في خضم الحراك الذي يشهده العالم اليوم، خصوصا موجة الربيع العربي التي تجتاح بلداننا، وفي سياق البحث الحثيث عن إجابات للإشكاليات التي تتخبط فيها بلدان المعمور، يأتي كتاب «كارل ماركس.. غير القابل للاختزال» الذي صدر عن منشورات «لوموند» الفرنسية، ليسلط الضوء على هذه الشخصية التي مازالت تشغل المهتمين إلى يومنا هذا، لتتوقف عند المحطات الشخصية والفكرية للرجل، عبر مساهمة مجموعة من الأقلام الفلسفية والسياسية، التي ستحاول شرح علاقة ماركس بالماركسية والتخطيط الاقتصادي، والإجابة عن سؤال جوهري: هل مازال تدخل ماركس حيويا وضروريا لحل مشاكلنا الراهنة في ظل المطبات التي سقطت فيها الرأسمالية؟ قبل انهيار جدار برلين، وفي سياق ثورة ماي عام 1968، احتدمت المزايدات والتكهنات بخصوص أطروحة النبوءة الفاسدة للماركسية و«موت ماركس»، «الذي لم تنتج منظومته سوى التوتاليتارية وكبح الحريات وحقوق الإنسان. جاءت العولمة، كنظام شمولي، لسكب الماء في طاحونة المناهضين لماركس والماركسية بحجة أن الشيوعية، بصفتها الطور الأعلى للاشتراكية، فشلت كمشروع اقتصادي واجتماعي وإنساني. غير أن عجلة التاريخ، بالنظر أو باعتبار الأزمة الليبرالية الراهنة وأزمة الحداثة، دارت اليوم في اتجاه استعادة ماركس وطرح أفكاره منهلا وأسلوبا في معالجة الأزمة. علاوة على الأبحاث والدراسات التي انصبت على هذا الموضوع، نمت في أكثر من مكان حلقات للنقاش من تنشيط فلاسفة أو علماء سياسيين. ومن بين أهم الأحداث في هذا المجال، المناظرة الفلسفية الدولية، التي عقدت بلندن عام 2009 حول «مفهوم الشيوعية»، والتي كان وراء تنظيمها الفيلسوف الفرنسي ألان باديوه والفيلسوف السلوفيني سلافوج شيزيك. وكانت هذه المناظرة حدثا ثقافيا وسياسيا بامتياز حيث جمع خيرة من المفكرين ورجالات السياسة. كان الهدف هو تخليص المفهوم من التفسيرات الليبرالية المغرضة والمحرفة، لكن الهدف الأسمى الذي ارتأى منظمو هذه المناظرة تحقيقه هو توفير استقلال فكري متحرر من تبعية الإجماع الغربي «الديمقراطي». ومن بين الأعلام الفكرية التي تم تجنيدها خلال هذه المناظرة، جاك-ليك نانسي، صديق المشوار الفلسفي لجاك دريدا، وجاك رانسيير، الفيلسوف الذي حافظ دائما على وفائه للفكرة القائلة بأن الشيوعية ستبقى أفقا ممكنا للبشرية. في هذا السياق، صدر عن منشورات «لوموند» عدد خاص بعنوان «كارل ماركس، غير القابل للاختزال». يتألف العدد من عدة أقسام: استعادة لأهم المحطات الشخصية والفكرية لكارل ماركس، مساهمة مجموعة من الأقلام الفلسفية والسياسية، حكاية مصورة عن صاحب الرأسمال، معجم بأهم المصطلحات الماركسية الرائجة في الخطاب الاقتصادي والسياسي والتي نحتها ماركس لأول مرة، ونبذة عن حيات ماركس ونتاجه. السؤال المحوري الذي يتكرر في طيات هذا العدد هو: ما الذي حدث لكي تعانق نصف البشرية النظام الشيوعي قبل أن تنزلق نحو الستالينية؟ في هذا العدد يعرض مجموعة من المفكرين، ليسوا بالضرورة ماركسيين، الذين سبق لهم أن احتكوا في لحظة ما بالماركسية، مواقفهم وتحليلاتهم من أمثال جان جوريس، رايمون أرون، جاك دريدا، كلود لوفور، كورنيليوس كاستورياديس، وبيار داردو. الملاحظ أنه منذ انهيار المعسكر السوفياتي، يسعى أكثر من طرف إلى مسح البعد المتمرد والعلمي لكارل ماركس، ويحمله البعض مسؤولية الفشل الدامي للشيوعية. لكن نسي هؤلاء أن ماركس لم يعلن يوما انتماءه للماركسية، كما أنه لم يهتم يوما بمسألة التخطيط الاقتصادي، وهي المآخذ التي يوجهها إليه خصومه. ضرورة إعادة قراءة ماركس يجب إعادة قراءة ماركس لفهم أسباب الأزمة ورهانات المستقبل. لكن يجب ألا نخلط بين ماركس صاحب كتاب «رأس المال» وبين دعاة الماركسية-اللينينية والستالينية. هل وجب المطابقة بين الفيلسوف الذي دعا إلى نقد ألينة الإنسان وبين المفكر الأيديولوجي للشيوعية. وفي مسألة نسبة ما لا ينسب إلى ماركس سبق لرايمون أرون أن أشار إلى أن ورثة ماركس هم الذين دفعوا بالماركسية نحو اتجاهات واستعمالات شيوعية، بل حتى ديكتاتورية البروليتاريا لم يغال ماركس في استعمالاتها. إذ بالنسبة إلى ماركس تدل على حكومة ثورية تستلهم روحها من كومونة باريس. كما يجب أن تكون مدة حكمها جد قصيرة. وفي النقاش الذي يتمحور حول هذا الموضوع ثمة من يدعو إلى تخليص وإنقاذ ماركس من الماركسيين، فيما يرى البعض الآخر بأن التوتاليتارية تدمغ الماركسية في أعماقها. الغريب أن أعنف الانتقادات جاءت من شيوعيين قدامى جربوا من الداخل النظام ووقفوا عند محدودية الماركسية في أكثر من قضية: حقوق الإنسان، الدعوة إلى ثورة عنيفة، التوجه الاقتصادي اللاإنساني الخ...أما رجالات السياسة من أمثال جان جوريس، الذين واجهوا البلشفيين والشيوعيين، فاعتبروا ماركس بأنه لا يعدو كونه يساريا راديكاليا. الماركسية هي إذن حكاية رجل اسمه ماركس، لكن الماركسية بدون فريدريك إنجلز لا تعني شيئا. يقربنا البورتريه الذي قدمه كريستيان لافال عن ماركس من مسار رجل كان مسكونا بنهم القراءة، شغوفا بالتقرب من الناس البسطاء، وبالأخص من العمال، ضحايا الرأسمالية الناشئة بوجه وحشي. كما يرسم خارطة المنفى والبؤس الذي عانى منه وهو يرتحل من بلد إلى آخر، بعد أن شمله الطرد: من ألمانيا إلى فرنسا ثم بلجيكا قبل أن يستقر بإنجلترا. ولولا المساعدة المادية لرفيق دربه إنجلز لكان مات من الفقر. بالموازاة، لم يتوقف ماركس عن التفكير والإنتاج الذي تحول إلى نبراس لملايين الأشخاص الذين وجدوا في فكره ضالتهم السياسية. السرد في قلب الأيديولوجيا والثقافة أما المقابلة التي أجراها دفيد زربيب مع فردريك جمسون، أستاذ الأدب بجامعة دوك بالولايات المتحدة، وأحد الماركسيين الأمريكيين القلائل، فسلطت الأضواء على «اللاوعي السياسي» في أشكال الثقافة الجماهيرية مثل الراب، الروك والسينما... ويعد جمسون أحد الوجوه الوازنة في المجال النقدي. اتكأ على أنثروبولوجية ليفي ستروس وعلى النظريات النقدية التي طورتها البنيوية لقراءة الأشكال الثقافية كمحصلة لزمنها. يرى جمسون بأن السرد