في الصين وجدنا الماوية حية، ولم نجد ماو. ولم نجد إلا صورا ليلية له، وجسدا مسجى حيث لم نره. وجدنا البلد في القرن القادم، ووجدناها أيضا في الزمن الذي مضى. في الصين عدنا إلى مقاعد الدراسة كما يحلو للصينيين أن يفعلوا عندما يريدون أن يقتسموا معك رغيف تجاربهم. بنفس الابتسامة والصرامة أيضا، يستقبلونك لكي يعلموك ما لا يمكن أن تعلمه خارج بلادهم. الشينوا صغيرة كثيرا، تكاد تكون ضحلة وتافهة أمام تواضعهم الجم. من الصين تعود بالانبهار وبالكآبة أيضا: منبهرا بما تراه من تجربة بلد وشعب بملايير السكان، وكئيب لما تعرفه عن بلادك وعن الأشياء التي من أجلها يتصارع الناس. لم يكن منا أحد لم يتذكر ابن بطوطة، سرا أو علانية، ونحن نركب الطائرة الذاهبة باتجاه الصين. وكنا حفدته الذين لم يتصوروا أنهم سيحملون آلات تصوير وحواسيب، وهواتف نقالة وهم يذهبون إلى البلاد التي أذهلته. لم نكن قد أصبحنا في نفس درجة التبتل التي وصلها وهو يروي سيرته... كنا نتعرف على بعضنا البعض: الإخوان في الاتحاد الاشتراكي، الإخوان في حزب الاستقلال والرفاق في التقدم والاشتراكية. الكتلة تصل المطار من أجل أن تقتفي خطى ابن بطوطة، ولكن في السماء هذه المرة. الرحلة ستدوم 15 يوما. فقط ستدوم ولا شك عمرا بكامله بعد العودة، أو هكذا مااكتشفناه من بعد. أصر المضيف الصيني على أن نزور حيّا سكنيّا ، هو حي باولي في نانينغ، زرناه في يوم ممطر، و استقبلنا السانديك بالمطريات أو المظلات ونحن ننزل من الحافلة التي كانت تزور بنا المنطقة. شرحوا لنا أن العمارة تضم 3 آلاف ساكن. واستغربنا للنظافة فيها. نظافة تجعلك ترى وجهك في الاسفلت، والهدوء فيها والفضاءات التي أعدت للشيوخ المسنين وللاطفال. على الواجهة اسماء اعضاء الحزب الذين يتطوعون من أجل السهر على شؤون الساكنة. اكتشفنا أيضا أن الرسالة المشفرة من وراء الزيارة هي اعلاء قيمة التضامن ، والحياة الكريمة للمواطنين الصينيين. تمنيت لو قضيت فترة طويلة في ذلك الحي، حتى تكتمل رواية «ليلة صينية» التي لا يبدو أنني سأكتبها إلا في خيالي. الخيال الذي سيقودني إلى أماكن عالية في الترف ولكنه لا يتصور في ما اعتقد ما وجدته في متحف الاقليات الصينية . المتحف الذي وجدنا أدراجه الكهربائية مزينة بالورود.،اعتقدنا في البداية أن المنظر اصطناعي، حتى اقتربنا ووجدنا الورد كله ينضح بالشهوة في الاغراء. عرفنا بأننا سنزور مكانا غير أليف. وجدنا ما يشبهنا في جهة الملابس والمحراث والآلات الموسيقية. تذكرت لحسن العسبي وابتسمت عندماحدثني عن أثريات عثر عليها تنقل سوس الى جنوب الصين. قلت لمرافقنا تشاو ويدونغ «لدينا في المغرب مغنية ذات شعبية ، لا سيما في الجنوب المغربي تسمى تاشينويت، أو لاشينواز» ابتسم وانا أصف له رقصتها ، وأضفت أن الآلات الموسيقية التي رأيناها، بوتر وحيد وحامل طويل لنا شبيهها تماما في الفرح السوسي الندي. وجدنا لباس المسلم من الشمع، وبجواره صورة لمراهقين مسلمين ، يغازلان الضوء أو الضوء يتحرش بهما مثل قمر في قصيدة لدرويش. صورة جميلة للغاية، للأسف لم نستطع التقاطها نظرا للأضواء الساطعة وايضا لأميتي الالكترونية التي زادت مقارنة مع ما يحدث لدى الصينيين. استقبلتنا المدينة بمعاطفها الثلجية، وأفرشت لنا السحاب، لنمشي عليه ، ظل الثلج يسقط الى آخر اليوم، لكننا مشينا وسطه إلى حيث المعهد الحزبي أو مدرسة الحزب في تلك الجهة. لقد حدثنا السيد لي يانكي عن المدرسة الحزبية،لكننا اليوم نتوجه اليها ليستقبلنا مديرها وطاقمه ويجيب عن اسئلة تتعلق بالتكوين وموضوعاته، وبعد ذلك زيارة غرف النوم حيث يتلقى الطلبة - الاطر الحزبية الدروس في علم الصين الجديدة. مدير المدرسة ، السيد ما ليهونغ، جاء مصحوبا باطر حزبية معروفة، منها السيد وانغ جيوان، عن قسم العلاقات الاورو اسيوية في الحزب. الموظفون في المدرسة عددهم 352 منهم 32 استاذا و50 استاذا مساعدا و550 يهيئون الدكتوراه. والاساتذة يعملون في المدرسة، لكن يقدمون دروسا في معاهد وجامعات خارجها، كما أنهم يشاركون في الحملات التحسيسية داخل الحزب أو في اللقاءات . كما أن الشهادات التي يحصل عليها الطلبة الدائمون في المعهد لها