على مدى الأيام والشهور التي سبقت افتتاح دورة الألعاب الأولمبية التي تحتضنها بيكين، وقفت الصين كلها وقفة تأمل تسترجع تاريخها الممتد عبر 2500 سنة لتتباهى به أمام ضيوفها القادمين من مختلف أصقاع العالم. مجلة لونوفيل أوبسيرفاتور أعدت ملفا عن تاريخ الصين بمساعدة المؤرخ الصيني المعروف يو يينغ شي. ظلال كونفوشيوس كان المثقفون التقدميون في الصين ينظرون إلى كونفوشيوس على أنه رجل أخلاق رجعي، عدو للحرية ومساند لنظام الحكم الاستبدادي المطلق. والواقع أن المعلم كونغ ( اسمه الحقيقي باللغة الصينية هو كونغ زي، أما كونفوشيوس فهو ترجمة لاتينية للاسم وضعها الأوربيون) هو الأب الروحي لحركة إنسانية على الطريقة الصينية غير مسبوقة في العالم. كونفوشيوس الذي عاش في الفترة ما بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد هو واحد من كوكبة من كبار مفكري عصر ما قبل الميلاد، مثل بودا في الهند وأفلاطون وأرسطو لدى الإغريق، الذين شكلوا قطيعة تامة مع العصور الأسطورية السابقة. في النظام الاجتماعي الذي وضعه كونفوشيوس المفكر «لكل واحد من الناس دوره ومكانته»، غير أنه كان يعتقد أن السلطة هي التي يجب أن تعطي القدوة للآخرين بأن تحكم معتمدة على الفضيلة والقيم، وليس بنظام الثواب والعقاب كما تقول المدرسة الشرعية التي كانت سائدة قبله. انتقد كونفوشيوس الطبقة الأرستقراطية وبالمقابل جاء بمفهوم «جونزي» أي الإنسان النبيل، ففي مذهب هذا المفكر ما يهم في النظام الاجتماعي هو الأخلاق أولا وقبل كل شيء، والناس يولدون سواسية لا فرق بينهم، ولكن يمكن لكل منهم أن يكون الإنسان النبيل حسب أخلاقه واجتهاده. وفي النظام الحاكم اليوم في الصين يلقى مذهب كونفوشيوس كل الإجلال والتقدير، بل إن الرئيس هو جينتاو يعتبر هذا المذهب هو النبراس من أجل «مجتمع متجانس»، لكن هذا المذهب سلاح ذو حدين لأنه أيضا يأمر بالطاعة التامة للحاكم، فماذا لو كان نظام الحكم نظاما استبداديا قائما على العنف؟ هوس الوحدة كان الملك كين يحكم دولة فيودالية عسكرية بامتياز، وكان كين أول ملك ينجح في توحيد الصين وينهي عصر ما كان يسمى ب«المملكات المتطاحنة» وأسس أول امبراطورية صينية عام 221 قبل الميلاد. أنهى الملك كين عهد العائلات الفيودالية الغنية وقسم البلاد إلى أقاليم ومقاطعات ووضع على رأس كل منها حاكما مستقلا عن الأسياد المعروفين محليا، وكان يتم تعيين هؤلاء الحكام من طرف السلطة المركزية مباشرة، أما معارضو نظامه العسكري من علماء المذهب الكونفوشي فكان مصيرهم الإعدام. في عهد الملك كين تم وضع أول أكبر نظام لتوحيد الحروف ووحدات الوزن والطول، وتم تعبيد 6500 كيلومتر من الطرق، تماما مثل الإمبراطورية الرومانية. وقد كان للملك كين الكثير من المعارضين بسبب نظامه المستبد، لذلك فبمجرد وفاته انهار نظامه كما تنهار قصور الرمال. لم ترسم أول صورة للملك كين إلا في عهد الأسرة الحاكمة هان التي تلته في الحكم، فرغم كل شيء ظل الجميع يقدر للملك كين كونه الملك الذي وحد البلاد في الوقت الذي تشتتت فيه الإمبراطورية الرومانية العظمى. ومازال هوس الوحدة السياسية يسيطر إلى اليوم على الدولة الحمراء، لهذا يبدو من المستحيل أن تسمح بكين لتايوان أو التيبت أو سينغ يانغ مثلا بأقل نوع من حقوق تقرير المصير. الخوف من المغول كان صور الصين العظيم