أريد في هذا الموضوع أن أشير إلى افتقاد العالم الإسلامي إلى مسألة هامة ميزت تاريخه ولقرون طويلة. لكنها ما فتئت تحت وطأة تغيرات العصر تنكفي وتغيب وتتراجع لصالح معطيات تاريخية جديدة تختلف عن التي كانت بالأمس. سأتحدث هنا عن مسألة "الانسياب الثقافي" التي كان يعرفها العالم الإسلامي أيام مجده وعظمته، تلك المسألة التي غابت اليوم لعدة أسباب. وقبل ذكر الأسباب فلنشرح قصدنا بالانسياب الثقافي؟ الانسياب الثقافي هو ذلك الحبل المتين الذي كان يشد العالم الإسلامي بعضه إلى بعض زمن الخلافة، وزمن الحوار والمناظرة المستمرة، وزمن كان لا حدود تمنع العربي والمسلم أينما حل وارتحل، حيث يحس بنفسه ابن الدار مادام لم يخرج عن"دار الإسلام" إلى"دار الكفر". حيث كان المسلم يعتبر العالم الإسلامي كله وطنا له، فحيث يخيم ظل الخلافة، ودين الإسلام، يحلو له المكوث والمقام والتدريس والزواج والعيش... لا توجد راية وطنية، ولا حدود داخلية، أو جوازات سفر... هذا الوضع المريح والحضاري تغير بعد سنوات 1889، 1830، 1881، 1912... حيث بدأت بلقنة العالم الإسلامي ليس جغرافيا بل حضاريا وثقافيا وسياسيا... و بدأ ذلك التقارب المذهبي والثقافي والسياسي يغيب، وكف الانسياب الثقافي عن أن يلعب دوره كما كان في السابق دوره في التوحيد والتقارب في الأفكار والتوجهات العامة إزاء القضايا الكبرى المطروحة على الأمة الإسلامية، وحرم الأمة الواحدة المترامية الأطراف من التشاور والتعاون والتفكير بصوت عال وجماعي. إنه ورغم امتداد الإسلام في مناطق مختلفة من حيث؛ اللغة، الجنس، الجغرافيا، التقاليد، الثقافة، الدين، الحضارة... فهذا التنوع لم يكن يفسد للود قضية، بل تطلب ذلك التوسع في الأحكام، وهذا الاختلاف في الأحكام بين الفقهاء والعلماء والمناطق المختلفة للعالم الإسلامي آنذاك كان صحيا؛ بل إن فقهاء تلك المرحلة المشرقة كانوا يقولون "اختلف العلماء أي توسعوا"... اختلاف صحي وبناء وكان يراد منه خير، وليس ما آل إليه من إسلام سياسيوانغلاق على الذات وقومية فارغة وتعصب ديني لا مبرر له. وحتى تلك المناظرات والمناقشات الثرية بين المذاهب والفرق، توقفت، وحل محلها دين ومذاهب رسمية راكدة، غير قابلة للتجديد أو المناقشة. لقد نجح الاستعمار في خلق دويلات قطرية جغرافيا متناحرة سياسيا، متقاتلة حدوديا، بل الموظفة للدين إيديولوجيا في صراعاتها وتوجهاتها الدنيوية الضيقة، والمتباعدة فكريا بالنتيجة شيئا فشيئا في ظل هذا الوضع الموبوء والمشحون. إن هذه البلقنة الجغرافية سرعان ما تلاها أسوار فكرية وإيديولوجية ودينية متطرفة ومتعنتة، والتي ساعدت على تشتيت تماسك الأمة الإسلامية، الأمر الذي جعلها تعيش واقعا لا تحسد عليه، يجعل موقعها وموقفها ضعيفا ومهلهلا في خضم عالم تتزايد فيه الكيانات الموحدة اقتصاديا أو على الأقل إيديولوجيا وفكريا، كدول أمريكا اللاتينية، أو النمور الآسيوية، ناهيك عن الاتحاد الأوربي... فحين تدخلت السياسة الدنيوية وتم تطويعها للدين لصالح الدولة ولصالح السلطان والحاكم، تم التعصب للمذهب سلبا، وازدادت الفرقة؛ حتى أنك يمكن أن تستنتج مدى الواقع المحزن الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم من خلال مهزلة "عيد الأضحى" حيث يصبح يوم العيد عند كل دولة سببا للتميز والخروج عن الإجماع بل الخروج عن الشرع أحيانا. وما خرجات "القذافي" الشهيرة في الموضوع إلا دليل قاطع على ما آل إليه واقع الأمة الإسلامية من صراع