأثيرها على اليابان لا يحتاج إلى أرقام. وقتها ذكرناه بالتواضع الجم الذي أبداه كل الذين تحدثوا إلينا إلى حدود ذلك اليوم من مسؤولين وباحثين ورسميين وأكاديميين. يكررون على مسامعنا بأن الصين ما هي إلا بلدا في طريق النمو ويرددون أن أمامهم الكثير مما يجب أن يقوموا به، وأن الفقر ما زال موجودا في بلادهم.. اغتنمنا فرصة الجلوس إلى مائدة السفير، واستعدنا حواسنا المغربية في تذوق الطعام، وكانت أحاديثنا عن الصين وعن علاقتها مع البلاد وقدم كل واحد نفسه ، وتحدث السفير كذلك عنه وعن زوجته الفنانة التشكيلية، واكتشفنا في الوقت نفسه أن طاقم السفارة محدود للغاية ، وتساءلنا بعطف لا دخل للطاجين فيه: كيف يمكن تقوية الحضور بأعداد قليلة من العاملين في السفارة؟ كانت تلك آخر فرصة لنا لتذوق الأكل المغربي، والشاي المغربي ، لمدة زادت عن 11 يوما.