لزمن طويل رمز الفصل بين الصين وآسيا الوسطى. كان الصينيون مسالمين يعملون في الزراعة أو في الصناعة التقليدية، لكن جيرانهم الشماليين كانوا رعاة رحل مقاتلين مهووسين بإراقة الدماء. فكرة تشييد سور كبير يكون درعا يحمي الصينيون به بلادهم من هجوم البرابرة المغول ظهرت في عهد الإمبراطور الأول كين، لكنها لم تتحقق إلا في عهد عائلة مينغ المالكة التي حكمت ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، وذلك بعد أن عانى الصينيون كثيرا من هجومات المغول ففي عهد عائلة سونغ المالك في القرن الثالث عشر هاجم المغول البلاد واختطفوا الإمبراطور وولي عهده وكل حاشيته وباعوهم في المزاد. ولازال الجنرال يو في الذي استمات في قتال الغزاة يعتبر رمزا مقدسا لمقاومة الصينيين للمغول. يعود تاريخ بناء جزء من سور الصين العظيم الذي يوجد قرب بكين اليوم إلى القرن السادس عشر، لكن العالم المتخصص أرتور والدرون صاحب كتاب «سور الصين العظيم» الصادر عام 1990 كتب أن السور لم يصد يوما هجمات المغول، فتواصلت الهجمات ولم ينفع السور سوى في ترسيخ إحساس الصينيين بالحصار. منذ القرن التاسع عشر لم يعد الغزاة يأتون من البر بل أصبحوا يأتون من البحر، وزاد تهديد الإنسان الغربي ليرزح بثقله على نفسية الإنسان الصيني، ولم يتوقف ماو ومن جاء بعده عن ترسيخ ذلك الإحساس بالتهديد والخطر، سواء من خلال الصحافة الرسمية أو من خلال المسلسلات التلفزيونية التي كانت تبين أن الأجانب يحملون شعورا عدائيا تجاه الصينيين. أسطورة العصر الذهبي كان العصر الوسيط بالنسبة إلى الصينيين عصرا ذهبيا. كان عصر الأسر الحاكمة سوي و تانغ عصرا أعيدت فيه أمجاد كين و هان. عرف هذا العصر بازدهار فني وثقافي كبيرين، من رقص وفنون تشكيلية وخلاله ظهرت أشعار تانغ الشهيرة التي أخذها عن الصينيين الكوريون واليابانيون والفيتناميون. وكانت عاصمتهم مدينة شانغان عاصمة الأنوار لديهم في ذلك العهد. في عهد مملكة تانغ، بلغت المرأة الصينية أرقى المناصب، حيث وصلت المرأة إلى منصب الإمبراطورة، لم تكن زوجة إمبراطور وإنما كانت الإمبراطورة المالكة للسلطة العليا في البلاد والتي تسود وتحكم. إنها وو زيتيانغ التي حكمت الصين مدة نصف قرن. وقد كانت حاكمة قوية شهد لها بذلك حكماء البلاد، ومنذ ذلك العهد والمرأة الصينية تحتل مكانة محترمة داخل المجتمع. نموذج الحكماء في عهد تانغ كان يقال: «على الإمبراطور أن يطيع السماء»، لكن من الذي بإمكانه تأويل ما تريده السماء؟ إنهم الحكماء الكونفوشيوسيون. وجود هذه الطبقة من الحكماء الذين كانوا يعتبرون موظفين سامين داخل الدولة هو الذي يضع حدا لشطط الأباطرة. كان توظيف هؤلاء الموظفين الكبار يتم عن طريق مباراة، وبخلاف ما يمكن أن نعتقد لم يكن الحاكم الحقيقي للإمبراطورية هو الإمبراطور وإنما هو كبير الحكماء أي ما يعادل في يومنا هذا رئيس الوزراء. منذ عهد هان وإلى عهد مينغ، لم يكن ينطبق على الأباطرة وصف الحكام المستبدين بقدر ما كان يطلق عليهم وصف الحكام المستنيرين، لقد كانوا هم من يتخذ القرار الفصل، لكن ذلك لا يتم إلا بعد التشاور مع الحكماء، في عام 1380 ألغى الإمبراطور تايزو منصب رئيس الوزراء، لكن نظام المباراة لم ينته إلا عام 1905، حيث كان الاختبار ينظم على مستوى الأقاليم والمقاطعات، وكان الحكماء ينحدرون في الغالب