قيمة حقيقية في سوق الشغل! المدرسة مقامة على 23 هكتارا، منها 150 مترا مربعا للبنايات .. وتقدم 3 انواع من التكوين أو المستويات، المستوى الاعلى للاطر الكبرى، والتربوي التكويني لمدة 4 اشهر للأطر الشابة ، بالاضافة إلى تكوين خاص بالوضع الراهن. ويدوم اسبوعا . وكل ذلك في افق مهمتين اثنتين ، الاولى تتعلق بالبحث في النظريات، الثانية التشاور من أجل اتخاذ القرارات. ولا يتردد المعهد المدرسة في التعاون مع الخارج ، أوروبا أو أمريكا. كان على رئيس الوفد المغربي ، عبد الاله البوزيدي، أن يتحدث عن التقدير الذي شعرنا به وأهمية المدرسة في تكوين المناضل الماوي الجديد. قاعات الدرس حديثة ومنها قاعة للإعلام السمعي البصري ، مجهزة بأحدث التقنيات. ومن معهد الحزب إلى المنطقة الاقتصادية والتكونولوجيا في هانغزو، وزيارة الجنة، ادخلونا قاعة فسيحة وبها وجدنا «ماكيت» أو مجسم صغير للمدينة. تخيلنا لو أنها في بلد عربي ما، لزارها قائد كبير ليدشن... الماكيت! ضحكنا كالبكاء . استقبلنا مدير المنطقة وقدم لنا ما يجب أن يقدمه عن المدينة وعن التنمية العلمية. واطلعنا أن المنطقة الصناعية تمتد على 100 كلم مربع! مدير المنطقة الصناعية في هانغزو، يعرف المغرب ويعرف ما علينا أن نقوم به من أجل تطوير علاقاتنا. وقد قال في جواب عن سؤال لأحد افراد الوفد بأن المطلوب من المغرب هو أن يقدم مشاريع دقيقة وملموسة. وهو ما عرفت من بعد أن السفير المغربي هناك يسعى اليه عن طريق خلية كونتها السفارة والمديرية المكلفة بالعلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي، بعد ان اطلعني السيد تشاو ويدونغ على ذلك. كما أن المدير قال بالحرف« على المغاربة أن يعرفوا كيف يتركون الآخرين يربحون»، والنقطة الثالثة تتعلق باحترام الالتزامات في الزمان وفي المكان. ويشعر المدير المسؤول بأن المغرب موقع استراتيجي جد مهم للغاية وأن الصين نفسها تدرك ذلك وتعمل على أن يتم التعاون على قاعدة ذلك. لعل الزيارة التي انطقت الاستاذ النقيب ابو الفضل هي زيارة مدينة وانزهو في منطقة زيجيان. وبالضبط البحرية الغربية ... عن وانزهو يقول الصينيون أن في السماء الجنة وفي الارض وانزهو. وانزهو حلم في دائرة من غيم، تركيب العواطف في مقطورة وردية، قبلة طويلة في قطار سريع، حبات الرمان وقد تحولت إلى أدمع، عناق ساحر ما بين شجرة وماء أمام اندهاش المطر.. عصفور يمر من قلبها الى قلبك ويغرد « اشعروا بالحب ». التقتنا المترجمة الخفيفة بيلي، بشعرها المنسدل كليل صيني قصير. وتوجهت بنا الى فندق ويجين، وكنا قد دخلنا المرحلة الاخيرة من زيارتنا.. قالت سييو بيلي وهي تعدنا بزيارة البحيرة ، في ذلك اليوم الثلجي الرائع، أننا سنزور الجنة الصينية. وكنا نتلهف ، بعد أن كدنا أن نضيع الفرصة لأسباب تتعلق بالتسوق.... قبل ذلك كنا قد ختمنا زيارتنا إلى مدينة يولين في منطقة غوانسكي بالتوجه إلى قصر الثقافة. قصر الثقافة الذي أعاد بناء الصين في تفاصيلها، وبرخامها وخشبها وبوداتها وحدائقها. الحديقة التي تقابلك وأنت تلج قصر الثقافة هي حديقة امبراطورية بامتياز، بشجرها الديني، الذي يرمز إلى الدين نفسه، بما فيها أصل الخليقة، الين واليان، أو الذكر والانثى، والبخار المتصاعد يحيل على زمن عتيق، زمن ما قبل الخروج من الرحم. الرمزيات كلها حاضرة ، رمزيات الديك والسلحفاة، لطول العمر والسرعة ، والحصان الذي يرمز إلى القوة.. كان بودا الباسم، ببطنه الضخم وابتسامته الساحرة يتربع على عرش المعهد، يراقب الحديقة اسفله وينظر بمرح ذهبي إلى الكائنات البشرية الضئيلة، بودا طوله 56 مترا.. فقط! لقد وجدنا روعة في الاشجار التي جيء بها من اندونيسيا وتم تطويعها لكي تقدم باخرة وبشرا و.. تقدم ثلاثة الاف سنة من عمرها للحظة مبهجة لأبناء الاطلس والريف. أو تلك الشجرة القادمة من أربعة آلاف سنة لكي تضع جدعها رهن اشارة فنان صيني ليحولها إلى مائدة امبراطورية كبيرة. كل شيء كان ينبيء بالحضارة وبالسمو الإنساني في ذلك المتحف الذي صمم لكي يعيد الصين القديمة في العمارة. هي ذي الصين التي تركناها في خيال عتيق تنتظرنا لنحكي نواقصها.. لكن الجنة كانت في البحيرة الغربية.