والحكاية يبقيان من المكونات الرئيسية للعمليات الثقافية والأيديولوجية. في كتابه «اللاوعي السياسي» يفسر بأن الحكاية الأدبية لدى بلزاك أو جوزيف كونراد على سبيل المثال هي «وساطة» بين أشكال للتجربة الفردية والواقع الاجتماعي والتاريخي. لذا، فإن العمق السياسي والاجتماعي يبدو كما لو كان هو «مكبوت» الرواية. مع ماركس وضده في قسم «مناظرات» تضمن العدد مجموعة من المداخلات سلطت الضوء على حداثة نتاج ماركس ونجاعته في فهم واقعنا اليوم. ويشير فرانسوا هولاند إلى أن كتاب «بيان الحزب الشيوعي»، الصادر عام 1948 بتوقيع ماركس-إنجلز، «يبقى نصا نضاليا ودعوة للفكر والتأمل. وقلما وجدنا في تاريخ الإنسانية نصوصا أثرت مثل التأثير الذي خلفه البيان في مجرى الأحداث وعبر أكثر من قرن، في وعي وممارسة ملايين الأشخاص». أما الفيلسوف دانيال بنسعيد فيدعو إلى التفكير مع ماركس ضد ماركس، لكن دائما بمعيته. ويعتبر بنسعيد، من بين الفلاسفة ذوي المنحى التروتسكي الذين أعادوا تأويل نتاج ماركس. فيما يرى راوول فانيغيم، الكاتب البلجيكي والمتخصص في القرن الوسيط، على النقيض من دانيال بنسعيد بأن بيان الحزب الشيوعي يتضمن بذرة سلطة الكذب. وتحت عنوان «شيوعية أم اشتراكية» تطرق جان جوريس إلى استحواذ الشيوعيين على الحركة العمالية غداة ثورة 1917. كان استيلاؤهم على السلطة بهدف إقامة ديكتاتوريات. أما الاشتراكيون، فاقترحوا منذ مدة طويلة نهجا إصلاحيا، ديمقراطيا، اجتماعيا وجمهوريا. لذا اعتبر جوريس الشيوعية نظاما سياسيا يقوم على «الوهم» الثوري. أما في موضوع تناسي حقوق الإنسان، فيشير الفيلسوف كلود لوفور، أحد منشطي مجلة «الاشتراكية أم البربرية»، في مقال سبق نشره بمجلة «ليبر» عام 1980، وأعيد نشر مقتطفات منه في هذا العدد، إلى أن ماركس لم يكن قادرا على التفكير في حقوق الإنسان كما طرحتها ثورة 1789، ومن ثم عدم التفكير في الديمقراطية. ويرى في حركة التاريخ جدلية بغيضة تجرف الشعوب والأفراد رغما عنهم وتحولهم إلى قرابين للشيوعية. فالسياسة، مثلها مثل حقوق الإنسان، هي من منظور ماركس قطبان لنفس الوهم. أما رايمون أرون، الفيلسوف وعالم الاجتماع والمؤسس رفقة جان-بول سارتر لمجلة «الأزمنة الحديثة»، فيرى أن الرأسمالية تدين بالشيء الكثير لماركس. في بداية سنوات 1990، وغداة انهيار الشيوعية، تغلبت المنظومة الليبرالية، ورأى البعض أن حيوية اقتصاد السوق وإقامة دولة الحق هي برهان ساطع على «نهاية التاريخ». لكن كما فسر ذلك رايمون أرون، لم يدع ماركس يوما إلى التخطيط الاقتصادي ولم يتصور مجتمعا استبداديا. كان ذلك من ابتكار الشيوعيين. ويشير إلى أن هناك بالكاد علاقات بين الأنظمة التي تدعي انتماءها إلى الفكر الماركسي، لكن هذه العلاقات أكثر تعقيدا مما تبدو عليه للوهلة الأولى. في مؤلفه «أشباح ماركس» الصادر عام 1993، والذي اقتطف منه مقطع في هذا العدد، يشير الفيلسوف جاك دريدا إلى أن ثمة هوسا تمكن من البعض لما شرعوا في الحديث والدفاع عن أطروحة «موت ماركس»، «موت الشيوعية» بآمالها، خطابها، لكن الهدف يبقى هو الدفاع عن الرأسمالية، عن السوق، وعن النظام الليبرالي...