ملخص يمثل الاتصال غير اللفظي جزءاً حيوياً من الاتصال الإنساني يعزز معناه ويثري دلالته. بل إن هذا النوع من الاتصال قد ينقل الرسالة كاملة, وينوب عن الرسالة اللفظية. وتحفل الدراسات الاتصالية بالحديث عن الاتصال غير اللفظي ودوره المحوري في العملية الاتصالية ودلالاته الحميمية ومراميه البلاغية وأبعاده الثقافية الغنية والواسعة. وقد عرف العرب الاتصال غير اللفظي منذ عهد الجاهلية, لأن ممارسة الاتصال بشقيه اللفظي وغير اللفظي كانت وما تزال طبيعة إنسانية بلورها الإنسان وطورها من خلال الوراثة والتدريب والتعلم والمحاكاة. ومنذ عرف الإنسان العربي الشعر جسد هذه المعاني الاتصالية في إنتاجه, فتحدث عن تعبيرات الوجه وحركات الجسد ونظرات العيون ولغة الصمت, وغيرها من أوجه الاتصال غير اللفظي. هذه الورقة تبحث في الاتصال غير اللفظي في الشعر العربي, مستهلة بمناقشة أنواع السلوك غير اللفظي في كتب الاتصال الحديثة, ومحاولة بعد ذلك تتبع شواهده في الشعر العربي, وتحديداً شقائق اللغة, والمظهر الخارجي, وتعبيرات الوجه, ونظرات العيون. تسلط الورقة الضوء على المعاني الاتصالية العميقة للغة غير اللفظية, في أهم مخزون أدبي وثقافي رصد تجارب العرب وأفكارهم, واستوعب آمالهم وآلامهم, مشيرة في نهاية المطاف إلى المكانة الكبيرة لهذا النوع من الاتصال في الثقافة العربية, وهو الأمر الذي لم يحظ بما يستحق من دراسة واهتمام. يمثل الاتصال غير اللفظي جزءاً حيوياً من الاتصال. كما أن ثراءه وغزارته وتنوعه يجبرنا على الاهتمام به ودراسته والنظر إليه بوصفه عالماً من المعلومات الضرورية لنجاح الاتصال وفهمه على نحو أفضل. عندما نقول إن فلاناً "كتاب مفتوح", أو أن وجهه ينطق بمكنون صدره, فنحن نعني أننا قادرون على قراءة مشاعره من دون الحاجة إلى سماع ما يقول. عندما نسمع أو نقرأ عبارات مثل: امتقع وجهه, أو نظر شزراً, أو تجهمت ملامحه, أو اغرورقت عيناها بالدموع, أو رمقته بنظرة شك, أو قدحت عيناه شرراً, أو أشرق وجهه بشراً, أو جحظت عيناه, أو تألق محياه ابتهاجاً, أو هز كتفيه استهجاناً, أو ابتسم ابتسامة صفراء, أو أومأ إليه بالإيجاب, أو أدار إليه ظهره وقلب له ظهر المجن, فنحن نتحدث عن أشكال عدة ومتنوعة من الاتصال غير اللفظي الغني بالدلالات والإيحاءات. لكن ما هو الاتصال غير اللفظي؟ إنه "الاتصال بلا كلمات"؛ اتصال شفهي ملفوظ (oral) أو غير شفهي (non – oral) يتم التعبير عنه بوسائل غير لغوية. هذا التعريف يستثني لغة الإشارة والكلمة المكتوبة, بيد أنه يتضمن الرسائل المنقولة صوتياً والخالية من اللغة. الاتصال غير اللفظي يتسم بالرحابة والتنوع, كما أنه غني بالرموز والدلالات, ويستحيل على المرء تفاديه والهروب منه, حتى لو أغلق على نفسه باب بيته, أو اعتزل الناس في ظهر جبل. هذه المحاولات تبوء بالفشل, لأنها نفسها توحي برسائل غير لفظية ناصعة البيان. وقد يتفوق الاتصال غير اللفظي على الاتصال اللفظي, لا سيما في حال التعبير عما تكنه النفس من مشاعر. قد تنطق العيون بحب صادق عميق تعجز الكلمات عن بيانه, وقد تفصح ملامح الوجه عن رعب أو اشمئزاز أو غضب أقوى ألف مرة من مجرد الكلام. إن أهمية الاتصال غير اللفظي في مجالات الفنون والرقص والمسرح والموسيقى والأفلام والتصوير أمر لا تخطئه العين. وهناك طقوس و شعائر دينية وأعياد واحتفالات تزخر بالرسائل غير اللفظية (الصلاة, مراسم الزواج, اجتماعات العزاء, تنصيب الزعماء), وهو ما يحتم علينا سبر غور هذا الاتصال ومعرفة أنماطه وطرائق الاستجابة له. يساعدنا الاتصال غير اللفظي على التعبير عن أهداف عديدة, كالمشاعر الحميمة, والمكانة والسلطة, والهوية والانتماء, وتضليل الآخرين عن غاياتنا وأفكارنا. يمثل جلوس الرجل في صدر المجلس عند العرب مثلاً دلالة على هيبته وعلو منزلته. كما يمثل لبس الرجل العباءة (البشت) في أوساط المجتمع السعودي إشارة غير لفظية مؤداها أنه "شخص مهم جدا". إن معرفة مهارات الاتصال غير اللفظي لا تمكن الباحث عن وظيفة من التألق والنجاح في المقابلة الشخصية فحسب, بل تسهم كثيراً في مساعدته على إتقان عمله, سواء كان هذا العمل في مجال العلاقات العامة أو الإعلان أو التسويق أو الإشراف أو خدمة العملاء. لكن الاتصال غير اللفظي غامض بطبيعته, ومفتوح لتفسيرات متعددة. لا يوجد تفسير واحد لكل الإيماءات والنظرات على مستوى الكون. قد تخضع الإشارات والحركات واللفتات للطبيعة الثقافية للمجتمع, ما يجعل الاتصال غير