في الصين وجدنا الماوية حية، ولم نجد ماو. ولم نجد إلا صورا ليلية له، وجسدا مسجى حيث لم نره. وجدنا البلد في القرن القادم، ووجدناها أيضا في الزمن الذي مضى. في الصين عدنا إلى مقاعد الدراسة كما يحلو للصينيين أن يفعلوا عندما يريدون أن يقتسموا معك رغيف تجاربهم. بنفس الابتسامة والصرامة أيضا، يستقبلونك لكي يعلموك ما لا يمكن أن تعلمه خارج بلادهم. الشينوا صغيرة كثيرا، تكاد تكون ضحلة وتافهة أمام تواضعهم الجم. من الصين تعود بالانبهار وبالكآبة أيضا: منبهرا بما تراه من تجربة بلد وشعب بملايير السكان، وكئيب لما تعرفه عن بلادك وعن الأشياء التي من أجلها يتصارع الناس. لم يكن منا أحد لم يتذكر ابن بطوطة، سرا أو علانية، ونحن نركب الطائرة الذاهبة باتجاه الصين. وكنا حفدته الذين لم يتصوروا أنهم سيحملون آلات تصوير وحواسيب، وهواتف نقالة وهم يذهبون إلى البلاد التي أذهلته. لم نكن قد أصبحنا في نفس درجة التبتل التي وصلها وهو يروي سيرته... كنا نتعرف على بعضنا البعض: الإخوان في الاتحاد الاشتراكي، الإخوان في حزب الاستقلال والرفاق في التقدم والاشتراكية. الكتلة تصل المطار من أجل أن تقتفي خطى ابن بطوطة، ولكن في السماء هذه المرة. الرحلة ستدوم 15 يوما. فقط ستدوم ولا شك عمرا بكامله بعد العودة، أو هكذا مااكتشفناه من بعد. كان آخر لقاء مع التقديم النظري لما يحدث في الصين ولما سيحدث مع الأستادة تشاو لي، الاستاذة بالمدرسة المركزية، والخبيرة صاحبة العديد من المؤلفات والمحاضرة في العديد من المنابر.بدت بملامح قريبة من امرأة غربية، بأنف دقيق وفم كأضمومة زهرة، وشعر ألحت على أن تجعله في قصة وقورة، كما يليق بامرأة تعلم الشيوعيين الصينيين معالم التفكير الاقتصادي. كانت السيدة تشاو تلقي علينا ما سيقوم به بلدها في التخطيط الخماسي المقبل، وما تنوي الصين أن تحله من مشاكل وأن تعالجه من قضايا. وقد فهمنا من بعد أنها الحصة الأخيرة لتقريبنا من الواقع الملموس الذي سنزوره في كل من جهة غوانكسي وجيجيانغ. واطلعتنا الاستاذة أن الخطوط العريضة للبناء الاقتصادي الصيني تتم مناقشتها في اللجنة المركزية، كما يمكن أن نتوقع في حزب يعتمد التدبير الممركز، وهو ما يمكن أن يدفعنا إلى التفكير في طبيعة اعضاء هذه اللجنة وقدرتهم على التفكير والخبرة الاقتصادية. ويعتمد المخطط ال12 للبناء الاقتصادي على مراحل متوالية أولها ما يسميه الصينيون بمرحلة الاصلاح والبناء، وتشمل بناء مجتمع العيش الرغيد، أو الرخاء بلغتنا. وهنا ندرك أن المرحلة ما هي الا مقدمة لما تريده الصين فعلا في عام 2020 . وهو التاريخ الذي حددته لكي يسود فيه مجتمع العيش الرغيد . واذا كنا قد فككنا شفرة الصينيين، فإن ذلك يعني أنهم سيحلون مشاكل العيش الأولية، من بناء ومسكن ومأكل ودراسة وتطبيب الخ في هذا التاريخ لكي يفتحوا المرحلة التالية والمتعلقة بالاستجابة للضرورات الديموقراطية. وتعد المرحلة ما بين 2010 و2020 في القاموس الصيني مرحلة الفرصة الاستراتيجية، بما يعني ذلك من كون الاهداف المتعلقة بالتنمية والتعاون والتوجه نحو التعددية السياسية ستجد خميرتها في هذه اللحظة. ويفكر استراتيجيو الصين في الوضع الدولي، بما أنهم من أكبر الفاعلين ويبنون توقعاتهم على أساس أن دور المجموعة 20 كان اساسيا في احتواء الازمة العالمية ،بيد أن هذه المجموعة بدأت تكسب نقطا على حساب دور مجموعة 8 أو مجموعة الدول الكبرى، حيث يعتبر التحول في صالح