في الصين وجدنا الماوية حية، ولم نجد ماو. ولم نجد إلا صورا ليلية له، وجسدا مسجى حيث لم نره. وجدنا البلد في القرن القادم، ووجدناها أيضا في الزمن الذي مضى. في الصين عدنا إلى مقاعد الدراسة كما يحلو للصينيين أن يفعلوا عندما يريدون أن يقتسموا معك رغيف تجاربهم. بنفس الابتسامة والصرامة أيضا، يستقبلونك لكي يعلموك ما لا يمكن أن تعلمه خارج بلادهم. الشينوا صغيرة كثيرا، تكاد تكون ضحلة وتافهة أمام تواضعهم الجم. من الصين تعود بالانبهار وبالكآبة أيضا: منبهرا بما تراه من تجربة بلد وشعب بملايير السكان، وكئيب لما تعرفه عن بلادك وعن الأشياء التي من أجلها يتصارع الناس. لم يكن منا أحد لم يتذكر ابن بطوطة، سرا أو علانية، ونحن نركب الطائرة الذاهبة باتجاه الصين. وكنا حفدته الذين لم يتصوروا أنهم سيحملون آلات تصوير وحواسيب، وهواتف نقالة وهم يذهبون إلى البلاد التي أذهلته. لم نكن قد أصبحنا في نفس درجة التبتل التي وصلها وهو يروي سيرته... كنا نتعرف على بعضنا البعض: الإخوان في الاتحاد الاشتراكي، الإخوان في حزب الاستقلال والرفاق في التقدم والاشتراكية. الكتلة تصل المطار من أجل أن تقتفي خطى ابن بطوطة، ولكن في السماء هذه المرة. الرحلة ستدوم 15 يوما. فقط ستدوم ولا شك عمرا بكامله بعد العودة، أو هكذا مااكتشفناه من بعد. مدرسة الحزب الشيوعي قائمة الذات والصفات، تحدثت باسمها الاستاذة لي يانكي، نائبة المدير العام. قالت إن الهدف الأسمي هو خلق إطار قادر على ترقية ممارسة السلطة، ونهضة الأمة وتطبيق ماركسية صينية تمكن البلاد من الخروج من دولة مستعمرة إلى دولة متحررة، ومن دولة فقيرة إلى دولة سوق اشتراكية دينامية ، ومن دولة معزولة إلى دولة قوية الحضور دوليا. وقالت لي يانكي، أن الهدف أيضا هو الحفاظ على القيم الاساسية للصين الماوية والانصات إلى الواقع في نفس الوقت. وقالت ما هو أساسي : الحزب لا بد له من الوقت لمحاربة كل مظاهر الفساد، بإرادة صارمة لكوادره ، ومن ذلك اعتمد اسلوب الرقابة الدقيقة ، وفرض التصريح بالممتلكات لدى أعضائه ، ويحرص الحزب على تحصين الممارسة السياسية السليمة ، بشكل متعدد الأبعاد: تحصين فكري، وتنظيمي واعتماد عقوبة جزائية ضد كل الذين سولت لهم أنفسهم التلاعب بتاريخ حزبهم. لا يمكن أن تكون رائحتك كريهة ويمكن أن تتبختر خيلاء وزهوا، كما لو أن الامر يتعلق بعرض لأزياء العراء الاخلاقي. ليس كما هو الامر في سياستنا، حيث يمكن للفاسدين والمتقلبين والذين يبيعون أرواحهم مقابل ألبسة سياسية عارية أن يضعوا انفسهم في جدول البديل الذي لابد منه. انظروا الينا لكي تعترفوا بأن في الصين حزبا حقيقيا وليس المونيكات ٭. في العلاقات الحزبية، يحرص الصينيون على تمكين تنظيمهم من القدرة على التعبئة الاجتماعية، بتنفيذ القرارات بحذافرها، والاعتماد الفعلي على التنظيمات، بما في ذلك القدرة على التعامل مع الكوارث الاجتماعية . في القاموس السياسي للمسؤولة الصينية أفكار لم نطلع عليها