اللفظي وثيق الصلة بالخصوصية الثقافية, ومتأثراً بها. لذا لا يمكننا دراسة الاتصال غير اللفظي وفهمه بمعزل عن العوامل الثقافية المحلية التي تشكله وتؤثر فيه. في الحقيقة, ربما يتم تعليم الاتصال غير اللفظي والتدريب على مهاراته بوصف ذلك لغة أجنبية. وبانتفاء هذا التعلم والتدريب فإننا سنستجيب للاتصال غير اللفظي من خلال ثقافتنا نحن, ونقرأ سلوك الآخرين كما نقرأ سلوكنا, الأمر الذي يقود إلى التشويش وسوء الفهم. ولا يمكن فصل الاتصالين اللفظي وغير اللفظي عن بعضهما. إنهما يشتبكان ويشتركان معاً لإنتاج المعنى في أدق تجلياته وصوره. كلاهما يعمل جنباً إلى جنب بوصفهما جزءاً من العملية الاتصالية. هناك أنواع أو مظاهر متعددة للسلوك غير اللفظي, نجملها فيما يلي: - حركة الجسد (kinesics): وتشمل تعبيرات الوجه, ونظرات العيون, والإيماءات وأوضاع الجسد. يمثل الوجه مرآة لمشاعر الإنسان تعكس فرحه أو غضبه, رضاه أو سخطه, اهتمامه أو إعراضه, جبنه أو شجاعته, حبه أو كراهيته. ويحفل القرآن الكريم بنصوص ذات دلالة غير لفظية, كقوله تعالى "عبس وتولى, أن جاءه الأعمى" (عبس, 1, 2), "وجوه يومئذ مسفرة, ضاحكة مستبشرة, ووجوه يومئذ عليها غبرة, ترهقها قترة" (عبس, 38-41), "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم"(النحل, 58 , 59), "قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا", "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم" (محمد, 30). وفي الحديث: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". وتعد الابتسامة جزءاً مهماً من تعبيرات الوجه, وفي الحديث النبوي الشريف: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة" ما يؤكد الدلالة الاتصالية المؤثرة لهذا السلوك غير اللفظي. أما نظرات العيون, فهي أصدق تعبير غير لفظي على الإطلاق, نظراً لقدرة العين على تجسيد أكثر المشاعر تنوعاً ووضوحاً. يقول جل وعز: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا"(الكهف, 28), "أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" (الأحزاب, 19), "ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا" (هود, 31). ويدخل ضمن حركة الجسد الإيماءات أو حركة اليد والجزء العلوي من الجسم (gestures) والأوضاع أو الجلسات والوقفات (postures). هذه الإشارات تمثل جزءاً مهماً من الاتصال غير اللفظي, وتعزز إلى حد كبير الجزء اللفظي من الاتصال أو تفسره. جاء في الحديث: "إن الله لا يعذب بدمع العين، ولكن يعذب بهذا" وأشار إلى لسانه, و"فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وعقد تسعين, و"الفتنة من هنا", وأشار إلى المشرق, و"الإيمان هاهنا", وأشار إلى اليمن, و"التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره, و"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" وأشار بالسبابة والوسطى. ولنا أن نتخيل مثلا خطبة تلقى بلا استخدام فعال لليد وحركات الجسد المتضمنة الالتفات يمنة ويسرة, أو رفع الرأس أو إطراقه, أو الضرب بالقبضة على الطاولة, أو رفع الذراعين, أو وضعهما على الجنبين, والإشارة بالأصابع, والتلويح, ونحو ذلك ما يمكن المتلقي من تخيل المشهد والتأثر بأحداثه وتقمص أدوار شخوصه. - المظهر الخارجي physical appearance: نحن بشر نتأثر كثيراً بالمظاهر, يأسرنا الجمال وننفر من القبح. وحب الجمال أمر فطري, والله تعالى جميل يحب الجمال, كما ورد في الحديث. وربما يقبل المتلقي على رسالة قائم بالاتصال لأسباب منها وسامته أو أناقته أو جمال هندامه. من عناصر المظهر: الوزن والطول والشكل ولون الشعر ونوع الملابس ودرجة نظافتها وترتيبها. في كثير من الثقافات تعد الوسامة أو الجمال عنصراً من عناصر الجاذبية والقبول, وربما نظر الناس إلى ذوي الجمال والوسامة بوصفهم أكثر ذكاء وتأثيراً وإقناعاً من الأقل حظاً في الجمال والوسامة. - شقائق اللغة paralanguage: وتشمل المهارات الصوتية كطبقة الصوت, وسرعته وحجمه. طبقة الصوت (pitch) تشير إلى تردد ذبذبات الحبال الصوتية, أو بعبارة أخرى: موقع الصوت في السلم الموسيقي. ولكل فرد طبقة صوت عادية (habitual pitch) يتحدث بها أغلب الأوقات, وطبقة صوت قصوى (optimum pitch) يتحدث بها عندما يرفع صوته إلى أقصى درجات سلمه الصوتي. وتشير سرعة الصوت (rate) إلى سرعة نطق الكلمات. أما حجم الصوت (volume) فهو درجه ارتفاعه أو انخفاضه (loudness). ويدخل ضمن شقائق اللغة