الدول النامية. ولا يخفي الصينيون أنهم استفادوا من العولمة ، منذ انطلاق الموجة الاولى في 1980، اي عولمة التجارة والمال، والموجة الثانية بانطلاق عولمة التقنية والخدماتية. وفي الموجة الثالثة ، العولمة العلمية التي ستبيح للصين القدرة على الانتقال من شعار إلى آخر، والاساسي هو القدرة على الابداع. الصين تعلن في مخططها عن شعارها بالقول : استيراد، تقليد، ثم ابتكار. وتعتبر الصين أنها تجاوزت المرحلتين أو في طور تجاوزهما، لكنها اليوم تهييء للابتكار ، وفي كل ذلك تبحث عن المظلة الاجتماعية للعاملين وللشعب الصيني برمته . والترجمة العملية لذلك كله، هو اعتبار المخطط الخماسي الذي سيمتد إلى حدود 2015 هو مخطط التنمية العلمية. والعلم هنا أولا تسهيل التواجد الكبير للكفاءات والطاقات العلمية ذات المستوى العالي، ومعالجة المشاكل الخاصة بالعدالة وتوزيع الثروات . فالصين تقول السيدة تشاو لي ركزت على الكم وأن لها اليوم أن تركز على الجودة ، كما أنها تعي بأنها تأخرت في الانخراط في حماية البيئة ، حماية صحة المواطن واليوم تفكر في ذلك بجدية وعن طريق العلم. ولا يهمل المخطط القضية الثقافية بالرغم من أن الميزانية المخصصة لها هي 2 % من مجموع ميزانية الدولة، لكن تعي الصين بأن تشجيع الصناعة الثقافية عن طريق اشراك الفاعلين الاخرين من الخواص اصبح ضرورة، لا سيما وأن جزءا كبيرا منها يتحكم فيه السوق أكثر من الدولة ( الفن ، السينما الخ). لم يكن يعادل حرص فضول الوفد المغربي في البحث في العقل الصيني سوى فضوله في اكتشاف العاصمة بيكين ، التي كانت تتراءى لنا في لباسها الغربي بناء وألوانا، كما لو أنها تستعد لاستبقال شعب المسيح الطيب. جولتنا في المدينة ، فرادى أو جماعات كانت تمر عبر أزقة يبدو البناء فيها حامي الوطيس. معركة البناء لا تحد، في كل منعطف عمارة جديدة أو عمارة تصلح. خارج المدينة الممنوعة والساحة لم نصادف المعمار الصيني القديم، ولا شوارع افلام الكاراتيه والسيوف الطائرة بحكاياتها ورؤوس الابطال. العمارة غربية، هي العولمة تدخل من الاسمنت والهندسة، لكن الذي يجعلها صينية محظة هو ترتيب المكان أولا، وثانيا اللغة. اللغة هي روح العمارة، والاشارات تصنع هنا امبراطورية من العلامات،والخط روح، والخط الصيني حسب الاسطورة جاء من ليلة ساكرة لامبراطور واصدقائه من الندماء العلماء. كان نهر دائري مليء بالخمر يدور، وكل يغرف منه كأسه ويعيد الكوب الى النهر الدائري، وما تساقط من القطرات يصنع حرفا. هذه الاسطورة لم نجدها إلا في الدوخة. يبدو أن الصينيين القدامى داخوا كثيرا قبل اكتشاف احرفهم ( قرابة 9 آلاف اشارة) لكن العالم اليوم هو الذي يدوخ مع هذا الحرف ومع تركيبته وطريقة كتابته وصعوبة قراءته. وعندما تكتب عن الصين تكتب دائما وسط دوامة ، واللغة الغربية هي التي نرى انفسنا فيها بشكل اوضح. ما تعلمك اياه الصين خارج الزمن المبرمج والمتراص كصف من العمال في معمل لصناعة البيسكويت في يولين، هو أن تخرج إلى عالم آخر، كما لو أنك حي بين الاموات. بنفس الاحساس بأنك من شدة ما حلمت بالماء تسير دائما وانت غريق. عندما تخرج إلى الازقة تجد الغربة، لكنك لا تجد الخوف. أن تصاب بالوجل مثلا في باريز أو في لندن، عندما تفقد الطريق إلى غرفة النوم، فأنت تعوض ذلك بالسؤال وباللغة المفهومة حتى ولو كانت بدائية في لسانك، لكن أن تخرج إلى بيكين ليلا ، فأنت تخرج إلى حيث لا يمكن لأي لغة في العالم