صدق الشاعر حين قال: "والأذن تعشق قبل العين أحيانا"، و هذا هو تماما فحوى القصة التي عاشها أحد الشباب الذي هوى في حبال الهوى، وأي هوى؟، حب فتاة لم يعرف عنها شيئا، بدءا من شكلها انتهاءً بحقيقتها التي صدمته، وجعلته قاب قوسين أو أدنى من أن يدرك الطريقة التي يتصرّف بها ليخرج نفسه من براثين مأزق أو ورطة لم يحسب حسابها من قبل.بداية قصة صديقنا، كانت ذات مساء قام فيها بالاتّصال بصديقه الذي أخطأ رقمه، حيث ساقه القدر ليكون الرقم الذي اتّصل به رقم فتاة، هام بصوتها ونبرته؛ ناهيك عن إعجابه برقّتها، فكان للإتّصال على الرغم من قصر مدّته مفعول السحر على الساحر، ليجد الرجل نفسه بعدها متورّطا في حب هذه الفتاة، فعاود الاتّصال بها وأخبرها بحقيقة مشاعره، ليجد منها البشرى بأنها تبادله نفس الشعور، وبأنها الأخرى ذابت في نهر كلماته العذبة.توالت الأحداث بعد أول اتصال، حيث إن الفتاة والشاب أحسا بأنهما خلقا لبعضهما بعض، فتواعدا على الوفاء على الرغم من بعد المسافة، ليقطعا على نفسهما عهدا بعدها بالارتباط والزواج.كل هذا كان يحدث من دون أن يكون بين الحبيبين أي لقاء، وعلى الرغم من أن التكنولوجيا فتحت المجال للجميع كي يتعارفوا عبر مواقع التعارف الاجتماعي، وعلى الرغم من أنه كان باستطاعتهما على الأقل تبادل صورهما إلا أنهما أصرّا على إبقاء تفاصيل الحب العذري الذي جمعهما إلى غاية اليوم الذي يلتقيان فيه، تاركين المفاجآت تلعب دورها وتطلق بسحرها على العلاقة التي كانت ولا في الأحلام، إلا أن الفتاة طالما سألت حبيبها إن كان بمقدوره التخلّي عنها إن وجد بها ما لا يعجبه، فكان دائما يجيبها بأنه لا يهتم بالتفاصيل بقدر ماهو يهتم بالمضمون، مضمون قلب يحوي الحب والمشاعر والإخلاص.ومثلما كان محدّدا، فقد ضرب الحبيبان موعدا ليتمكن كليهما من التعرّف على شريكه، وتسطير نهاية لرحلة الألف ميل التي جمعتهما، وحتى يتمكّنا من الوصول إلى بعضهما بعض، طلب الشاب من فتاته أن تمنحه مواصفاتها، فكان له ما أراد، وراح يتهيّأ لليوم الموعود.كان في كامل أناقته، وكان كمن يسبق الريح ويرقص عكس عقارب الساعة حتى يراها؛ خاصة وأنها أخبرته بأنها سترتدي الوردي من أجله، ولحسن حظهما كان اليوم جميلا ومميّزا لكنه لم يكن بجمال حبّهما أبدا.وهاهي الساعة قد دقت تمام الثانية بعد الزوال، وها قد لمحها وسط الزحام وتعرّف إليها من هندامها؛ لكنها كان تتأبّط يد صديقتها تماما كما قالت له عندما تواعدا، وعلى وقع دقات قلبه، تفاجأ الفتى بفتاته وعلى الرغم من اقترابها منه بأنها تأبى ترك يد صديقتها، فدنا منها معرّفا بنفسه مادا يده لمصافحتها ومعانقة روحها، ليقف على ما جعله يصعق لما رآه.. الفتاة ضريرة، فهي بالكاد توجّه رأسها إلى الاتجاه الذي يأتيها منه صوته، وهاهي مدّت يدها المرتعشة نحوه باحثة عن يده، وهي تبتسم محاولة معرفة ردة فعل الحبيب الذي لم يجد غير الذهول تعبيرا عما اكتشفه، وعما لم يكن في الحسبان، لم يكن من الصعب عليها فهم ردّة فعل الشاب الذي بدا كمثل من يلعن الساعة التي سوّلت له نفسه في إعادة طلب رقم الفتاة التي وعلى ما يبدو لعبت على الوتر الحساس فيه، وتر المشاعر الكاذبة التي أوهمته بأنها تكنّها له، الدليل أنها جعلته يبني أحلامه على كذبة كان من شأنها أن تغيّر الكثير بالنسبة له.