الوقفات الصوتية (النحنحة, آه.. آم) وهي التي تملأ الفراغات بين العبارات والكلمات. ويعد الصمت من شقائق اللغة, يحمل في طياته رسائل غير لفظية تفوق أحيانا في قوتها أبلغ الكلمات. وقد جاء في الخبر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". الزمن time: التبكير والتأخير والانضباط في الحضور أو التغيب عن المواعيد كلها سلوكات تكشف دلالات غير لفظية. دراسة استخدام الناس للوقت (chronemics) جزء مهم من الاتصال غير اللفظي. القدرة مثلا على حضور موعد ما في وقت متأخرمن دون خشية المساءلة يشير إلى المكانة العالية للمتأخر, وحضور الموعد قبل أوانه يشي بالاهتمام والحرص. وفي ثقافتنا الإسلامية يعد احترام الوعد وعدم إخلافه فضيلة أخلاقية محمودة. المسافة والمساحة space and territory: يتجلى الاتصال غير اللفظي أيضاً في استخدام الناس للمسافة والمساحة. المسافة التي يحتفظ بها المرء مع الآخرين, والطريقة التي يدافع بها عن أرضه, أو المساحة الخاصة به يطلق عليهما اسم (proxemics). المسافة التي تفصل شخصاً عن آخر أثناء المحادثة تفسر بوصفها شكلاً من الاتصال غير اللفظي. كل واحد منا يحتاج مساحة شخصية تحيط بجسده وتشعره بالراحة, وعندما يتم انتهاكها أو اقتحامها يشعر بالتوتر والتهديد, ويهب لحمايتها والذود عنها. هناك خمس عوامل على الأقل تؤثر في مقدار الحيز أو المساحة الشخصية للفرد: (1): الميل الشخصي, (2): طبيعة العلاقة بين المتحدثين, (3): طبيعة الموضوع محل النقاش, (4): الميراث الثقافي للمشاركين, (5): وطبيعة المحيط الاتصالي. إن الاتصال غير اللفظي عالم رحب من الرسائل والمعلومات, يحفل بدلالات ثرية وذات مغزى, وليس بوسعنا فهم الاتصال الإنساني وممارسته على نحو فعال ومؤثر من دون النفاذ إلى عمق هذا العالم واكتساب مهاراته. وقد عرفت كل الثقافات والحضارات هذا النوع من الاتصال, وجسدته في تراثها وأدبها وثقافتها الشعبية. وتحفل ثقافتنا العربية بمخزون كبير من شواهد الاتصال غير اللفظي. هذه الورقة تتحدث عن أمثلة هذا الاتصال في الشعر العربي, محاولة تسليط الضوء على علاقتها بمفاهيم الاتصال غير اللفظي كما تدرس في كتب الاتصال الحديثة. الاتصال غير اللفظي في الشعر العربي يحفل الشعر العربي بشواهد غير لفظية مثيرة للاهتمام, يمكن تصنيفها في أربع فئات: شقائق اللغة, المظهر الخارجي, تعبيرات الوجه, ونظرات العيون. وفيما يلي مناقشة لكل فئة على حدة. شقائق اللغة: يقول محمد بن أبي زرعة الدمشقي: لا يؤنسنَّك أن تراني ضاحكاً كم ضحكة فيها عبوسٌ كامنُ(1) قد يضحك المرء, والضحك من شقائق اللغة, ولكن ضحكه لا يدل بالضرورة على السرور, بل قد يحمل في طياته ألماً وضيقا. الاتصال غير اللفظي قد يكون مضللاً, كما تشير كتب الاتصال الحديثة, وقد لا يعكس حقيقة شعور الإنسان. ويشير المتنبي إلى المعنى ذاته بقوله: إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزة فلا تظنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتسمُ (2) ينبغي للإنسان إذن وهو يمارس الاتصال أن يقرأ الرسائل غير اللفظية بحذر. وكما أن الاتصال اللفظي معرَّض للخداع, فإن غير اللفظي يمكن أن يكون زائفاً وغير حقيقي, وهو ما يؤكده أبو الطيب في بيت آخر: وكن على حذر للناس تستره ولا يغرَّك منهم ثغرُ مبتسم(3) ولما أصبح الزيف ديدن الناس, وصار الخداع طبعاً لهم, لجأ أبو الطيب إلى مبادلتهم زيفاً بزيف, كما يقول: ولما صار ودُّ الناس خباً جزيتُ على ابتسام بابتسام(4) ويقول أيضاً: وجاهل مدَّه في جهله ضَحِكي حتى أتته يدٌ فرَّاسة وفمُ(5) هكذا غرَّ الضحكُ ذلك (الجاهل), فحسب أن الشاعر راض عنه أو سعيد به, بينما كان الضحك سبيلاً للفتك به والقضاء عليه. ويقول إلياس فرحات: ولا ترتجي الإخلاص من كل باسم ففي الياسمين المبغضُ المتحببُ ولو أن كل المظهرين لي الوفا وفيين لم يعجزك يا نفس مطلبُ(6) ويمتدح الفرزدق زين العابدين علي بن الحسين قائلاً: يغضي حياء ويُغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسمُ(7) الابتسامة هنا رسالة غير لفظية مؤداها الإذن بالمخاطبة, وهذا هو شأن القادة أو العظماء الذين ملكوا القلوب قبل العروش. ويدعو شوقي إلى عدم الاغترار(بابتسام) الدنيا, لأنها قد تخفي ما يثير الشجن ويهيج البكاء. يقول: يا نفسُ دنياكِ تخفي كلَّ مبكية وإن بدا لكِ منها حسنُ مُبْتسَم(8) ويتحدث إبراهيم طوقان عن موقف البطل المقاتل إذا حمي الوطيس واشتد الكرب قائلاً في