تحل الذكرى الخامسة والثلاثون لوفاة الزعيم الأستاذ المجاهد العالم العامل علال الفاسي رحمه الله، وقد مر الاحتفال الوطني السنوي لذكراه يوم الأحد الأخير، وذلك تحت شعار (كفاح دائم: من أجل الديمقراطية _ العدل - التضامن) وهي أسس ثلاثة أنبنى عليها جهاده ونضاله منذ بدأ الوعي يدب في شرايينه مع الدم الذي به قوام الحياة، فكان هذا الوعي الوطني المتقدم صنو الدم في تلك الشرايين، ولذلك كان اقتران نهايتهما مترابطا ورغم توقف الدم في الشرايين فإن الوعي لم يتوقف قبل التعبير والنطق بكلمتين أساسيتين في حياة الرجل وجهاده ولم تكن الكلمتان سوى فلسطين والصحراء، والواو هنا على قاعدة النحاة فهي لا تفيد الترتيب، فلم تكن عند الرجل أولوية لقضية الصحراء على القضية الفلسطينية كما لم تكن لهذه الأخيرة أولوية على الأولى، فالرجل يومن بأرض الإسلام أرضا واحدة ويومن بمقدسات الإسلام على أساس أنها مقدسات لا تفاضل ولا تمايز بينها، فكلها أعضاء في جسم إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولذلك كان يناضل في واجهة عريضة كبرى اسمها واجهة أرض الحرية، حرية الإنسان في تقرير مصيره والعيش في أخوة ومساواة كما جاءت بذلك الرسالات السماوية وأخرها رسالة الإسلام المهيمنة على الكل كان رجلا يومن بروحانية كونية إسلامية ذات أبعاد إنسانية، شخصها في الديمقراطية والعدالة والتضامن فلذلك كلما حلت ذكراه حل لدى الناس الرجوع إلى نضاله الذي راكمه طيلة عقود، والى فكره المتجدد مع مر الأيام، حيث كلما عاد الإنسان إليه وجده في تناسق وتناغم مع الواقع الذي يعيشه الناس وكأنه يكتب من محبرة اليوم، وذلك لأنه لم يكن ينطلق من خيال مجنح ولا من أوهام طوباوية توحي بها لحظة تأمل أو شعاع فكر عابر، وانما من وحي واقع الإنسان الذي كشفت عنه آيات كتاب يتلى، وسنة تتبع وتاريخ ناصع من الانجاز الواعي لفعل حضاري منقطع النظير، وعديم المثال في الشورى والعدل والتضامن. لذلك فلا غروا ان يكون إحياء الذكرى تحت ذلك الشعار الذي يرمز لجهود كبرى استغرقت حياته كلها. وإذا كان الإخوة الذين تحدثوا في هذه المناسبة عالجوا بعمق أفكار الزعيم في هذه المجالات فإنني في هذا الحديث سأتحدث عن جانب آخر من نضاله لا يبتعد كثيرا عن هذا الشعار بل هو من صميم مضمون الشعار. لقد أشرت في بداية هذا الحديث إلى أنه رحمه الله لفظ أنفاسه ممزوجة بالصحراء وبفلسطين لذا فإنني هنا سأتحدث اليوم عن فلسطين من زاوية أخرى وليس من زاوية نضاله وجهاده مع الشعب الفلسطيني منذ العشرينيات من القرن الماضي إلى أن لقي ربه، ولكن بمناسبة زيارة البابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية لأرض فلسطين وللأردن. لقد اختار البابا زيارة الأردن وفلسطين في هذه الأيام وفي هذا الشهر بالذات شهر مايو ولاشك أن أهمية هذا الشهر وهذه الأيام منه لا يمكن أن يخفى مغزاها عن البابا وعن مستشاريه الذين يخططون له ويهيئون جدول أعماله، فهم ولاشك يدركون ويتذكرون أنه في 15 من هذا الشهر تحل الذكرى الواحدة والستين لاغتصاب أرض فلسطين، وتشريد أهلها في المخيمات التي يعانون فيها كل أنواع الظلم والفقر والحاجة، فهم يعيشون في ظروف أبعد ما تكون عن الظروف التي من المفروض أن يعيش فيها الإنسان المكرم من الديانات