فارغ وبليد وخلاف تافه بدل الاختلاف البناء الذي انقطع مع الأسف ومنذ زمن بعيد. لم يستطع كل العالم الإسلامي حل مشكل بسيط فكيف لهم بمعالجة قضايا كبرى كمشكلة فلسطين أو إمكانية التوحد في القرارات فبالأحرى التوحد في الكيانات! ويمكن الاستشهاد بمثال آخر؛ والمتمثل بالفرقة التي ما فتئت تزداد أيضا لأسباب سياسية محضة لا يستفيد منها طبعا إلى الآخر الغربي المختلف عنا دينا وحضارة ومصالحا. أقصد هنا الصراع السني الشيعي، الذي بدأ اختلافا مذهبيا أي "توسعا" في أمور الدين وفي فروعه وليس في أصوله كما أشرنا أعلاه، لينقلب اليوم إلى خلاف جوهري هدام لا يستفيد منه إلا من يوجد خارج دار الإسلام. إن الاستعمار جعل الدول الإسلامية تعيش في جزر، بعد أن كانت تعيش في ظل جسد واحد. والدول الإسلامية بحدودها السياسية، وقطريتها الضيقة، حرمت العالم الإسلامي من عنصر توازن والتحام له دور خطير ومهم للغاية هو خاصية "الانسياب الثقافي". حيث كان الانسياب الثقافي يوفر عناصر التطوير والإبداع، والتغيير، والتوازن والتقارب الفكري، ومنع التطرف، وتوحيد الرؤى وتمتين الهوية... فما أحوجنا اليوم إلى التركي والإيراني والباكستاني والنيجيري والتشادي والبوسني، والإندونيسي... لتتقارب المسافات الفكرية، وتتوحد الصفوف المجابهة للعدو المتربص، ولحماية هويتنا الحضارية والدينية، والتقوي بهذه العائلة الكبيرة التي إذا مرض فيها عضو تداعت له كل أطراف الجسد. فمن منا ينكر صولات رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أوردوغان" (Recep Tayyip Erdoğan)، الأخيرة من أجل نصرة غزة و فلسطينالمحتلة وموقفه العظيم في المؤتمر الاقتصادي بدافوس. ومن يستطيع إنكار مدى الانتفاضات العارمة والصاخبة والمليونية التي يقوم بها الشعب الماليزي أو الإندونيسي من أجل نصرة قضايا الإسلام ضد الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للحبيب المصطفى وضد الاحتلال الإسرائيلي، ومن ينكر إحساسه بالفخر والتسامي جراء تصريحات أحد القادة الشيعة بأنهم سيمحون إسرائيل من الخريطة إن هي كذا أو كذا. ومن يستطيع نفي القيمة الرمزية و المعنوية للاعبين المسلمين من مختلف الجنسيات في البطولات الأوربية و الذين يعتبرون سفراء ونموذجا جميلا للإسلام والمسلمين من خلال أخلاقهم و أدائهم ومواقفهم و سلوكهم... هاته الأمثلة القليلة عرضتها فقط لأوضح أن العرق أو الوطن أو الحدود السياسية لا تعني شيئا في الدين الإسلامي، بل ولا ينبغي لها أن تكون عائقا في وحدتنا على الأقل في الأهداف و الغايات... إن ما يجمعنا هو الإسلام وعلى القنوات التي توحدنا آن تبقى مفتوحة لأنها إذا أقفلت هلك الإنسان المسلم وضاعت حقوقه وديست كرامته، واختنق كما تختنق السمكة المخرجة من ماءها... وإذا كان الانسياب الثقافي توقف جغرافيا وحضاريا وثقافيا بطريقته القديمة، فإنه يستمر اليوم بصيغ أخرى، حيث يستمر معلوماتيا وعلميا عبر وسائل ووسائط الاتصال العابرة للحدود والقارات، لكنه في الواقع لا شيء يعوض التواصل الحقيقي وعلى أرض الواقع كما كان يتم في السابق زمن الانفتاح الجغرافي والبشري والسياسي والثقافي والديني... والتي كانت الرحلات الاستكشافية والحجية والعلمية... إحدى ركائزه والتي يتم فيها الكثير من التلاقح والتواصل العلمي والروحي والبشري والديني... إلى ذلك الانفتاح المنشود، مزيدا من التلاحم والانسياب الثقافي بين الأمم الإسلامية، وكل عام والمسلمون بألف قوة وعافية...