مطلع قصيدة له: عبسَ الخطبُ فابتسمْ وطغى الهولُ فاقتحمْ(9) ويتحدث الشعراء أيضا عن الصمت, وهو من شقائق اللغة, وربما كان الصمت أبلغ من الكلام, وربما أوصل في ثناياه رسالة حب أو شوق أو احتجاج أو موافقة أو رفض. يقول طوقان متحدثاً عن المقاوم الفلسطيني: صامتٌ لو تكلما لفظ النارَ والدَّما قلْ لمن عابَ صمته خُلِق الحزمُ أبكما وأخو الحزم لم يزلْ يدُه تسبق الفما(10) وقال جورج جرداق متحدثا عن موقف عاطفي شاعري: سهرُ الشوق في العيون الجميلهْ حُلم آثر الهوى أن يطيله وحديثٌ في الحبِّ إن لم نقله أوشك الصمتُ حولنا أن يقولَه(11) وهكذا فإن العاشقين يفصحان عما يجول في قلبيهما من أحاسيس الشوق والهيام, لكن قد يعجز التعبير اللفظي أحياناً, أو يتوقف العاشقان عنه ويكتفيان بمتعة الجلوس معاً, وهنا تنطق لغة الصمت بما تعجز الكلمات عن بيانه. الصمت لغة تشي بموقف أو إحساس. وقد قال علي بن عبد الله المعروف بالناشىء: أوليتُه مني السكوتَ وربما كان السكوتُ عن الجواب جوابا (12) ويقول المتنبي: وفي النفس حاجات وفيك فطانة سكوتي بيان عندها وخطابُ(13) ويقول محي الدين أبو بكر بن عربي: هيَ بنتُ العراق بنتُ إمامي وأنا ضدُّها سليلُ يماني هل رأيتُم يا سادتي أو سمعتُم أن ضدَّين قطُّ يجتمعان لو ترانا برامة نتعاطى أكؤساً للهوى بغير بنان والهوى بيننا يسوقُ حديثاً طيباً مطرباً بغير لسان(14) ويقول أبو بكر الشبلي: ولقد تشكو فما أفهمها ولقد أشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها وهي أيضاً بالجوى تعرفني(15) وهكذا لا تغني اللغة اللفظية غناء المظهر. إنهما يتبادلان الشكوى لكنهما لا ينجحان في الاتصال, فتنطق العلامات الصامتة للمرض أو شدة الوجد والهيام بما يعتلج في صدريهما من مشاعر. وربما تحدثت الدموع (وهي من شقائق اللغة) ونابت عن اللسان في بيان المشاعر والأفكار. يقول العباس بن الحسن: لا جزى الله دمعَ عينيَ خيراً وجزى الله كلَّ خيرٍ لساني نَمَّ دمعي فليس يكتمُ شيئاً ورأيتُ اللسانَ ذا كتمان كنتُ مثل الكتاب أُخفيَ طيٌّ فاستدلوا عليه بالعُنوان(16) ويصف عنترة بن شداد حال حصانه أثناء المعركة, وكيف شكا معاناته إلى فارسه بطريقته: ما زلتُ أرميهم بثغرة نحره ولَبَانِه حتى تسربلَ بالدم فازورَّ من وقع القنا بلَبَانه وشكا إليَّ بعبرةٍ وتحمحم(17) المظهر الخارجي: سبقت الإشارة إلى أن للمظهر الخارجي دوراً أساسياً في الاتصال غير اللفظي, حيث يحمل دلالات ومعاني تُفسَّر بوصفها رسائل ذات دلالة. ربما تكون هذه الدلالات حقيقية أو زائفة. يقول محمد بن لنكك البصري: لا تخدعنْك اللحى ولا الصورُ تسعة أعشار من ترى بقرُ تراهمو كالسحاب منتشراً وليس فيه لطالب مطرُ في شجر السَّرو منهمو مثلٌ له رواءٌ وماله ثمرُ(18) ويقول هاشم الرفاعي: فاربأ بنفسك أن يغرَّك منهمو زيفُ المظاهرْ كم طاهر في ثوبه هو ليس في خُلق بطاهرْ فاحرصْ على كنز الوفاء فإنه في الناس نادرْ(19) إذن قد تشير الثياب والمظاهر الأخرى إلى زيف وخداع, ولذا يجب الوعي بأن الاتصال معرَّض للتبديل والتلوين, وأن قراءة ما بين السطور ومحاولة استشراف ما خلف الكواليس هو ما يجب على الجمهور أو قارىء النص الاتصالي أن يفعله. يقول أبو الطيب المتنبي مخاطباً سيف الدولة: أعيذها نظراتٍ منك صادقة أن تحسبَ الشحمَ فيمن شحمُه ورمُ(20) قد يخدع المظهر, فيبدو الشحم علامة عافية, بينما هو مجرد ورم وانتفاخ لا أكثر. ويقول: لا يعجبن مضيماً حسنُ بزته وهل يروقُ دفيناً جودةُ الكفن(21) ويقول الشريف الرضي: لا تجعلنَّ دليلَ المرء صورته كم مَخبر سَمِج عن منظر حسن(22) ويقول أبو دلف العِجْلي: لما تبسَّم بالمشيب مفارقي صدَّت صدودَ مُفارق متحمِّل فجعلتُ أطلبُ وصلها بتعطفٍ والشيبُ يغمزُها بألا تفعلي(23) وهكذا يتحدث الشيب بطريقته محاولاً إقناع المحبوبة بعدم الاستجابة لنداءات العاشق بالوصال والحب. تعبيرات الوجه: يحفل الشعر العربي بالكثير من حركات الجسد, لا سيما تعبيرات الوجه ونظرات العيون. يقول زهير بن أبي سلمى: متى تكُ في صديقٍ أو عدوٍ تخبِّرك الوجوه عن القلوب(24) ويقول سَلْم الخاسر: لا تسأل المرءَ عن خلائقه في وجهه شاهدٌ من الخبر(25) الوجه يخبرنا عن ميول الإنسان وسلوكه, ولو تأملنا التعبيرات الوجهية لرأينا حقيقة قوله تعالى (سيماهم في وجوههم). ربما نميز الكاذب من الصادق, والجاد من العابث, والمحب من الكاره من خلال تأمل الوجه وقراءة تعبيراته. قال الشاعر: وما كسب المحامدَ طالبوها