التي دشنت لأول تجربة اشتراكية في العالم دامت ما يفوق السبعين سنة، لازالت هذه التجربة تسائل المهتمين والباحثين والفاعلين السياسيين وبالخصوص أطياف اليسار، لأن بتحقيقها انتقلت النظرية الماركسية من أفقها النظري إلى الممارسة الواقعية التأسيسية، وتحولت من ممارسة ثورية لانتصار ثورة إلى سلطة ثورية منتصرة في سياق أوضاع سياسية واجتماعية اقتصادية وعسكرية وعالمية مختلفة، وأصبحت الماركسية هي مصدر المشروعية لهذه الثورة ومرجعتيها الفكرية والعلمية الأساسية. لا أريد أن أدخل في تفاصيل ما حققته هذه التجربة من منجزات هامة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سمحت للغالبية العظمى من شعوب بلدان ما كان يسمى بالمنظومة الاشتراكية بالولوج للاستفادة من التعليم والصحة والسكن والنقل والتثقيف، … ولا أريد الوقوف عما حققه الاتحاد السوفياتي من إنجاز عظيم في دحض وهزم النازية، وفي دعم حركات التحرر الوطني ومختلف حركات الطبقة العاملة في العالم. لقد كانت بالفعل ثورة ذات دلالة تاريخية إنسانية شاملة، غيرت موازين القوى في العالم حيث سمحت بظهور نموذج مجتمعي مناهض للنظام الرأسمالي العالمي أصبح يشكل مرجعا للطبقات العاملة ولحركات التحرر الوطني في البلاد النامية والمستعمرة… غير أنه، ونحن نستحضر اليوم فصلا من فصول الحركة الشيوعية التي انتسبنا إليها بأفق تغيير العالم في اتجاه تحرير البشرية من كل عبوديات الماضي وظلمها وظلامها، ما يهمنا اليوم، إذا أردنا أن نكون أمناء لأفكارنا ولمشروعنا المستقبلي هو أن نقف عند الأسباب التي أدت إلى انهيار تلك الحركة وإلى سقوط تجربتها في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي أي بعد مائة عام من ولادتها… فاستعادة أمجاد تلك الحركة من دون مراجعة نقدية هي أشبه ما تكون بالبكاء على الأطلال. لذا ارتأيت أن أدلو بدلوي عبر هذه المقالة لأعرض، انطلاقا مما اطلعت عليه من بحوث ودراسات ومما استخلصته من مواكبتي كمناضل لفترة وجيزة نسبيا لهذه التجربة، لبعض الأسباب التي أعتبر أنها كانت أساسية في انهيارها وفشلها قبل تقديم بعض الاستنتاجات والدروس متمنيا أن يسهم هذا العمل المتواضع في إذكاء النقاش وإلقاء الضوء على جوانب أخرى لهذه التجربة الرائدة. I – أسباب فشل وانهيار المنظومة الاشتراكية في تقديري، أعتبر أن هناك نوعين من الأسباب: أسباب مرتبطة بالنظرية الماركسية وبتأويلها؛ أسباب مرتبطة بالأجرأة السياسية وبالتفعيل العملي للمشروع الاشتراكي الأسباب المرتبطة بالنظرية الماركسية وبتأويلها أ – كما هو معلوم، وضعت الماركسية خريطة لتطور المجتمعات البشرية لم تعترف بأي احتمال لتراجع التشكيلات الاجتماعية من مرتبة أعلى إلى الوضع الأدنى، الشيء الذي دفع أغلبية حاملي هذا الفكر للاقتناع بأنه لا مجال لارتداد المجتمع الاشتراكي إلى الرأسمالية من جديد، متناسين أن الانتقال عبر المراحل الأربع هو انتقال بين مجتمعات تعترف جميعها بالملكية الفردية لوسائل الإنتاج ومن تم فالانتقال أيسر وأسهل. وقد أدى هذا الفهم بالطبع إلى طمأنينة زائفة إزاء الأخطاء التي تراكمت وتجاهلتها القيادات المتعاقبة معتقدة أن مسيرة التاريخ تسير قدما إلى الأمام ولا مجال للتراجع. ب – تجاوز لينين LENINE أفكار ماركس التي تقول بأن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية إنما يتم من أعلى مستوى في التقدم، أي أن العلاقات الاشتراكية كما حددها ماركس إنما ترتبط بالتطور العاصف لقوى الإنتاج وبتوفير عوامل ذاتية متعددة "لا تظهر أبدا علاقات إنتاج جديدة أرقى قبل أن تنضج شروط وجودها المادية في