في منظومة الافكار القريبة منا. ومن ذلك الحديث عن تطوير أسلوب الحكم لضمان زمن أطول باعتماد التحليل الصحيح للاوضاع، وتقوية المورد التاريخي للسلطة ، ومورد الثقة والموارد التنظيمية المتعارف عليها. واسلحة الحزب هي الجبهة الداخلية كالوحدة، والجيش الثوري والبناء الحزبي القوي. يعترف الصينيون أن امامهم مسافة طويلة ،وأن الكثير من العيون تتخلل ممارسة حزبهم. وهم يدركون «أن امتلاك المكانة في التاريخ القديم لا تعني امتلاكها في الحاضر ،وامتلاكها في الحاضر لا يعني امتلاكها في المستقبل» ولهذا فإنهم يعززون حاسة اليقظة والوعي بالمخاطر وينمون الاستشعار عبر قراءة التجارب الأخرى. وقد زرنا المتحف الثوري فوجدنا قاعة مخصصة لعرض التجارب الفاشلة في الاتحاد السوفياتي وفي اليابان والمكسيك. لا وقت للطمأنينة الخادعة ولا وقت للكذب على الذات وعلى الآخرين. قالت السيدة لي يانكي أن المستوى الفكري لدى بعض الاطر المسؤولة متخلف. صح؟ وينقصها التمثل الحقيقي للهدف الذي من أجله يقوم الحزب وتاريخه.. وأن مظاهر الفساد ما زالت حاضرة وخطيرة ،إن بعض التنظميات ما زالت ضعيفة وتصاب بالوهن في أدائها. اتوقع لو أن حزبا وصل السلطة عندنا أو حزبا وصل الي ما وصلت إليه الصين ما ذا كان سيقول عن نفسه؟ لو أنه حقق ثلاثة مقاعد اضافية، ماذا كان سيقول عن نفسه؟ من المؤكد أن قادته سيتحولون كلهم إلى ابي الطيب المتنبي وسيقرأون علينا، أنا خير من سعت به قدم! لا وجه للمقارنة. و سيتضح لنا من بعد أن كل الذين كانت المدرسة تقوله نظريا سنشاهده مشاهدة العين عمليا في ما تلا من الزيارة، وكمثال على ذلك أن اي زعيم واي مسؤول لا يمكنه أن يترقى اذا هو لم يخضع للتكوين، وعندما زرنا مدرسة الحزب في غوانكسي، وجدنا أن القوة الاساسية في التكوين والمعرفة. وأن الجميع يخضع لنظام صارم من الأنظمة الداخلية، حيث يتخلى المسؤولون عن نياشينهم ويتلقون التكوين المتجدد في العلوم الاجتماعية وفي علوم العالم الحديث ومن ذلك تلقي المسؤولين تكوينا حول المخطط الحماسي للتطور الاجتماعي والاقتصادي . وفي الحزب ثلاثة معاهد للتكوين، معهد بوذونغ وهو معهد لتلقي احدث المعلومات حول التحديث نفسه، ومعهد جبل شانغهاي، لتدريس التقاليد الثورية للحزب، والذين يعرفون القليل من تاريخ الماوية يدركون لماذا اختيار شانغهاي ويتذكرون ولا شك وثيقة الحزب السري الشيوعي في شنغهاي التي كتبها ماو تسي تونغ وكانت تنسخ سرا في مقراتنا وفي جامعاتنا. ثم معهد يانغ للتنبيه إلى مشاكل الواقع وانواع التخلف في الصين، لأن المنطقة نفسها تعاني من التخلف. وكل من المسؤولين الذين استقبلونا تلقوا التكوين ووجدنا عاملا من عمال الدولة، وليس عاملا من الطبقة العاملة يتلقى تكوينه، كما أن الوزراء أنفسهم يتلقون التكوين. ولا أحد يقول إنه استاذ وفوق الجميع. هل هو التواضع؟ هي الثقة في النفس أيضا وسر النجاح والتقديس الواجب للعقل وليس للأنا المتضخمة مثل الجثث المتعفنة في المستنقعات.