لنفكر كذلك في الجسد من خلال علاقته بشبكة التواصل العنكبوتية التي لم يعد لحياتنا اليومية لانفكاك عنها، او نقول لنفكر في الجسد والصعر يفوض نموذج التواصل الإلكتروني المحكوم بمئات الأقمار الاصطناعية التي تلف الأرض بعيونها وتدور حولها مرسلة ملايير الإشارات والصور دفعة واحدة لكي تنتشر في الزمن نفسه علي سطح المعمورة. وستعمل من أجل ذلك ملايير الأجهزة التلفزيونية والهواتف النقالة والبريد الدولي. صحيح أننا أمام عالم معقد للاتصال والتواصل، لكن الصحيح أيضا هو أننا نجد أنفسنا أمام عالم للربط المباشر بنسق عالمي للرتاج والتروض من أجل استهلاك صورة واحدة أو أسلوب واحد لكي نعيش جسدنا. باختراق الانترنيت والهاتف المحمول لحياتنا يصبح السؤال ضروريا وملحا بصدد نوعية العلاقة التي أصبحت لنا بجسد «نا» أو بجسد الغير: لنتأمل كيف صارت الرغبة في الأمل مرتبطة بالبوكاديوس أو الهامبورجر، وكيف ان لا شيء يطفئ العطش سوى الكوكولا!! كما يمكن أن نلاحظ كيف انتشرت العلاقات التجارية نفسها بوصفها رمزا للانخراط في العصر لتسود مختلف الأصقاع من النايك الي لوي فيطان. إنها هيمنة العلامة التجارية علي الجسد وتحويله الي حامل للاستعراض، وكأن قيمة الجسد يحوزها من نوعية العلامات التجارية التي يحملها. هذه المظاهر تشير الى أن ثمة قوة تعلن عن مفعولها بهذه الأشياء الثقافية المعولمة. وتعتمد هذه القوة، من أجل تنفيذ ماهيتها منظومات وأنساق من أجل تحريض الإنسان وترويضه لكي يستجيب بدون السؤال كيف؟ أو لماذا؟ المهم هو أن يستجيب الجسد ويتطابق مع نداء العصر التقني وثقافته. وقد بلغت الاستجابة درجة عليا حيث بدأ الإنسان متخليا عن جسده، مسلما إياه لهيمنة هذه الثقافة. أما فيما يتعلق بالغير، نحن نلاحظ بزوغ نوع جديد للصداقة التي ارتبطت بالاستعمال المكثف للأنترنيت. وهي الحقيقة التي تدعو الى التساؤل بصدد هذا الاتصال، إلى أي حد أنه اتصال بالفعل؟ ما معنى أن نسمي الاتصال من دون حضور للجسد؟ هذه الصداقة القائمة على الاتصال الإلكتروني أصبحت ممكنة خارج حضور الجسد وخارج العقبات الاجتماعية. ونحن نعرف أنها أضحت ممكنة خارج حتى الأسماء الحقيقية، الشيء الذي يفسر تداول لفظة L ami - cyber في إطار هذا الشكل الجديد للصداقة المرتبطة بالدردشة، تعدو جميع الأشياء التي يعتبر الجسد حاملها منسحبة أو متوارية كالوجه وملامحه وجماليته واللون والعمر والنوع... إلخ. كل شيء تم اختزاله في إخبارات تتحقق عبر الملمس. في ظل هذه العلاقات التواصلية يصبح الجميع شبيها برواد الفضاء. حتى الجنس يضحي ممكنا مع غياب الجسد، فقط نجد أنفسنا أمام صور وخطاب. وهي الحقيقة التي تسمح كذلك بالحديث عن «الأيروس الإلكتروني». IV ـ لكن هل كل هذه الإشارات والأسئلة تجعلنا نفترض الانسياق وراء خطاب «نهاية الجسد»؟ فقط، نحن نريد توجيه التفكير صوب الجسد بوصفه مسألة إشكالية بنفس القدر الذي باتت فيه الدولة الوطنية والسيادة والديمقراطية مسائل إشكالية في ظل عصر العولمة. لنفكر في الجسد بجدية، لأنه شبيه بخشبة المسرح التي تعرض عليها لعبة الإنسان في الحياة منذ الطفولة على الأقل وعبر مراحل النمو الى أرذل لحظة من الزمان الذي يقضيه متأثراً بخربشات التنشئة الاجتماعية ـ الثقافية. الجسد إذن حامل لتجربة ولذاكرة ولتاريخ وشعور بالهوية. الجسد حامل لتراث، الجسد يتكلم لغات. الجسد حامل لكتابة ولرموز منها ما ينتمي إلى التربة الأصل (Terroirs) ومنها ما هو مصطنع، يتكلم لغة العولمة كالهاتف النقال وقارىء الأقراص المدمجة وآخر العلامات التجارية. بدون جسد ليس هناك حياة، لا نستطيع التكلم ولا المشي ولا الرقص ولا أي فعل إبداعي. الجسد بهذا المعنى المكثف ليس مجرد «عورة»، وإنما هو ثقافة ولغة وعالم وأشياء ثقافية تأتينا معها قناعات الشخص وأسس شخصيته وهويته الشعوري منها واللاشعوري. مع الجسد وأزيائه وألوانه والأسلوب الذي يؤثته به صاحبه نقرأ الذوق والمعايير والقيم والرؤية. ثم ما معنى الحديث عن «العين» و «اليد» باعتبارهما العضوين الجديرين بالاعتناء بحكم قيمتهما على مستوى الإبداع. ليس الجسد عبارة عن «جثة»، إنه كيان يفكر ويحس ويستجيب. بدون «اليد» و«العين» لاتكون الاماءة والاشارة والغمزة. الجسد طاقة للإغراء وحصول اللذة. في غياب الجسد كيف يمكن الحديث عن التقابل في أقوى دلالته الشعرية حين تمر الاشياء الأكثر حميمة عبر القبلة والتحاب والمصافحة؟ الجسد إذن ليس موضوعا للمزايدة التجارية. الجسد حامل لأسس شعرية آدمية الإنسان وإبداعيتها، إنه حامل لصورة حياة بكامل إقاعاتها. إذا فكرنا في الجسد من هذا المنظور وفي أبعاده الغنية المتعددة، كيف يلزم أن نفكر في السؤال التالي: كيف يمكن للمرء أن ينحث لنفسه أسلوبا يسكن به جسده في ظل عصر العولمة النازع إلى التوحيد والتشميل؟ ذلك أن العصر يوظف سلطة الإعلام بكثافة من أجل أن يكون الإنسان هو نفسه على مستوى الذوق والرغبة والاختيار وأسلوب العيش؟ لقد حول عصر العولمة الجسد الى قيمة للاستعمال والتشغيل، أو إلى بضاعة يتحكم فيها سوق التجارة العالمية. كل شيء بالنسبة لهذه السوق يقيم بسعر. وكل شيء تم مسخه: الابتسامة والرغبة والحاجة والذوق، حتى هذه الجوانب الرفيعة تم التعامل معها وكأنها قابلة لأن تصبح معيارا مقننا . لنتأمل ابتسامة الموظف السامي أو الشخص المكلف بالاستقبال: إننا نصادفهما بابتسامة تم تعلمها في معاهد التكوين المتخصص، وكأن الامر يتعلق بجسد معياري مقنن أو بنسخة جسد مجهولة الأصل. أضحى كل شيء مصطنعا في هذا العالم، الحاجة والرغبة والذوق، ويلعب الإعلام دورا فعالا من أجل تحقيق هذا الغرض. وتعتمد سلطة الإعلام في تسويق ذلك على مؤسسات الإشهار. وتتمثل خطورة هذه المؤسسات في قدرتها على صنع «النجوميةش على أساس استغلال الجسد وتسخيره كما هو الحال بالنسبة لنجوم ألعاب القوى أو كرة القدم أو التنس. النجومية صناعة وتجارة واستثمار محوره الجسد وجماليته. وبهذه التجارة يتحول الجسد وصاحبه إلى قيمة يتكلم عليهما الإعلام والصحافة بلغة الصفقات التي يتقنها مديرو الأعمال والمستشهرون. V- لنفكر إذن في مسألة الجسد بوصفها واجهة من واجهات أعمال الفكر من أجل فضح سياسة عصر العولمة وماهي بصدد فعله تجاه الجسد الآدمي ومعه مسألة الحرية والحق في نحت صورة يسكن بها كل واحد منا جسده باستقلالية عن كل أشكال السيطرة أو أشكال الوصاية والترويض والتوحيد الدامج.