قلب المجتمع القديم بالذات". ت – مع تقديري للدور العبقري المبدع لقيادة لينين لهذه الثورة منذ مراحلها الأولى حتى قيام سلطتها، سواء في كتاباته النظرية أو سياساته وممارساته العملية، إلا أن ذلك لا يمنعني من التساؤل عن مدى الإضافة النظرية التي أضافها لينين إلى الماركسية بحيث يصح القول "بالماركسية – اللينينية" علما أن ماركس نفسه قال "أنا لست ماركسيا". وما أظن أن لينين جعل، في حياته، من منجزاته النظرية والعلمية، رغم أهميتها، إضافة نظرية كاملة إلى الماركسية. بل إن ستالين STALINE، سعيا منه إلى إضافة الشرعية على عمله، حَوَّلَ إسهام لينين إلى مرجعية أساسية للثورة وللحزب الشيوعي وللسلطة السوفياتية، بل أصبحت هي المرجعية الوحيدة للحركة الشيوعية في العالم أجمع. هكذا تم تجميد الماركسية وانتهت كعلم وكممارسة وكفلسفة وأصبحت أدبياتها تلقينية تبسيطية مطلقة الصحة واليقين. ج – إن المدرسة السوفياتية سارت على النهج الستاليني في فهم المادية التاريخية ولم تقف عند حدود خَطِيَةٍ للتاريخ تلغي حقيقته كإمكانية مفتوحة خاضعة لعوامل متشابكة متناقضة تجمع بين الجوانب الموضوعية والذاتية، بل اتخذت من هذه الرؤية الخطية للتاريخ سندا لتغليب الجانب الذاتي الإرادوي البيروقراطي العلوي تعجيلا، في ظنها، لحركة التغيير التاريخي ضاربة عرض الحائط مختلف العناصر الموضوعية والذاتية الأخرى. وبهذا تحولت النظرية إلى نسق مغلق مفروض بشكل علوي إرادوي على المجتمع وعلى بقية البلدان الاشتراكية. الأسباب المرتبطة بالأجرأة السياسية والتفعيل العملي للمشروع الاشتراكي أ – إن الهدف الأساسي الذي شغل لينين والحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي هو الوصول إلى السلطة. فقسَّم الحزب وقسَّم الأممية الثانية واستصغر من قوة التدخلات الأجنبية التي ساهمت في دفعه إلى صياغة موضوع ما سماه "شيوعية الحرب" communisme de guerre قبل أن يعي بالخطأ بعد اكتشافه أن الشروط التاريخية لم تكن مهيأة للانتقال إلى الاشتراكية كما كان يتصورها وينظر لها وكما كان يناضل بالسياسة وبالعمل الثوري للوصول إليها، فوضع "السياسة الاقتصادية الجديدة" NEP لتأمين هذه الشروط سعيا منه لهدم الهوة بين الطبيعة الثورية للسلطة الجديدة وبين الواقع الاجتماعي المتخلف لروسيا. ب – بعد وفا ة لينين، أفرغت المجالس المشاركاتية SOVIET من محتواها من طرف ستالين وتحولت من مجالس كآليات وإطار للتداول والمشاركة الواعية والحرة في إبداء الرأي وإسهام المواطنات والمواطنين في تدبير قضاياهم بالمصانع وبالشركات الفلاحية والإدارات والأماكن الأخرى للعمل والعيش، إلى أجهزة خاضعة للدولة وللحزب الحاكم. ت – تم تغليب الطابع الإرادوي البيروقراطي على السلطة السوفياتية.. بحيث لم تعد الطبقة العاملة في السلطة، ولم يعد الناس يصنعون تاريخهم، وأصبحت سياسات هذه السلطة، رغم ما تتضمنه من مساندة كبرى لبلدان المنظومة الاشتراكية ولبلدان العالم الثالث ولقضية السلام العالمي، تسعى لتحقيق ذاتها كدولة عظمى تشتغل لنشر نفوذها فضلا عن نهجها لسياسة خنق الحريات والاعتقالات والاغتيالات… وبهذا انفصلت عن الشعب. ث – فَبَدَلَ من أن يقَدّم تجربة إنسانية ديموقراطية، دخل الاتحاد السوفياتي في منافسة مع الرأسمالية الغربية الأمريكية، وانشغل عن قضية التنمية بتطوير صناعة الصواريخ والصناعة الحربية… وبالتالي لم ير العالم في تجربته العدل والإبداع والتقدم والحرية والديمقراطية الذي كان يمكن أن تقدمه التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي لشعوب العالم. ج – في تدبير الحزب، غابت