أن تسعفك، انت لا تخرج إلى الوجل، بل إلى الضياع في لغة ليس لك منها ولو شظية واحدة أو شدق واحد. هنا للغة كائن يحيط بك من كل جانب، ولكن لا تعلمه ولا تعرفه، إن هنا لحظة مادية وغير ملموسة، حسية ولا تصلها الحواس في الوقت نفسه. وأن تسوق في لغة الصين يمكنك بعده أن تفهم كل اشارات العالم .. لقد وجدنا بيكين غارقة في حب المسيح، بأحمر بابا نويل المخصب بالبياض. وفي بيكين ايضا كان لا بد من البحث عن الحرير..! آه الحرير في الصين ، كفراشات سحاب في قصيدة لدرويش أو لمسة من شفاه امرأة اغواها نزار قباني وادخلها إلى ربيع اللغة. ككل الوفود التي وجدناها في اسواق العاصمة، من استراليين وعرب وافارقة، كان البحث عن هدية الحرير الاولى والتقنيات الجديدة هو اهم ما يشغل الزائر. للصينيين طريقة رهيبة في البيع والشراء. يمكن أن يطرح عليك سلعة، هاتف أو قطعة قماش أو لعبة ب2500 يوان أو ما يعادل 2800 درهم، ويمكن أن تنالها في الاخير بما يعادل 250 يوان أو 300 درهم ( أنت وشطارتك). كانت نساء الوفد المغربيات أكثرنا حداقة وأيضا سفيراتنا لدى البائعات الصينيات والمفاوضات بامتياز، وكان بعضنا يختار الانزواء في محل ، لكي يفاوص لنفسه، وكان التبادل مع الصينية البائعة، لأنهن الاغلبية الساحقة في الاسواق والمتاجر، كما هن الاغلبية الساحقة في اعمال التنظيف البلدية والمحلات الجديدة، التبادل قلت، يتم عبر الآلة الحاسبة «الكالكولاتريس» هي الوسيط المتعارف عليه صينيا بين البائع الاجنبي والصيني، هو يضع مبلغا وانت تقترح آخر..ولكل امرء ما فاوض... كان علينا الاستعداد للتوجه إلى جهة أخرى، المرحلة الثانية في الرحلة الاستشكافية والتكوينية في الصين. أمامنا زيارة جهة غوانكسي، التي يعرف اهلها المغرب ، ربما اكثر من آخرين. وكان علينا أمران اثنان، أولا أن نحزم حقائبنا ونسلمها الى المرافق الطيب والمبستم الدائم فانغ لي، الذي سيودعنا في مطار بيكين يوم الخميس.وأن نبحث عن رئاسة ثانية للوفد بما يناسب التشكيلة السياسية والتناوب المغربي... ولو في الصين. وفي انتظار ذلك الدرس بعض الابيات الشعرية الخامة في جيب معطفي. صعب أن تفكر في القصيدة فيما تنزاح القارات من تحت قدميك صعب أن تاتي بألف بيت شعر وتنام في العراء! سور الصين العظيم ، يمتد الآن على مدى البصر. نحن الآن على ظهر عجيبة من عجائب الدنيا السبع. نحن نطفو فوق الصين العتيقة، مثل اعشاش طيور صغيرة. البرد قارس جدا، وكان المرافق قد اخبرنا بذلك، كان لا بد من الدوخة ان تدب امام انبهار الزائر. وكان لنا أن نتأمل هذه الخمسة الاف كلمتر التي تحمي الصين: سؤال يسقط في الدهن. كم من طبقة ماتت قبل أن ينتهي هذا البناء العظيم؟الانفاس تتقطع عند محاولة الصعود إلى نقطة قاصمة في منحى الصعود. الكل يلهث ، والبرد يزيد من ثقل الهواء في الصدر. تتخطفنا الأسلحة كالاطفال، اغلبنا ارتدى البذلات العسكرية القديمة ، بالسيوف والرماح .. ونعود الى الزمن القديم، لقد بني السور بشكل يسمح لكتيبات من الجنود وعشرات الآلاف منهم يمكنهم السير والتحرك فوقه. انه بعرض الطريق السيار، وبمعنى آخر، فقد بنوا ارضا مرتفعة بقرابة 7 امتار. بدأ بناء سور الصين على دفوعات، لكن منذ قديم العهد الصيني ، قبل المسيح بثلاثة مئة سنة إلى أن تم استكماله في القرن السابع عشر. وما زال قائما تلتقط صوره من اعلى نقطة ، يبدو واضحا كما نهر حجري، أو بالتفاتة إلى الراحل ادموند، مثل المجرى الثابت.