بمثل البذل والوجه الطليق(26) لكن, مرة أخرى, قد تكون تعبيرات الوجه مضللة أو غير كافية للحكم على سلوك صاحبها. يقول أبو الطيب المتنبي: وما الحسنُ في وجه الفتى شرفاً له إذا لم يكنْ في فعله والخلائق(27) ويقول مادحاً سيف الدولة: وقفتَ وما في الموت شكٌّ لواقفٍ كأنكَ في جَفن الردى وهو نائمُ تمرُّ بك الأعداءُ كَلْمى هزيمة ووجهُك وضَّاحٌ وثغرُك باسمُ(28) إذن وجه سيف الدولة ينطق بالبشر في موقف رهيب, هو موقف يعظم فيه الكرب وتبلغ القلوب الحناجر, بل إنه يستقبل الموت مبتسماً, في الوقت الذي تشير فيه مظاهر الأعداء إلى الانكسار والألم. وفي المعنى ذاته يقول صريع الغواني مادحاً يزيد بن مزيد الشيباني: يغشى الوغى وشهابُ الموت في يده يرمي الفوارسَ والأبطالَ بالشُّعل يفترُّ عند افترار الحرب مبتسماً إذا تغيَّر وجهُ الفارس البطل(29) وبما أن الحب يعمي ويصم, وبما أن عين الرضا عن كل عيب كليلة, فإن المرء لايرى في حبيبه إلا ما يستهويه ويتصباه, ولا يقرأ في ملامح وجهه إلا المحاسن كلها, كما يقول أبو العلاء المعري: إذا شئتَ أن تلقى المحاسنَ كلَّها ففي وجه من تهوى جميعُ المحاسن(30) ويقول الشافعي: ومن البلية أن تحبَّ ولا يحبك من تحبُه ويصدَّ عنك بوجهه وتلحَّ أنتَ فلا تغبُّه(31) يحدث أن يقابل المرء في حياته من يتعمد الصد والإعراض عنه, وهو اتصال غير لفظي معناه عدم الرغبة في الاتصال اللفظي. يقول أحمد شوقي في هذا المعنى: أتراها تناست اسميَ لمَّا كثرتْ في غرامها الأسماءُ إن رأتني تميلُ عني كأن لم يكُ بيني وبينها أشياءُ(32) ويسوق المنخّل اليشكري حواراً دار بينه وبين حبيبته يحمل دلالات غير لفظية عما يفعل الحب بأصحابه: ولثمتُها فتنفستْ كتنفسِّ الظبي البهير ودنتْ فقالتْ: يا منخَّلُ ما بجسمك من حَرُور ما شفَّ جسمي غيرُ حبِّك فاهدئي عني وسيري(33) ويتحدث قيس بن ذريح عما يصنع الحب بالمحبوب من شحوب في الوجه, ونحول في اليد, واصفاً حاله مع لبنى في قصيدة يقول فيها: لقد ثبتتْ في القلب منك مودة كما ثبتتْ في الراحتين الأصابعُ وللحبِّ آياتٌ تَبَيَّنُ بالفتى شحوبٌ وتعرى من يديه الأشاجعُ(34) وبروي ديك الجن أثر الفراق والبين في أبيات تجسد صوراً غير لفظية: ودعتُها لفراق فاشتكتْ كبدي وشبَّكت يدَها من لوعةٍ بيدي وحاذرتْ أعينَ الواشين فانصرفتْ تعضُّ من غيظها العنَّابَ بالبَرَد جسَّ الطبيبُ يدي جهلاً فقلتُ له إن المحبة في قلبي فخلِّ يدي(35) وهكذا فإن اللوعة أجبرت المحبوبة على تشبيك يدها بيد حبيبها, وانصرفت وهي تعض شفتيها بأسنانها, وكل ذلك مشهد غير لفظي ينطق بالهيام والوجد. ويحدثنا علي محمود طه عن الشحوب والأرق وغيرهما من آثار الصبابة والغرام: قالت: أتمنعني الذي أحببتُه في نظرةٍ لك وادِّكار وفاء وبسخرياتك بي وبسمتك التي تلقى بها المفضوحَ من إغوائي وشحوبِ وجهك إن أرقتَ صبابة حيرانَ بين قطيعةٍ ولقاء(36) أما نزار قباني فيرى أن الكلام يقتل مشاعر الحب, وأن شواهد الحب الحقيقية تكمن في رعشة الأصابع والشفاه الحائرة أو الباحثة عن جواب, يقول: كلماتنا في الحبِّ تقتلُ حبَّنا إنَّ الحروفَ تموتُ حينَ تقالُ الحبُّ ليس رواية شرقية بختامها يتزوجُ الأبطالُ
هو أن تظلَّ على الأصابع رعشة وعلى الشفاهِ المطبقات سؤالُ(37) وللخدود لغة, فهي تتبسم وتضج فيها حمرة الحياة, ويؤكد بدوي الجبل أن (روعة الحنان) تتجلى في (الخدود), متسائلاً: من رأى روعة الحنان أطلتْ من عيون ولألأتْ في خدودِ(38) أما عبد الله البردوني, فيصف لقاءه مواطناً يمنياً في ديار الغربة على النحو التالي: عرفتُه يمنياً في تلفته خوفٌ وعيناه تاريخٌ من الرَّمدِ من خضرة القات في عينيه أسئلةٌ صُفرٌ تبوحُ كعُودٍ نصفِ متقدِ رأيتُ نخلَ المكلا في ملامحِه شمَّيتُ عَنْبَ الحشا في جيده الغَيَدِ(39) نظرات العيون: تكاد تكون نظرات العيون أصدق وسائل الاتصال غير اللفظي, وقد تفنن الشعراء العرب قديماً وحديثاً في شرح لغة العيون ودلالاتها من حب وشوق وحنين ورغبة ولوعة وسعي نحو لقاء أو موعد. يقول النابغة الذبياني: نظرتْ إليك بحاجة لم تقضها نظرَ السقيم إلى وجوه العوَّدِ(40) وتقول ليلى العامرية صاحبة قيس بن الملوح: كلانا مظهٌر للناس بغضاً وكلٌ عند صاحبه مكينُ تبلغنا العيونُ بما أردنا وفي القلبين ثمَّ هوى دفينُ وأسرارُ الملاحظ ليس تخفى إذا نطقتْ بما تخفي العيونُ(41) وتكاد تكون هذه الأبيات لشاعر غير معروف اختصاراً لعلاقة حب غير لفظية, بكل تفاصيلها وأدواتها: ولما تبدتْ للرحيل جمالنا وجدَّ بنا سيرٌ وفاضتْ مدامعُ أشارتْ بأطراف البنان وسلمتْ وأومتْ بعينيها متى أنتَ راجعُ فقلتُ لها والقلبُ فيه حرارة فديتكِ ما علمى بما الله صانعُ(42) شاعر آخر يتحدث عن دلالات اتصالية مشابهة بقوله: ولما التقينا والدموع سواجمٌ خرستُ، وطرفى عن هوايَ يترجمُ إشارتنا فى الحبِّ غمزُ عيوننا وكلُّ لبيب بالإشارة يفهمُ حواجبنا تقضي الحوائج بيننا ونحن سكوتٌ والهوى يتكلمُ (43) ويقول عمر بن أبي ربيعة: أشارتْ بطرف العين خيفة أهلها إشارة مذعور ولم تتكلم فأيقنتُ أن الطرفَ قد قال مرحباً وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم(44) شاعر آخر يؤكد أهمية إيصال رسائل غير لفظية بقوله: ما كان ضرَّك لو غمزتَ بحاجبٍ عند التفرق أو أشرتَ بإصبع(45) ويقول البحتري: ولَكَمْ مقلةٍ لذاتِ دلالٍ مقلتْني بالودِّ وهيَ غَرُوبُ(46) ويقول أيضاً: وفي عينيك ترجمة أراها تدلُّ على الضغائن والحُقود(47) ويقول: انظرْ إلى ناظرٍ قد شفه السَّهَدُ واعطفْ على مهجة أودى بها الكمدُ لا ذقتَ ما ذاقه من أنتَ مالكه ولا وجدتَ به مثلَ الذي يجدُ
فإن جحدتَ الذي قاساه بينهما فشاهداه عليه: الخدُّ والجسدُ(48 ) ويقول إبراهيم المهدي: إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددتُ عليها بالدموع البوادر فلم يعلم الواشون ما دار بيننا وقد قضيت حاجاتنا بالضمائر(49) وهكذا فالدموع تفضح سر الهوى, والعيون تكشف مكنون الضمير, وكذلك ملامح الوجه وحركات الجسد. ويتحدث أبو الطيب عن لغة العيون قائلاً: وربما قالت العيونُ وقدْ يصدقُ فيها ويكذبُ النظرُ(50) ولا يفوت الخليفة المأمون التغني بلغة العيون إذ يقول: ظبيٌ كتبتُ بطرفي من الضمير إليهِ قبَّلتُه من بعيدٍ فاعتلَّ من شفتيه وردَّ أخبثَ ردٍ بالكسر من حاجبيه فما برحتُ مكاني حتى قدرتُ عليه(51) ويقول علي بن الجهم في قصيدته الرائية الشهيرة: خليليَّ ما أحلى الهوى وأمرَّه وأعرفني بالحلو منه وبالمرِّ بما بيننا من حرمةٍ هل رأيتُما أرقَّ من الشكوى وأقسى من الهجرِ وأفضحَ من عينِ المحبِّ لسرِّه ولا سيما إنْ أطلقتْ عبرةً تجري(52) ويشدد ابن حمديس الصقلي على بلاغة لغة العيون بقوله: تناجيه فراسةُ ناظِريْه بما في مٌضْمَر القلبِ الكتوم(53) وبقوله: لله عينٌ منكِ مخبرةٌ عني بكل سريرةٍ عنكِ عجبي للفظ منك ذي نسكٍ هذا ولحظك حاضر الفتك(54) وبقوله: وقفنا نرامي بالهوى مقتلَ الهوى ونقرأ في الألحاظ وحيَ رسائلهْ(55) ويحدثنا الشريف الرضي في قصيدة شهيرة له عن سلطان لغة العيون قائلاً لحبيبته: وعدٌ لعينيك عندي ما وفيتِ به يا قربَ ما كذَبَتْ عينيَّ عيناك حكتْ لحاظك مافي الريم من مُلح يوم اللقاء فكان الفضلُ للحاكي كأن طرفك يوم الجِزْع يخبرُنا بما طوى عنك من أسماء قتلاك أنتِ النعيمُ لقلبي والعذابُ له فما أمرَّك في قلبي وأحلاك عندي رسائلُ شوق لستُ أذكرُها لولا الرقيبُ لقد بلغتُها فاك هامتْ بك العينُ لم تتبعْ سواك هوى من علَّم العينَ أن القلبَ يهواك(56) ويقول أبو الفتح مسعود بن محمد بن الليث: حبيبي زارني والليلُ داجٍ وفي عينيه تفتيرُ المُدامِ وقد نالَ الكرى من مقلتيه منالَ الحادثات من الكرامِ (57) ويشكو أبو الحسن الحصري القيرواني من جبروت لغة العيون في قصيدته ذائعة الصيت التي مطلعها "يا ليل الصب متى غده", فيقول: صاحٍ والخمرُ جنى فمه سكرانُ اللحظ معربدُهُ ينضو من مقلته سيفاً وكأنَّ نعاساً يُغمدُهُ فيريقُ دمَ العشاق به والويلُ لمن يتقلدهُ كلا لا ذنبَ لمنْ قتلتْ عيناه ولمْ تقتلْ يدُهُ يامنْ حجدتْ عيناه دمي وعلى خدَّيه توردُهُ خدَّاك قد اعترفا بدمي فعلامَ جفونُك تجحدُهُ(58) ويورد أحمد شوقي معاني مشابهة في قصيدته التي عارض بها قصيدة القيرواني فيقول: جحدتْ عيناك زكيَّ دمي أكذلك خدُّك يجحدُهُ قد عزَّ شهودُك إذ رمَتَا فأشرتُ لخدِّك أُشهدُهُ وهممتُ بجيدك أُشْركُهُ فأبى واستكبرَ أصيدُهُ(59) ويتحدث عن اللغة غير اللفظية في أبيات شهيرة له مبتدئا بلغة النظرات التي تقود إلى أنماط اتصالية أخرى. يقول: خدعوها بقولهم حسناءُ والغواني يغرُّهن الثناءُ أتراها تناست اسميَ لمَّا كثرت في غرامِها الأسماءُ إن رأتْني تميلُ عنِّي كأنْ لمْ تكُ بيني وبينها أشياءُ نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ جاذبتني ثوبي العصيَّ وقالتْ أنتمُ الناسُ أيها الشعراءُ اتقوا الله في قلوب العذارى فالعذارى قلوبُهنَّ هواءُ(60) ويتحدث شوقي عن تضاؤل لغة الكلام أمام عنفوان