الديموقراطية لصالح المركزية. وهذا ما استند إليه ستالين في ممارسته خلال قيادته الطويلة للحزب وللدولة وللحركة الشيوعية العالمية ومن جاؤوا بعده في الاتحاد السوفياتي وفي البلدان التي ارتبطت به واتخذت من نموذجه طريقا لتطورها، (باستثناء بعض المحاولات التي سعت للخروج عن هذا النهج وتم إفشالها). هذه بعض الأسباب الأساسية التي أدت إلى الزلزال والانهيار الذي أصاب التجربة الاشتراكية الأولى والتي لا يمكن لليسار واليسار الاشتراكي بالخصوص عدم العودة إليها لفهمها واستيعابها بغاية استخلاص بعض الدروس والعبر لعلها تفيد الشعوب في مسيرتهم نحو مستقبل أفضل تسود فيه الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. II – درووس وعبر بعد الانهيار والارتباك الكبير الذي دخلت فيه الحركة التقدمية والاشتراكية في العالم لم يكن من الممكن تفادي طرح تساؤلات لازلت راهنيتها قائمة من قبيل: هل ما تزال الماركسية، كما قال بها ماركس هي نفسها لم تتغير، وعلينا أن نرفع أعلامه وأعلامها من جديد؟ هل ما يزال للفكر الاشتراكي مستقبل بعد انهيار التجربة الاشتراكية؟ ألا تعَدُّ مقولة "الاشتراكية العلمية" والاكتفاء بها أكثر ملاءمة للتعبير عن الأوضاع الجديدة بدلا من الانتساب النظري إلى اسم ماركس دون إغفال عطائه كمصدر أساسي من مصادر الفكر الاشتراكي العلمي؟ تم أخيرا، ما السبيل للخروج من هذه الأزمة التي يعاينها اليسار واليسار الاشتراكي على الخصوص فكرا وواقعا؟ انطلاقا من الأسباب التي سبق ذكرها ومن هاته الأسئلة الحارقة، سأحاول بسط بعض الأفكار والدروس لما رافق هذه التجربة من تنظير قبل استخلاص بعض العبر من الممارسات التي طبعتها. استنتاجات ذات طابع نظري أ- إن الانتساب إلى اسم من الأسماء يحُدُّ، في تقديري، من إمكانية تطوير الفكر النظري، بل قد يثير نوعا من الإحساس بالاغتراب عن خصوصية الواقع الوطني لدى الناس والاكتفاء بنعت هذا الفكر بالاشتراكية العلمية كما سبق أن ذكرت. ب – فيما يتعلق بإضافة "اللينينية " إلى الماركسية، فقد يكون من الملائم الإشارة إلى منجزات لينين الفكرية والعلمية باعتبارها مصدرا من مصادر الاستلهام شأنها في ذلك شأن العديد من الخبرات الفكرية والنضالية في تاريخ البشرية عامة وذلك دون الالتزام بها التزاما نظريا كاملا. ت – الفكر الماركسي هو فكر تاريخي مثل أي فكر، علينا أن نتجنب التعميم الذي كان سائدا والقائل بأن الفكر الماركسي هو فكر ثابت الشيء الذي كاد أن يحوّله إلى فكر ديني؛ ث – عدم اعتبار الماركسية وحدها هي التي تشكل المرجعية الفكرية الوحيدة للفكر الاشتراكي رغم أنها ستظل هي الأساس، بل يجب أن تتغذى دوما بتجارب الشعوب وما أنتج الفكر الإنساني بأكمله وبصوره المختلفة مع الاستحضار الدائم بأن أهم ما في ثرات ماركس الذي يعطيه استمراريته هو منهجه المادي الجدلي في التحليل والاستشراف والاستنتاج. ج – إذا كانت الماركسية، في تقديري المتواضع، لا تزال تحمل من الإمكانيات النظرية والتوجهات المنهجية ما يجعلها مرجعية أساسية من مرجعيات الفكر الاشتراكي والنضال الاشتراكي، فلا بد لهذين الأخيرين أن يجددا مصادرهما من مرجعيات علمية وفكرية وموضوعية، مما استجد منذ ذلك التاريخ حتى اليوم من تطورات علمية وتكنولوجية وبخاصة ما يتحقق اليوم من ثورة كاملة في مجالي علوم الاتصال والمعلوماتية، فضلا عن الخبرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية السلبية والإيجابية، وخاصة خبرة انهيار النموذج السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وانهيار حركات التحرر الوطني، واحتدام الصراعات والحروب