ولأن الصدمة كانت عنيفة بالنسبة له، ولأنه أحس بأن الفتاة التي بنى أحلامه على وهم حبها، أرادت توريطه فقط حتى تنال مأربها من عيش قصة رومانسية لم تكن لتخطر على بالها أبدا، لم يجد الشاب ما يفعله حيال الفتاة سوى الهروب منها مؤثرا على نفسه الفرار على البقاء أمامها ولو لحظة، بعد أن طعن بخنجر الخيانة.لم تكد الساعة تنته ليضطر الشاب إلى تغيير رقم هاتفه، مقسما على عدم الانسياق وراء عواطفه مرة ثانية، فليس العيب في أن يكون للواحد منا إعاقة أو عجزا خلقيا، لأن هذا الأمر بمشيئة الله عز وجل، لكن أن يتّخذ الواحد منا هذا العجز ليلعب به على العواطف هو ما لا يقبله العقل، كما وأنه ما من أحد يرضاه لغيره حتى يرضاه لنفسه.مثل حكاية هذا الشاب قد تتكرّر وإن لم يكن بنفس الشكل أو السياق، إلا أنه لا يختلف اثنان من أنها تترك بالغ الأثر في القلب والنفس، فالأمر يتعلّق بالمشاعر ولا يوجد للمحبّ ما هو أثمن وأغلى من المشاعر. كلمة لابدّ منها: من الضروري أن لا ينساق المحب وراء العواطف والأهواء، فليس هناك ما هو أسوأ على الحب من الكذب أو التحايل، فهذان الأخيران لا يمتّان للحب بصلة، كما أنه ما من طرف حاول استغلال حب وحنان الطرف الأخر استغلالا سيّئا، إلا ومات الحب في مهده وأفل بريقه إلى غير رجعة.لا ألوم هذه الفتاة على تصرّفها بقدر ما أنا أؤنبها على مثل هذا التحايل؛ حيث إنها لم تخبر الحبيب بعاهتها، مغتنمة فرصة البعد الذي بينهما من جهة، محاولة من جهة أخرى؛ أن تربح قلبه وكل مشاعره لتجعله يتغاضى عن حقيقة لا يمكن إخفاؤها عند لقائهما، خاصة بعد أن لمست منه إخلاصه لها ووعده لها بالوفاء والزواج.تصرّف هذه الفتاة لا ينمّ سوى عن أنانية منها، حيث إن نفسها سوّلت لها أن تبني أحلامها الوردية من دون أن تفكر في مشاعر الطرف الأخر، الذي وعلى الرغم من حبه لها إلا أنه لم يكن ليتصرّف على نحو لا يجرح به مشاعرها؛ حيث إنه أثر على نفسه أن يغيّر رقم هاتفه على أن يُبقي على أي نوع من الاتصال مع هذه الفتاة التي باتت كابوسا بعد أن كانت حلما جميلا.أخيرا وليس بآخر.....أكثر ما يجب للحب أن يبنى عليه، الشفافية والصراحة، فالكثير من المحبين يتغاضون عن عيوب الطرف الثاني بناءً على تجاذب الأرواح وتآلفها، وحسبهم في ذلك، أن الحب يعيش بعيدا عن كل هذه الفوارق والاختلافات، فرجاء ممن يبحثون عن النهايات السعيدة في علاقاتهم العاطفية أن لا يحيكوا تفاصيلها بالكذب وبأن لا ينسجوا فصولها بأساليب ليّ الذراع غير المجدية، فالحب أسمى بكثير من أن يلوّث بكل هذا.