لغة العيون وسلطانها الذي لا يقاوم بقوله في مقطع شهير آخر: وتأوَّدتْ أعطافُ بانِك في يدي واحمرًّ من خَفريهما خدَّاكِ وتعطلتْ لغةُ الكلام وخاطبتْ عينيَّ في لغة الهوى عيناكِ(61) لكن شوقي يشير في موضع آخر إلى أن العينين قد تنجحان في إخفاء مكنون صاحبهما, فيقول: ومن عجب الأشياء أبكي وأشتكي وأنتَ تغنِّي في الغصون وتسجعُ لعلك تخفي الوجدَ أو تشتكي الجوى فقد تمسكُ العينان والقلبُ يدمعُ (62) ويروي لنا علي محمود طه حواراً جرى بينه وبين محبوبته يحتوي الكثير من أسرار لغة العيون: تسائلني وهل أحببتَ مثلي وكم معشوقة لك أو خليلةْ فقلتُ لها وقد همَّت بكأسي إلى شفتيَّ راحتُها النبيلةْ نسيتُ وما أرى أحببتُ يوماً كحبِّك لا ولمْ أعرفْ مثيله فقالتْ لي: جوابُك لم يدعْ لي إلى إظهار ما تخفيه حيلةْ وفي عينيكَ أسرارٌ حيارى تكذِّبُ ما تحاولُ أن تقوله(63) وعن فصاحة هذه اللغة يحدثنا عطفت شعبان: واللحظ يفصحُ صامتاً عن ودِّه ببلاغةٍ لا تعرفُ التأويلا كالسهم يخترقُ القلوبَ بلمحةٍ ويشقُّ في القلب الأصمِّ مَسيلا ويقولُ ما أوحى الهيامُ لشاعرٍ عشقَ العيونَ فأحسنَ التبجيلا(64) ويقول رياض المعلوف: كمْ في العيونِ من الشُّجونِ وفي الشِّفاهِ من المعاني(65) وعن اللغة نفسها يحدثنا الجواهري مشدداً على تفوقها على لغة الكلام: شفتان مُطبقتان سيدتي والخُبْرُ في العينين والخَبَرُ فاستشهدي النظراتِ جاحمةً حمراءَ لا تبقي ولا تذرُ ولرغبةٍ في النفس حائرةٍ مكبوتةٍ يتطايرُ الشَّررُ(66) وهكذا فإن المشاعر المكبوتة والرغبات الحائرة تفصح عنها عينان تومضان غضباً, أوتقدحان شررا. ومرة أخرى يقلل الجواهري من شأن تعبيرات الوجه في مقابل ما تجلوه العيون من مشاعر مكنونة وأسرار مدفونة, فيقول: لا تقيسي على ملامح وجهي وتقاطيعِه جميعَ شؤوني أنا لي في الحياة طبعٌ رقيقٌ يتنافى ولونَ وجهي الحزين قبلك اغترَّ معشرٌ قرؤوني من جبين مكللٍ بالغضون وفريق من وجنتين شحوبين وقد فاتتِ الجميعَ عيوني اقرئيني منها ففيها مطاوي النفس طراً وكلُّ سر دفين فيهما رغبة تفيضُ وإخلاصٌ وشكٌ مخامرٌ لليقين فيهما شهوةٌ تثورُ وعقلٌ خاذلي تارةً وطوراً مُعيني فيهما دافعُ الغريزة يُغريني وعدوى وراثةٍ تزويني(67) ويتغنى بدوي الجبل بلغة العيون في عدة مواضع من ديوانه, فيقول مثلاً: سرُّ السعادة في الدنيا وإنْ خفيت تجلوهُ منكِ على الأكوان عينان(68) ويقول: مرحى وفي عينيكِ من صور الهوى ما لا يعدُّ ومن رؤى الأحبابِ(69) ويقول أيضاً: تضحكُ عيناكِ وإن جدَّتا لا سحرَ في عينين لا تضحكانْ تنطقُ عيناكِ ولم تنطقي وقد تطيلان وقد توجزانْ ولم تضيقا بمعاني الهوى ألا تلومان ألا تعتبانْ(70) ويقول في قصيدة بعنوان "العذراء الخائنة": اليأسُ في أجفانها والمُنى والضِّحْكُ في ألحانها والحنينْ وخفة الأيام في ثغرها لكنْ بعينيها وقارُ السنينْ قد مزَّق الفجرُ ولم تثنِه شفاعة الحبِّ ونجوى الفُتُونْ غلالةً شفافةً عذبةً على لَمَاها من رؤى الحالمينْ لا تخدعيني إنني عالمٌ بما تُبينينَ وما تكتمينْ أرى على خدَّيكِ فيما أرى بألف لونٍ قبَلَ العاشقينْ تأبينَ إلا محو آياتِها وهنَّ يا ليلايَ لا يمَّحينْ(71) ويحدثنا السياب عن العيون ولغتها الساحرة بقوله: عيناكِ غابتا نخيل ساعة السَّحَرْ أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ عيناكِ حين تبسمان تورقُ الكرومْ وترقصُ الأضواءُ كالأقمار في نَهَرْ(72) ويقول: أحاسيسُ أخفاها الفؤادُ وصانَها زماناً ففاضتْ من عيون ومِقوَل(73) ويقول أيضاً: فأيُّ انسحاق وأيُّ انكسار يشعَّان من عينِه الضارعهْ(74) ويقول: غضُّ الإهاب تظلُّ تبرقُ عينُه سحراً تلوذ به القلوبُ وتحتمي وإذا العيونٌ لمَحْنَ فارعَ قدِّهِ ورشفْنَ حمرة قدِّه المتضرم أوحين للقلبِ الجليدِ بحبِّه فأطاعهنَّ إطاعة المستسلم(75) ويتحدث في قصيدة له عن مشهد حب حافل بالنظرات منشداً: ولما أن رأتْني بادرتْني بأنظارٍ لقيت بها العذابا وجاذبت الرفيقةُ ساعديْها فأذعنت انعطافاً وانجذابا أجالتْ طرفَها فرأتْ فراشاً ينيلُ الريحَ أجنحةً رطابا أتابعه بعينيَّ اشتياقاً وتلحظُه بعينيها ارتيابا فعادتْ وهي غاضبةٌ حسودٌ فديتُ بروحيَ الغيدَ الغضابا نظرتُ لها وقد بسطتْ يديها لقنص فراشةٍ فدنوتُ قابا تصيدين الفراشَ كفاكِ صيداً قلوبٌ بات أسلمُها مصابا سلي عينيكِ إن حاولتِ علماً أما دعتا فؤاديَ فاستجابا(76) وينقل إلينا الأخطل الصغير المعاني الشاعرية للغة العيون قائلاً: والهوى يوحي إلينا