من طبقة الفلاحين البسطاء. خلال أكثر من ألفين سنة، نجحت هذه الطبقة من الحكماء في تدبير أمور شعب كبير العدد وبإمكانيات محدودة، وبالاعتماد فقط على المبادئ الأخلاقية التي أسس لها المفكر كونفوشيوس. اليوم يقارن البعض الحزب الشيوعي بمجلس الحكماء، غير أن أعضاء الحزب لم يتم اختيارهم بناء على كفاءتهم أو مستواهم التعليمي أومدى قدرتهم على خدمة الصالح العام، وإنما يدينون بمكانتهم العالية فقط لهذا المسؤول أو ذاك لأنه يحميهم بنفوذه، وهو نظام علاقات ومجاملات بعيد كل البعد عن مبدأ الاستحقاق الذي كان يقوم عليه مجلس الحكماء في الماضي. الأخلاق البوذية والرأسمالية في القرن الثامن وخلال فترة حكم تانغ ظهر المذهب البوذي على يد ناسك متعبد اسمه هوي نينغ، الذي كان ينتمي إلى مدرسة شانغ. خرج هذا الناسك عن التقاليد التي كانت تعطي مكانة خاصة للنخبة وجاء بفكرة «التنوير الفجائي». بالنسبة إلى هوي نينغ كل الناس يتصفون ب«صفات بوذا» وبالتالي فبإمكان الجميع أن يحظى «بالمغفرة» دون حاجة إلى وسيط، فكانت البوذية هي ذلك المذهب الذي خرج من النطاق الضيق للأرستقراطيين إلى الانفتاح على طبقات الشعب البسيطة. وكان الدور الذي قام به هوي نينغ في الصين شبيها بدور لوثر أو دور كالفن في العالم الغربي. وبعد أن تمت دمقرطة مدرسة شان الدينية من قبل هوي نينغ، أصبحت شان هي الشكل المهيمن للبوذية في الصين، ثم في اليابان لاحقا، حيث حملت هناك اسم زين. ويدين التطور التجاري الذي عرفته الصين في القرن السادس عشر بالكثير لما جاء به هوي نينغ ثمانية قرون من مبادئ أخلاقية. فعلى شاكلة الأخلاق البروتستانتية في أوربا، حيث شجعت مبادئ البوذية ظهور رأسمالية تجارية لأنها شجعت الناس على العمل والزراعة وعن الكف عن الاعتماد على هبات الأغنياء والقصر. الدور السياسي للزلازل حسب اعتقاد قديم يسمى «الحكم الإلاهي» فالسماء هي من يختار الإمبراطور وهي من يعزله. حسب كونفوشيوس، فإن السماء لا تختار بشكل اعتباطي بل تستمع أولا إلى صوت الشعب. ومادام الحاكم يهتم بالصالح العام فإن عقده مع السماء يبقى ساري المفعول، أما إذا قصر في واجباته فإن السماء تغضب وتسلط على الأمة كوارثها الطبيعية، مثل الزلازل أو الخسوف والكسوف. كان هذا الاعتقاد سائدا بشدة في الصين لدرجة أنه عندما كانت الكوارث الطبيعية تتوالى يبدأ المرشحون لخلافة الامبراطور في تحضير أنفسهم ليحلوا محله. لهذا السبب، مازال إلى حد اليوم، يشعر النظام الحاكم بالقلق ويسيطر عليه الرعب عندما تحدث اية كارثة طبيعية. ولتفادي غضب السماء، فإنه حتى الزعماء الشيوعيون يتعبدون ويصلون للسماء سرا لكي تحفظهم من غضبها. محاولة الاكتفاء الذاتي في القرن الخامس عشر أصبحت الصين قوة ملاحية كبيرة، لكنها ما لبثت أن تراجعت عن نشاطها الملاحي في منتصف القرن التالي، وذلك بسبب كثرة الهجومات التي كانت تتعرض لها في عرض البحر من قبل القراصنة اليابانيين الذين كانوا يبسطون سيطرتهم على جنوب وجنوب شرقي بحر الصين فقرر المينغ أن يوقفوا تجارتهم البحرية عسى أن يضعف ذلك القراصنة. أدى ذلك إلى هجرة سكان بعض المناطق الساحلية إلى آسيا جنوبالغربية، فظهرت هناك جاليات صينية ذات قدرات تجارية مميزة مازالت نشيطة إلى يومنا هذا. ولكن، لماذا رغم كل النشاط الملاحي الذي تميز به الصينيون في الماضي لم يكتشف الصينيون أمريكا قبل كولومبوس؟ الجواب هو أنه في أوربا كان الملوك والحكام يمولون البعثات الاستكشافية الكبرى آملين في أن يتوصلوا إلى اكتشاف ثروات جديدة لا توجد في أوربا. أما في الصين فلا المينغ ولا الكينغ كان لديهم مثل ذلك الدافع فقد كانوا يقولون إنهم ليسوا بحاجة إلى ثروات جديدة لأن في الصين يوجد كل ما هم بحاجة إليه. لكن مع بداية القرن العشرين تغير الأمر ودخلت الصين مع باقي دول العالم في السباق من أجل موارد الطاقة. الصدام مع الغرب مع نهاية القرن الثامن عشر جاء اللورد الإنجليزي مكارتني إلى قصر عائلة كينغ المالكة في الصين ووراءه باخرتان محملتان بجميع أصناف المصنوعات والمنتجات الإنجليزية، على أمل أن تنفتح الصين على التفاوض التجاري معهم، إلا أنه تلقى رسالة من الإمبراطور كيانلوونغ تقول: «نحن الصينيون لسنا بحاجة لأي شيء منكم، أيها البرابرة. نحن لم نطلب منكم شيئا، بل أنتم من يأتي إلينا طمعا في الاستيلاء على ثرواتنا». إن ظهور «البرابرة البيض» على طول السواحل الصينية، وحتى على طول الأنهار الكبرى في البلاد التي أصبحوا يجوبونها محملين بمدافعهم شكل منعطفا خطيرا في علاقة الصين بالغرب، فقد انهزمت الصين عسكريا وتجاريا، وأجبرتها «حروب الأفيون» التي اندلعت في أواسط القرن التاسع عشر والتي انتهت بعقد «معاهدات غير عادلة»، على الانفتاح على تجارة الأفيون القادمة من الهند البريطانية آنذاك. وهكذا، نجح «البرابرة البيض» في فرض حضارتهم على الصينيين وهو ما شكل جرحا عميقا في نفسية الصينيين الذين كان أكثر شيء يفتخرون به هو إحساسهم بالتفوق الثقافي والجمالي على الغرب. النظام الشمولي شبه ماو نفسه بالإمبراطور الأول كين شي هوانغ، وشأنه شأن هذا الأخير، أقام ماو نظام سلطة استبدادية وكان يفتك بأي صوت تسول له نفسه أن يعارضه. كان ماو يقول: «أنا كين شي هوانغ وماركس في الآن نفسه» والحقيقة أنه لم يكن يعرف أفكار ماركس إلا معرفة سطحية، لكنه كان يقصد بماركس أنه يملك ما لم يملكه أي امبراطور من قبله ألا وهي الحقيقة المطلقة، وبلفظ ماركس، يقصد «علميا». ولا عجب إن كانت القدوة الثالثة بالنسبة إليه بعد كين وماركس هو الإمبراطور تايزو مؤسس امبراطورية أسرة مينغ (القرن الرابع عشر)، وهو ناسك جاهل ما إن وصل إلى العرش حتى ألغى نظام تشارك السلطة مع الحكماء وجعل السلطة كاملة في أيدي كتابته الخاصة. وتايزو أيضا هو الذي خطرت له، قبل ستة قرون، فكرة جمع كل مقولاته الشهيرة في كتاب واحد صغير أسماه الكتاب الأحمر الصغير، تم توزيعه على جميع التلاميذ في المدارس لكي يدرسوه. سيكون من الغلط الاعتقاد أن ماو كان الحاكم الجدير بأن يحل محل الأباطرة السابقين لأن كل الأباطرة السابقين كانوا خاضعين للمراقبة على الأقل من قبل الحكماء الكونفوشيوسيين، أما ماو فكان مثال الحاكم الديكتاتوري المستبد لا يشبهه سوى ستالين وهتلر. وقد خلفت حركته السياسية آثارا مدمرة على الصين، حيث ذهب ضحيتها عشرات الملايين من الصينيين، إلا أن النظام الحالي في الصين يصمت عن ذلك. اليوم، خلفاء ماو مضطرون إلى إيجاد أرض مشتركة بينهم وبين مجتمع مدني تواق إلى الحرية. فماذا سيكون مستقبل الدولة الشيوعية؟ يصعب التكهن بذلك، لأنه وبعكس الأنظمة الإمبراطورية التي صمدت لقرون وقرون، يبدو النظام الشيوعي الحالي أبعد ما يكون عن الاستقرار.