السماوية، وللغرب الذي يمثل «البابا» السلطة الروحية فيه دور كبير في زرع هذه الدولة الاستيطانية في أرض فلسطين وتشريد أهلها. ومن هنا ندرك أهمية هذه الزيارة لفلسطين باعتبار ما سيصدر عن الزائر من أقوال وتصريحات وما ستتضمنه هذه التصريحات والخطب من رسائل واضحة أو مشفرة، وإذا كان ما عبر عنه حتى الآن غير مشجع وفي غير اتجاه العدالة والتضامن مع المظلومين والمقهورين بين البشر وفي المقدمة الفلسطينيون. ولعله من نافلة الكلام الحديث عن أهمية نهر الأردن بضفتيه الغربية والشرقية للدين المسيحي باعتبارها من الأماكن التي درج عليها المسيح عليه السلام ومهد ولادته، وكذلك بالنسبة للأنبياء والرسل الذين ورد ذكرهم في العهد القديم أمر مفهوم ومغزاه واضحة وقديما اتخذت الكنيسة هذا مبررا اعتمدت عليه لإعلان الحروب الصليبية التي استمرت مائتي سنة وخلفتها الحروب الصليبية الحديثة والتي تحدث عنها القائدان الفرنسي (كَورو) والانجليزي (اللنبي) حيث اعتبر كل واحد منهما عقب الحرب العالمية الأولى انهم عادوا ولم يفتهم تذكير صلاح الدين بذلك، ولكنهم في الواقع يذكرون المسلمين بحقيقة هذه العودة التي لم يكن لدى الأحفاد من العقيدة والإيمان ما كان لدى صلاح الدين وجنده لطردهما من جديد وهذا الإيمان وتلك العزيمة هما اللذان عمل الفقيد علال وصحبه وجيله من العاملين الرواد في مختلف ارض الإسلام لبعثهما وإحيائهما من جديد بكل الوسائل لطرد الصليبيين الجدد وحماية ارض الإسلام من دنسهم وكفرهم وظلمهم وبطشهم بالمعتقدات وأهلها من المسلمين ومن تضامن معهم وكان بجانبهم في حماية الأرض والمقدسات من أهل الديانات السماوية الأخرى. وإذا كان الحبر الأكبر للكنيسة الكاثوليكية أثار في زيارته استغراب الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين وكيف جامل ولا أقول تواطأ من خلال تصرفاته وخطبه مع المحتل للأرض والمعتدي على المقدسات، فأشاد بالعدو وتألم لما أصابه على يد غير العرب والمسلمين من النازين الذين يتهمه الصهاينة بأنه كان من بين شبيبتهم فانه لم يكلف نفسه عناء كلمات معدودة للتضامن مع الفلسطينيين والمعذبين والمشردين منهم بواسطة الصهيونية الاستيطانية التي لا تزال تواصل ظلمها واحتلالها، لقد كان من المفروض والمنتظر منه ان يعبر عن موقف واضح من خلال المأساة التي عرفتها غزة في مفتتح هذه السنة والتي كانت محرقة حقيقية والتي لا تزال ماثلة أمام الناس ويرونها رأي العين، هذا شيء لم يثر انتباه «الحبر الأكبر» ولم يثر حميته نحو الإنسانية المعذبة في فلسطين، وقد نبهه إلى ذلك الفلسطينيون بمختلف الوسائل الممكنة كما أثار الكثيرون موقفه من الإسلام ومن الرسول وما عبر عنه في خطابه أو محاضرته المشهورة في إحدى الجامعات الألمانية في عام 2006. ولعل من المعالم المخزية والتي استنكرها العالم اجمع الجدار العازل الذي بناه الصهاينة ذلك الجدار الذي حاصر به الصهاينة الفلسطينيين وما يسمى بحق جدار العار الذي حكمت محكمة العدل الدولية بعدم شرعيته وطالبت هيأة الأممالمتحدة بإزالته ومع ذلك فإنه لم يزد على أن تأسف لبناء هذا الجدار مع لمز المقاومة بإرسال تصريحات موحية بأكثر من دلالة ومغزى. وليس هذا جديدا في موقف رؤساء الكنيسة الكاثوليكية بل هو أمر عادي