غير أنه لما نحلل الحروب الاقتصادية ونقف عند منطق هذه التناقضات، يتبين لنا بأن التقليد الماركسي سيبقى مرجعا ضروريا مدة طويلة، يقول جاك دريدا. هل قرأنا ماركس؟ في قسم احتفاءات، نقرأ مقتطفات من كتاب بيار دادو وكريستيان لافال، المقرر صدوره الشهر القادم عن منشورات غاليمار. وفي كتاب «ماركس، الاسم الشخصي كارل» ثمة رغبة من طرف العديد من الأخصائيين في تهميش ونسيان ماركس. ويسعى أصحاب هذا التوجه إلى اعتبار ماركس المسؤول الأول عن جرائم الشيوعية.إذ يقيمون تمييزا واضحا بين ماركس الشاب «الإباحي»، وماركس العجوز، مؤلف «رأس المال»، الذي كان يترقب انهيار الرأسمالية. لكن الأخطر من ذلك هو ألا أحد يقبل على قراءة ماركس. يقترح المؤلفان رؤية وقراءة جديدة لماركس. يتعلق الأمر إذن بقراءة ماركس لعرض وتوضيح ما استعصي في فكره على الإدراك. وتحت عنوان «مفكر من القرن العشرين وليس من القرن الواحد والعشرين»، يشير ماكسيمليان روبيل إلى أنه في الوقت الذي ينظر البعض إلى ماركس كنبي البروليتاريا تقع على عاتقه مهمة تحرير البشرية، وفي الوقت الذي يعتبره البعض الآخر صاحب نظرية قادت إلى الأنظمة التوتاليتارية، يركز هذا المتخصص في الماركسولوجيا على أن ماركس حاول خلال حياته فهم استعباد الإنسان وفضح آليات هذا الاستعباد.
السلطة وصراع الطبقات اعتبر ميشال فوكو أن كارل ماركس يعتبر إلى جانب فرويد أحد الأعلام الرئيسيين الذين هم بمثابة أفق لا يمكن تجاوزه بسهولة. وقد ركز بحثه على مسألة السلطة بما هي صراع للطبقات. السلطة كرديف لعلاقات غير متكافئة ومتغيرة. وبالإمكان العثور على هذه الصراعات على أكثر من مستوى: في العلاقات العائلية، في علاقات الشغل الخ. كما يمكن أن نلمسها على مستوى المجتمع برمته. لذا فإن السلطة توجد في قلب المجابهة والمواجهة. وتقوم هذه السلطة طبعا على أساليب هي تارة السواعد وتارة أخرى الجيش أو السلاح. القول بأن البورجوازية تمتلك السلطة لأنها تملك السلاح هي أطروحة غير صائبة، يقول فوكو. دافع الاشتراكيون عن الفكرة القائلة: أنتم فقراء لأنهم يسرقونكم. أما ماركس فقد اكتشف الميكانيزمات التي تقف وراء ظاهرة الفقر. لما نقرأ ونعاين عن كثب التحاليل التي قام بها ماركس في مسألة 1848، في مسألة نابليون، في قضية الكومونة، وفي النصوص التاريخية أكثر منها في النصوص النظرية، نلاحظ أنه يضع تحاليل السلطة في قلب صراع الطبقات من دون أن يجعل من هذه الأخيرة منافسة من أجل السلطة. على ضوء الحراك الذي يشهده العالم اليوم، (حركة المستنكرين بكافة تلويناتها، موجات الربيع العربي الخ...)، وعلى خلفية الأزمة الاقتصادية، البيئية والسياسية، التي يعرفها النظام الليبرالي، يبدو تدخل ماركس، متخلصا من المذهبية الشيوعية، ومن التوتاليتارية، حيويا، بل ضروريا لتعزيز مطالبة الإنسان بحقه في العيش الكريم في أفق مستقبل أفضل.