برسالات العيون(77) ويقول: يا عيوناً أوحتْ إلينا الغراما أجنوناً سقيتِنا أم مُداما (78) مضيفاً: قرأتُ عينيه حتى علمتُ ما ليس يعلمْ(79) ويؤكد عمر أبو ريشة الرسالة ذاتها بقوله: عدتُ من عالمٍ تألَّقَ في عينين فيَّاضتين بالأسرارِ فيهما يغرقُ الخيالُ وتنهارُ الأماني وتستحمُّ الدراري كثرت فيهما حكاياتُ نَعمائي وعزَّت وحارَ فيها اختياري(80) ويتغنى راشد حسين بعيني حبيبته التي ليست سوى مدينة القدس قائلاً: لونُ عينيك نخيلٌ لونُ عينيك دوالي لونُ عينيك كحبي القدسَ غال ألفُ غالي وجريحٌ لونُ عينيكِ كشِعري وجميلٌ مثل حبِّي وطويلٌ كاعتقالي لونُ عينيك صلاح الدين من دون رجالِ وعذابٌ لونُ عينيكِ لأشباه الرجالِ لون عينيك حصاد لونُ عينيك بيادرْ لونُ عينيك كفاحٌ وطني فيه مسافرْ وصبورٌ لونُ عينيك كأمٍّ وكريمٌ كسهولي وأبيٌّ كجبالي لونُ عينيك حَمامٌ ونسورٌ في نضالي (81) ويحدثنا نزار قباني عن رؤيته للغة العيون مغرداً: المسا شلالُ فيروز ثري وبعينيكِ ألوفُ الصور وأنا منتقلٌ بينهما ضوءُ عينيك وضوءُ القمر أنا عيناكِ, أنا كنتُهما قبل بدء البدء قبل الأعصر ما المصابيحُ التي تغلي على فتحتيْ عينيكِ إلا فِكري(82) ويقول: يسكنُ الشعرُ في حدائق عينيكِ فلولا عيناكِ لا شعرَ يكتبْ منذ أحببتُك البحارُ جميعاً أصبحتْ من مياه عينيكِ تشربْ(83) ويقرأ المزيد من حديث العيون قائلاً: رأيتُ بعينيكِ برهانَ ربي وشاهدتُ نورَ اليقين وشاهدتُ كلَّ الصحابة والمرسلينْ وشاهدتُ برقاً وشاهدتُ ناراً وشاهدتُ بالعينِ رائحة الياسمينْ(84) ويضيف: لا الشعرُ يرضي طموحاتي ولا الوترُ إني إليك بإسم الشعر أعتذرُ الحرفُ يبدأ من عينيكِ رحلتَه كلُّ اللغات بلا عينيكِ تندثرُ جزائرُ الكُحل في عينيكِ مدهشةٌ ماذا سأفعلُ لو نادانيَ السَّفرُ(85) ويقول كاتب هذه الورقة: يا مليكاً واثقَ الخطوة ما عدتَ تبادرْ يا رفيقاً لم يرَ الشكَّ بعينيَّ لماذا برقتْ عيناكَ ومضاتٍ غودارْ(86) ويقول: غادتي ترتمي على شاطىء الحبِّ وفي حضنه تنامُ وديعةْ تتشهَّى الهوى وترنو إليه بعيونٍ توَّاقة وولوعةْ غرها أنها مدللةُ القصر فتاهت بحظها الدلوعةْ وعدُها بالوصال محضُ هراءٍ وأحاديثُ شوقِها موضوعةْ لم تكنْ غير خُدعةٍ تتراءى نظراتٍ وبسمةً مصنوعةْ(87) ويقول أيضاً: بريقُ لماك اخضلالُ السُّهوب وطلتُك النجمةُ الهاديةْ وعيناكِ ولتسلما غابتان تموجان باللهفة الطاغيةْ(88) ويقول: خذي من عيوني عهودَ الوفاء يصدِّقُها ما يكنُّ الضميرْ(89) ويضيف: هبيني من السحر سحرَ الغرام وسحرَ الدلال وسحرَ الفتورْ وسحرَ الحكاياتِ تطوي الشجونَ كنبعٍ من الماء يشفي الصدورْ كنبعٍ من الماء لاحَ النهارُ وسلسالُه العذبُ جارٍ وفيرْ وسحرَ البراءة في ناظريكِ يموجُ كلون الرُّبى في البُكورْ وسحرَ اللطافة إذ تهمسين وسحرَ الدُّعابة بين السُّطورْ وسحرَ الرواءِ البهيِّ الأنيق وسحرَ العيونِ الشهيِّ المثيرْ تتوقُ إليكِ رؤى خاطري وشوقي يغذُّ إليكِ المسيرْ لعينيكِ يهتفُ: طابَ الهوى وما للهوى حلوتي من نظيرْ(90) وفي قصيدة لم تنشر يدعو الشاعر المحبوبة السائلة عن حبه لها إلى قراءة عينيه جيداً لتعرف الجواب: أوَ ما ترينَ قصائداً منشورةً مثلَ القلائدِ في سُدوف ظلامِ تبدو عيونُك لي فيسكبُ منطقي شهدَ الهوى من عبقرِ الإلهام أنتِ التي انتفضتْ كمرجٍ مُعشبٍ فغدتْ حياتي زهرةَ الأيام وغدتْ لياليَّ الطوالُ قصيرةً مَوْشيَّةً بخيالك البسَّام هيا اسألي هذي العيونَ فطالما أغنتْ عن التلميحِ والإبهام هذي العيونُ جَهيزةٌ وجُهيْنةٌ بلغتْ من الإفصاحِ كلَّ مرام وشواهد الاحتفال والتغني باتصال العيون في الشعر العربي لا تنتهي. لقد خلد الشعر العربي الاتصال غير اللفظي, لا سيما نظرات العيون, لأنها جزء لا ينفصم من الطبيعة الإنسانية, ولأن العرب بطبيعتهم أهل بيان وبلاغة, فلم يجدوا أفصح من لغة العيون وأقدر منها على الكشف عن المكنون وبيان المستور. خاتمة: حاولت هذه الورقة أن تؤكد مكانة الاتصال غير اللفظي في الشعر العربي, وما الشعر إلا ديوان العرب وسفرهم الذي حوى تفاصيل تاريخهم ورصد آمالهم وآلامهم وكفاحهم وصبرهم وصعودهم وأفولهم, وكان شاهدا على حضاراتهم ودولهم, ومعلما من معالم نهضتهم وثقافتهم عبر العصور. ووجود شواهد هذا النوع من الاتصال بهذه الكثافة في الشعر العربي يشي بأهميته ودلالته القوية عند العرب, ويضيف الكثير إلى التراث الاتصالي والخطابي الذي تزخر به الثقافة العربية, لكنه لم يحظ بما يكفي من دراسة وتمحيص.