وتاريخي في السكوت عن جرائم الاستعمار هذا السكوت الذي يبلغ في بعض الأحيان مستوى التعاون ومن هنا رأيت أن أنقل في هذا الصدد ما كتبه الزعيم علال الفاسي في كتابه: (حديث عن التبشير المسيحي..) حيث كتب يقول مخاطبا المستمع والقارئ: ... أحكي لكم قصتين وقعتا لي ونحن في أشد مواقفنا لتحرير بلادنا من الاستعمار الفرنسي. الأولى: توجهت باسم حزب الاستقلال وبصحبتي المرحوم المناضل عبد الرحمن انجاي الذي كان يعمل معي في طنجة وفي أثناء جولتي كاتبا خاصا ومعاونا منقطع النظير، أقول توجهنا للطواف في أمريكا الجنوبية للاتصال بالحكومات والشعوب لنشر دعوتنا وحمل المسؤولين على التصويت في صالحنا لدى المحافل الدولية، فكان يتبعنا دائما حيثما اتجهنا تارة يسبقنا وتارة يلحقنا الوزير الفرنسي بول رينو مبعوثا من قبل حكومته، كما يتبعنا قسيس لبناني مبعوث من طرف الكنيسة علمنا ان إرساله كان بطلب من فرنسا وباتفاق مع قداسة البابا، ومع ما قاما به من جهود ضدنا فقد انتصرت دعوتنا والحمد لله وحصبنا على تأييد إخواننا العرب هناك، وصوت معنا كل دول أمريكا الجنوبية التي زرناها كالبرازيل والأرجنتين والأورغواي والشيلي... الثانية: دخلت في سنة 1952 المستشفى الأمير فريال بالقاهرة لإجراء عملية جراحية لاستئصال أحجار من كليتي اليسرى، فوصلني وأنا في انتظار إجراء العملية خبر من المغرب يدل على أن الإدارة الفرنسية اعتقلت الشيخ عبد الواحد بن عبد الله من علماء الرباط لأنه دعا في دروسه إلى تقدير التضحية والاستبسال في سبيل المبدأ، مذكرا بأن الفرنسيين يعرفون هذا، ناهيك أن من بينهم السيدة جان دارك التي بذلت كل ما تستطيع في سبيل تحرير وطنها وقد أشاد بهذه السيدة كمثال يحتدى في سبيل مقاومة الاحتلال الأجنبي، فلم تستطع إدارة الحماية صبرا على هذا الكلام واعتقلته، فرأيت أن أكتب في ذلك رسالة البابا بيوس الثاني عشر منبها له إلى أن معاملة الحكام المسيحيين لرجل مسلم اظهر هذا النوع من التفتح الفكري ليس من شانه إلا أن يزيد في توسيع الشقة بين المسيحيين المقيمين في المغرب وبين المسلمين وان تسامح هذا الشيخ الذي لم ير إلا إبراز عموم الأخلاق الطيبة في كل ذوي الإيمان كان يجب أن يقابل على الأقل بالسكوت عنه وعدم اعتقاله. وزارني وقد حررت هذه الرسالة ليعودني صديقي المأسوف عليه الأستاذ لوبير ماسينيون المعروف بتدينه وإخلاصه لمسيحيته،وكونه من تلامذة شاتلييه ...، فعرضت ما كتبت عليه فأمعن في النظر وسألني: - اخبرني يا أستاذ علال، هل أنت مخلص في ما أبديته من رغبة التقارب بين المسلمين والمسيحيين على اعتبار أن القيم الأخلاقية هي مشتركة بين الإسلام والمسيحية. - قلت: نعم أيها السيد الجليل، ولو لم أكن مخلصا لما كتبت هذا وأنا في الوقت الذي ينتظر فيه المرشح لإجراء عملية مثل عمليتين مصيره مخلصا لربه راجيا لعفوه. - فقال لي ثق يا سيدي أن البابا لن يستجيب لك ولا لغيرك، لأنه يأخذ المال من الصهاينة. ولما رآني استغربت قوله، قال لي: لا تستغرب يا سيدي علال، فان ما يفعله البابا لا يجعلني أتنازل عن مسيحيتي، كما ان قولي هذا لا يخرجني من ديني الذي تعلم مقدار تمسكي به. ولقد صدق ماسينيون فان البابا لم يتكلف حتى عناء مشقة الإجابة عن رسالتي. ولقد بذل كثير من المثقفين