العرقية والدينية في العالم، والأزمات التي يعانيها النظام العالمي، ومحاولات الهيمنة على العالم إلى جانب بروز حركات اجتماعية جديدة في العالم كحركات "العولمة البديلة"، وحركات الدفاع عن البيئة، والجماعات المدنية، والمنظمات الدولية، والصورة العامة للعولمة بدلالتيها الإيجابية والسلبية، فضلا عن تطور مفهوم قوى الإنتاج نتيجة للثورة العلمية الجديدة ومفهوم القيمة وما يفرضه هذان المفهومان من تطوير ضروري لمفهوم الطبقة العاملة، فلم تعد الطبقة العاملة هي ذاتها في صورتها التقليدية بل أضيفت إليها قوى جديدة. وهكذا تتسع مرجعية الحركة الاشتراكية وتتعدد مصادر قوتها وفاعليتها على الحدود الماركسية القديمة وأن تكون امتداد إبداعيا لها. بعض الدروس والعِبَرُ المستخلصة من الممارسات السياسية والإجرائية اللصيقة بالتجربة قد تفيدنا التجربة أيضا بالوعي ببعض المستحيلات نذكر منها: أ – لا يمكن فرض "السعادة" على شعب من خارج إرادته ووعيه بالقسر؛ ب – لا يمكن ضمان الاستمرارية لأي نظام سياسي، مهما طال الزمن أو قصر، بدون إشراك المواطنات والمواطنين وممثليهم في صياغته وتنميته وانخراطهم الواعي والحر وبصفة دائمة، أثناء بلورته على أرض الواقع مع احترام تام لفردانيتهم (INDIVIDUALITE)؛ ت – عدم احترام "المرحلية" عند قيادة تغيير المجتمع وعدم الأخذ بعين الاعتبار الشروط الموضوعية والذاتية يؤدي حتما إلى المآزق والانحرافات؛ ث – أي محاولة تصدير ثورة منتصرة في بلد معين وتصدير إيديولوجيتها ونموذجها إلى البلدان الأخرى خارج إرادة شعوبها ووعيها بالقسر، تبوء بالفشل الدريع لأن هناك أكثر من طريق إلى الاشتراكية. خاتمة : إن الفعل الاشتراكي المرتبط بمشروع ماركس لا يستطيع أن يفقد مبرر وجوده واستمرار وجوده حتى بعد انهيار التجربة التي حملت اسمه، مادامت شروط تجاوز النظام الرأسمالي قائمة. فالمشكلة تتحدد في القوى التي حملت هذا الفكر وحاولت أن تدخله في مراحل تاريخية تمتد منذ صدور كتاب "البيان الشيوعي" حتى اليوم. لذلك فإن هؤلاء بالذات هم الذين يتحملون أساسا، إلى جانب عوامل موضوعية، مسؤولية فشل التجربة الاشتراكية الناتجة عن ثورة أكتوبر 1917 لأنهم تعاملوا مع أفكار ماركس كما لو أنها أفكار ثابتة غير قابلة للتغيير مثلما تعامل ويتعامل المنتمون للفكر الديني. إن ما تبقى من اليسار الشيوعي هو تجربته، وهذه التجربة قد تظفر بأفق جديد إن وَعَتْ أسباب صعودها وأسباب إخفاقاتها، وإن تحررت من الدوغمائية والتعصب متنقلة في المجالات جميعها من الواحد إلى المتعدد ومن اليقيني إلى المحتمل ومن المطلق إلى النسبي وعدم الاقتصار على التحليل والشرح، بل يجب عليه أن يلعب دور المبدع القادر على تقديم رؤية جديدة للعدالة الاجتماعية التي دافع عنها ماركس باسم الاشتراكية وتَمَلُّكِه لقضية البيئة التي لا يَقل النضال من أجلها أهمية عن النضال من أجل حق الإنسان في العمل وحق الإنسان في التوزيع العادل للثروة، لأن الرأسمال المتوحش الذي يستغل القوة المنتجة البشرية هو نفسه الذي يستغل الأرض والطبيعة كقوة منتجة. وهو حين يفعل لا يدمر فقط شروط الحياة الكريمة للإنسان بل يدمر حق الإنسان في الحياة. فبالرغم مما حدث من إخفاقات وإحباطات، ما تزال أعلام الاشتراكية، بمستويات مختلفة، مرفوعة في أكثر من بلد، وفي أكثر من حزب. وما يزال الصراع الطبقي محتدما، بل يزيد احتداما على مستوى كل بلد وعلى المستوى العالمي أجمع. الشيء الذي يؤكد أن الاشتراكية ما تزال تبرز كضرورة، وما تزال تتطلع إليها هذه الأوضاع التي تزداد ترديا في حياة شعوب العالم وخاصة شعوب البلدان المتخلفة.