الكاثوليكيين بفرنسا بقيادة ماسينيون والكاتب الشهير مورياك جهودا عن طريق النبيل موشابو وأسرته لإقناع البابا بالتدخل في صالح المغرب وصالح محمد الخامس رحمه الله، فلم يجد عملهم شيئا ويجب ان اعترف بان هؤلاء المثقفين كانوا قد أدركوا أن مصلحة البقاء الفرنسي والمسيحية في المغرب هي في فضح بعض الفظائع التي قام بها ولاة الحماية في أيامهم الأخيرة وهم في عملهم مخلصون لما كانوا يعملون له من تعايش سلمي طبعا في إطار الحماية حتى لا يتهدم ما بناه روادهم الأولون. ولكن المشرفين على الأمر في فرنسا كانوا على خلاف هذا الرأي، لأنهم يعملون بالمبدأ القائل (الكل أو لا شيء) ولقد صرح بيدو وهو وزير الخارجية، أثناء مقاومتنا المسلحة انه لا يمكنه التراجع عن احتلال المغرب لأنه يجب أن يعلم أن ما أخذه الصليب من الهلال لا يمكن أن يرجع إلى الهلال. وهكذا نجد التوافق التام بين الساسة الاستعماريين والمبشرين الصليبيين من أي مذهب كانوا، التوافق في المبدأ، والتوافق في الأساليب. في المبدأ التنصير قبل الحضارة وقبل الإدماج في الدولة المستعمرة. وفي الأساليب، تسخير كل الأعمال لفائدة الاستعمار والنصرانية: وذلك: -بالقضاء على اللغة العربية الفصيحة، وإحلال أية لهجة محلها قبل أن تصبح لغة المستعمر اللغة السائدة في البلاد المستعمرة. -وبالتعليم ذي البرنامج التمسيحي الصريح أو برنامج الهدم للعقيدة والأخلاق الإسلامية وبث التقديس للأمة الفاتحة وحضارتها وثقافتها. - وبالتشريع المدني القاضي على الشريعة الإسلامية وإحلال المحاكم الأجنبية أو المختلطة أو حتى المحاكم التي تحمل النسبة للمستعمرة صوريا محل القانون الإسلامي والمحاكم الإسلامية. - وبالتقاليد والعادات الأجنبية حسنة كانت أو قبيحة. - وباستعمال وسائل اللهو والمغنيين والمغنيات وكل ذوي الأخلاق الساقطة من أجانب وأهالي لإفساد الخلق القومي والقضاء على روح الأمة وكيانها. - وبإحداث الحروب المختلفة، باسم الطائفية والسلالية والقومية الضيقة. - وباسم الفكر الحر والاقتداء بكل ثورة هدامة ولو كان الدعاة إليها من غير المؤمنين بها. - وبالتحالف مع الصهيونية بعد خلقها وتشجيعها على فكرة المطالبة بالوطن القومي في فلسطين وبالهجرة الدائبة إليه. - وبالعمل باسم الدستور والحرية والديمقراطية على الانقلابات المحلية وإلغاء الخلافة العثمانية وبث المبادئ الماسونية المخربة في أرجائها الفسيحة لجعل الجمهور يتقبل ذلك الهدم باسم التحرر والإنقاذ. - وبأحداث العداوة والبغضاء بين العرب والعثمانيين وبين المسلمين ومواطنيهم في الهند. - وأخيرا تأجيج نيران الحروب الدولية وإلقاء الأهالي فيها باسم العمل على الوصول إلى الحرية الغربية التي تحتوي في نظر المستعمر على كل ذلك البرنامج اللعين. ولنا بعد قراءة هذا الكلام الواضح والصريح أن نضع أسئلة حول أنفسنا لنعرف موقع أقدامنا وأين نحن مما يجري حولنا، وهل تحررنا بالفعل من روح وأهداف هذا المخطط الكنسي الاستعماري رغم استقلال أكثرية البلاد الإسلامية؟ لعل الفرق الوحيد هو أننا أصبحنا ننفذ هذا المخطط بأيدينا وتحت مسميات الانفتاح والاندماج والعولمة وغير ذلك من العناوين والأسماء التي لا تقدم ولا تؤخر من واقع بقاء هيمنة لغة وفكر وقوانين الاستعمار في البلاد الإسلامية.